العدد 5110 - الجمعة 02 سبتمبر 2016م الموافق 30 ذي القعدة 1437هـ

اليسار العربي بعد ربع قرن من «الانهيار»

رضي السماك

كاتب بحريني

خلصنا في خاتمة مقالنا السابق تحت عنوان «الرجل الذي خسره الاتحاد السوفييتي لتفادي انهياره»، إلى ان رئيس جهاز الاستخبارات السوفييتية «كي جي بي»، يوري أندروبوف، كان رجل المرحلة العملي لإنقاذ الاتحاد السوفياتي من الانهيار، حيث أظهرت شخصيته القيادية فور تسلمه السلطة، بُعيد رحيل رمز مرحلة الجمود والفساد الزعيم بريجنيف، تمتعه بقدرات من الحزم والتجرد من المصالح الذاتية، هو الذي لم يتوانَ بشجاعة عن تحذير بريجنيف نفسه قبل سنوات من وفاته بأن ابنته تتاجر في سوق الألماس السوداء مع زوجة وزير الداخلية شولكوف الذي انتحر، كما سبق أن ذكرنا، حينما قرر اندروبوف تقديمه للمحاكمة بعيد تقلده قيادة الدولة، إلا أن هذا الأخير سرعان ما وافته المنية قبل استكمال تنفيذ جُل إصلاحاته، كما تساءلنا أيضاً: ماذا لو طال عمره بضع سنوات إضافية، فهل يا تُرى سيُعمّر الاتحاد السوفييتي طويلاً إلى وقتنا الراهن، في ظل التمسك بأسس نظام سياسي شمولي قائم على دسترة حكم الحزب الحاكم الواحد واحتكاره السلطة؟ فلا فصل فيه بين السلطات الثلاث، ولا قضاء مستقل نزيه، ولا صحافة حرة مستقلة ولا تعددية سياسية، ولا نقابات ومؤسسات مجتمع مدني مستقلة عن الحزب الحاكم، ولا ضمانات دستورية جادة وصارمة لحقوق الشعب في الحريات العامة، فنُبل مبادئه المنادية بالدفاع عن حقوق العمال والكادحين والفلاحين وتحقيق كل مكتسباتهم في ظل دولة اشتراكية باسمهم، ونصرة حركات التحرر في العالم، كُل ذلك ليس كافياً بمعزل عن تلك الحقوق الديمقراطية، بل إن هذه المكتسبات نفسها معرضة للزوال في ظل الشمولية والدكتاتورية كما أثبتت التجارب التاريخية للدول الاشتراكية كافة.

لقد صرح أقرب المقربين لاندروبوف، الجنرال في الكي جي بي فيكتور شارابوف، بأن الصين الشيوعية مدينة في إصلاحاتها لاندروبوف بعد تلمسها توجهه نحو إدخال إصلاحات «اقتصاد السوق»، والتي مكنتها إلى يومنا هذا من تفادي شبح الانهيار الشامل غداة وفاة مؤسسها ومؤسس حزبها الشيوعي ماوتسي تونج، بعد كارثة نتائج وتداعيات ثورته الثقافية، وقد تمكنت من تحقيق قفزات في النمو والصادرات الهائلة المتعددة الانتاج المُربحة في السوق العالمية، لكن يُخطئ من يظن ان الاتحاد السوفييتي السابق أو حتى الصين الشيوعية، أو حتى أي دولة من الدول الشيوعية التي نجحت في تفادي الانهيار من خلال اتباع ذات السياسة، كفيتنام وكوبا التي يبدو بأنها تتجه إلى أن تحذو حذو الصين وفيتنام ستكون أي منها بمنجاة عن مخاطرالانهيار بدون إقامة أنظمة ديمقراطية منتخبة دستورية تعددية حقيقية تسمح بتداول السلطة والفصل بين السلطات والحريات العامة، والنظام الديمقراطي هو وحده الذي يسمح بضخ دماء جديدة إلى الأجهزة القيادية ويجنّب تهميش الكفاءات بل يُجنّب الأنظمة من مخاطر السقوط، ولا سبيل لإقامة أي نظام اشتراكي من غير الإيمان الفعلي بتشييده على أسس ديمقراطية ليبرالية جديد واستحالة بنائه بالصيغ والأسس الشمولية القديمة السابقة.

لقد أثبتت تجارب القرن العشرين بما لا يدع أي مجال للشك أن أي نظام سياسي في العالم مهما كان من نُبل شعارات مرجعيته الفكرية والايديولوجية، علمانية كانت أم دينية، ومهما بدت شعبيته الظاهرية في بدايات تشييده سواء على إثر انقلاب عسكري يحمل جنرالاته شعارات وطنية، أم إثر ثورة شعبية ما من صمّام أمانٍ يقيه من الانزلاق إلى الاستبداد والدكتاتورية والفساد بدون اعتماد مرتكزات وشروط النظام الديمقراطي الحق بالصيغة التي توصل إليها تطور الفكر السياسي العالمي المعاصر لشروط وأُسس النظام الديمقراطي المشار إليها آنفاً، وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون استنساخاً عن الغرب الذي هو نفسه متعدد الصيغ في تبنيها، ولكن لا ينبغي بأي حال من الأحوال التذرع بالخصوصية للانتقاص من محتواها الجوهري المُعبّر عن إرادة وحرية الشعوب. صحيح أن انهيار وغياب الاتحاد السوفياتي لم يشكّل ضربة موجعة ليس لليسار العربي والعالمي فحسب، بل وحتى للدول والقوى المتضررة من استفراد الولايات المتحدة بالتربع على النظام العالمي فيما بات يُعرف ب «النظام العالمي الأحادي القطبية» حيث عبرت تلك القوى والدول عن قلقها الشديد من خسارة لانهيار الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى غريمة ومنافسة للولايات المتحدة، لكن ما كان ينبغي ألبتة على اليسار وأصدقاء الاتحاد السوفياتي أن يتفاجأوا بذلك المآل الحتمي بانهيار الاتحاد السوفييتي لو أنهم درسوا وقيموا مسبقاً مسيرة التجربة وما شابها من أخطاء فادحة خلال مراحلها التاريخية، ليس على الصعيدين الداخلي والخارجي فحسب، بل وعلى الصعيد النظري للمفكرين الذين هندسوا تشييده على أُسس توتاليتارية وعلى رأسهم لينين. وهذا ما لم تتوقف عنده طويلاً قوى اليسار العالمي عامة، واليسار العربي بوجه خاص في مراجعاتها الفكرية بعد انهياره على الرغم مما تميزت به أغلب مراجعات المفكرين والقادة اليساريين العرب من شجاعة وجرأة غير معهودة في نقد الأخطاء القاتلة، سواء التي وقع فيها الاتحاد السوفياتي أم التي وقعت فيها أحزابهم خلال مسيراتها النضالية والتي تأسس عدد منها بالتزامن مع بدايات قيام الاتحاد السوفياتي والسير في ركابه ايديولوجياً وسياسياً حتى انهياره أي طوال ما يقرب من الثلاثة أرباع القرن.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5110 - الجمعة 02 سبتمبر 2016م الموافق 30 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 11 | 6:09 م

      خلاص أستاذ رضي لا تنبّش قبور الموتي بس ترحم علي المسلمين منهم

    • زائر 10 | 9:57 ص

      مع اتفاقي معاك الأخ رضي في تفكك المنظومة الاشتراكية لأسباب ذكرت معظمها الا انها بنت قاعدة اقتصادية متينة وبدأت في مجارات الغرب ومنها دول انضمت الى الاتحاد الاوروبي ، والتحولات التي حصلت في معظم تلك الدول حصلت بدون تكلفة دموية عالية الثمن، وأصبحت تتشابه مع دول أوروبا الغربية في النمو الاقتصادي والسياحي والتطور السياسي . وهذه رغبة الشعوب . ولكن الدول الأنجح في العالم حاليا هي الدول التي مزجت النظرية الاشتراكية والرأسمالية والتي تسمى ( الاشتراكية الديمقراطية) مثل الدول الإسكندنافية الأكثر تقدما.

    • زائر 8 | 3:52 ص

      أستاذ رضي, المشكلة في رايي الشخصي انه ليس هناك اختلال عميق فيما تقدمه بعض الايدلوجيات و الافكار التقدمية و اليسارية و اي فكر مبني على اجتهادات فرد او افراد وجماعات, بل المشكله تضمن في كيفية التطبيق و من سيطبق الافكار هذه. شيئ دائما يغفل عنه, ان البشر لهم ميول و اخطاء تتسبب في كوارث على النضام و الفكر السياسي الذي يتبعونه. عندما نقرا ابجديات اي فكر سياسي او ثوري قد نرى من افق معين انه الخلاص للبشر من كل مشاكلهم وانه لو طبق بما هو مذكور سنصل للجنة المنشودة على الارض. اشكرك جدا على هذا طرحك المفيد

    • زائر 7 | 3:15 ص

      سلمت أناملك يا أستاذنا الجليل على مقالاتك الرائعة

    • زائر 3 | 1:55 ص

      أضف الى ذلك

      والمتأسلمين أيضاً وبكل اشكالهم وتلاوينهم ومن لف لفهم ، ناهيك عن ما ظهر مما يسمى الدول " الدينية " ومن ركب موجتها ليستغل فقراء المنطقة أبشع إستغلال بإسم الدين الذي هو برآء وبلاء في آن .

    • زائر 1 | 9:54 م

      ما ذبحونا الا اصحاب اليسار واصحاب اليمين وكل من اعمي فتل حبال.

    • زائر 6 زائر 1 | 3:14 ص

      قصدك الاسلاميين

    • زائر 9 زائر 6 | 8:12 ص

      اقصد كل من هو ليس أهل لصناعة تاريخ ناصع للشعوب والامة..

اقرأ ايضاً