العدد 5121 - الثلثاء 13 سبتمبر 2016م الموافق 11 ذي الحجة 1437هـ

عالمنا المعاصر والتحولات الصعبة «العنف المنظم أنموذجاً»

منبر الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع منبر الحرية

منبر الحرية

يوسف بناصر: كاتب مغربي (ينشر المقال بالتعاون مع موقع منبر الحرية) 

يقتضي مبدأ التعقل الإنساني في العصر الحاضر، أن ننظر إلى الصراعات والنزاعات الدموية كافة التي تظهر في بقع مختلفة من أنحاء العالم على أنها؛ صيرورة سلبية، ترافق الخلق الإنساني منذ بدء التاريخ، فعلى رغم ما توصل إليه الإنسان من علوم وقوانين وما أبدعه وصاغه من أخلاقيات ومعارف، وما حققه من عمران بشري وصناعي وما مر به من تنوير ونهضة…، لم يستطع بعد هذا «الكائن البائس» أن يضع حدا لنزاعاته ونزواته البدائية، والحادة في كثير من الأحيان، فالعنف في عقيدته وفكره وسلوكه أمسى شيئا طبعيا أكثر منه تطبعيّاً، ربما لذلك لم يستطع التخلص منه، فهو يمارس العنف غالب نهاره في أنحاء مختلفة من المدن والحواضر والأمكنة والشوارع وحتى في عمله وداخل منزله، بل في كل يوم يتلذذ الناس بمشاهدة أفلام الرعب، والحركة»الأكشن»، والمصارعة في التلفزيون وهم يتناولون وجبة العشاء، ولهم معها موعد أسبوعي على شاشات السينما، فيغذون مخيالهم بها، مما يزيدهم مراكمة للسلوك العنفي، ويزيد غريزتهم تعطشا للبحث عن الإشباع السلوكي؛ فيقعون ضحية الاستدراج، ليمارسوا العنف في أي وقت، وفي أي مكان عندما تسنح لهم الفرصة لذلك.

لقد كان النظام الإنساني الاجتماعي والأخلاقي، محصلة تراكم التجارب والتوافقات في التجمعات وبين الأفراد على مر العصور، فأغلب النظم التي تحكم عالمنا اليوم، إنما هي خلاصات التجارب الإنسانية في التاريخ، فتلك التجمعات قامت بصياغة تصورات مشتركة عن الأنظمة والأخلاق، لتحكمها وتحتكم إليها، وتربط بعضها ببعض بها على أساس التضامن والعدل، وتحفظ بها تجمعاتها من الفوضى واللانظام بكل تجلياتهما.

فنزوع الكائن الإنساني نحو تحقيق مشترك أخلاقي واجتماعي، كان الهدف منه تحقيق الاستقرار أولاً، ثم التعايش بين مختلف أفراده، بل والتجمعات الأخرى، وتدبيره الخلافات والاختلافات، فوضعت أنظمة تحافظ على روح الوحدة والتكافل الأمني والروحي والاقتصادي والأخلاقي وغيرها، ولم تكن هذه الأهداف المسطرة، وليدة لحظة معينة في التاريخ أو طفرة وقعت، بل كانت نتيجة تراكمات لسنوات ولأجيال متعاقبة، وهي أيضاً نتيجة إحساس بالنقص، وحاجة الانضباط لأخلاق الجماعة ولروحها، بعدما تم تأسيس أول مجتمع بشري، وكانت غايته تحقيق الدفء الجماعي وإشباع روح الفرد.

إن ما بني اليوم من ثقافة السلم والسلام في المجتمعات المعاصرة واعتبر مكسبا معرفيا وسياسيا واجتماعيا، كان نتيجة قوة إرادة الفرد والمجتمع الانساني في كبح جماح الانفلاتات الطارئة في السلوك الإنساني؛ والتي تستهدف حرية الإنسان ومكتسباته الثقافية والسياسية والاقتصادية. ولم يكن الفرد وحده هو الذي يهدد ذاك الاستقرار بل كان تغول الدولة ومؤسساتها والتنظيمات الإيديولوجية وانتشار الشطط في استعمال السلطة بسبب الفساد في النظام بقطاعاته الحيوية وتأفف المواطنين من المعاملات اليومية مع الإدارات العمومية، كل هذه العوامل ترسخ السخط في أوساط المواطنين من أجل الانتفاضة بدرجات متفاوتة وبتلقائية ضد كل أشكال القمع والتجاوزات، ولا يمكن أن تصبح انتفاضتهم ذات تأثير كبير إلا إذا كانت خارج بعض المؤسسات وخصوصا منها النقابية، حينها يعبر الأفراد بحماسة ودون خلفيات تحد من إرادة ثورتهم؛ إنهم يعبرون عن مطالبهم في الحرية والعدالة والرخاء، وقد تكون هذه المطالب موجودة لكن وقعت عليها المصادرة أو الانتهاك بسبب انحراف في تأويل الدساتير المنظمة للمجتمع والعلاقات والسلط، وهي أنماط متسلسلة ومتناسقة من التعاقدات الاجتماعية والسياسية الملزمة التي إذا فسدت فسد كل شيء. وقد تكون الثورة بسبب فشل في وضع القوانين أو سوء تدبير أو فشل في تدبير الحكم أو فساد وممارسة بيروقراطية للسلطة.

إن الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي المعاصر، يدفع بعجلة العلم نحو أفق أرحب لخدمة الناس، ويعدهم بتحقيق مزيد من الازدهار والرخاء والسلم، لكن لابد من التذكير بأن التاريخ الإنساني عرف منحى مضطرباً أيضاً، فمع كل ازدياد للتطور والازدهار والرفاهية وحياة المتع والترف؛ تتوالد في أذهان بعض الساسة والمؤدلجين والبيروقراطيين مخططات معقدة لارتكاب مزيد من الجرائم في حق شعوبهم، فيستغلون منابرهم وعلاقاتهم وأحزابهم ومنظماتهم وإعلامهم، وتظهر جماعات الفوضى واللااستقرار التي تنتعش من الفوضى وتغتني منها، ويتناسل العنف باعتباره تعبيرا مضادا ورد فعل طبيعي، ليتخذ أشكالاً مختلفة، ينتظم في الأرياف والضواحي والأحياء المهمشة، لينمو متجسداً في أفكار يمينية ويسارية متطرفة، ويمتد هذا العنف زاحفا على المؤسسات في أجندة وبرامج سياسية حماسية «فاشيستية» غير معقلنة، وتستغل هذه الفئات المنافذ الديمقراطية والروح الليبرالية للمجتمع لتنشر عقائدها وعداءها لفكر التنوير والاختلاف، فتمتد شرعيتها وتكتسب المشروعية مما بقي من منافذ مؤسساتية، لتصبح اجماعا وطنيا نافذا وتكون «دوغما مغلقة» ليؤمن بها الجميع ويستعد الجميع لفدائها، وربما الوضع الأوروبي وما يحدث من نقاشات مجتمعية وسياسية بشأن «الوحدة الأوروبية» و»مسألة المهاجرين» و»تدبير الأزمة الاقتصادية» وغيرها كلها توحي بأن القادم صعب.

إن الترف والازدهار كما التخلف والجهل لهما ضريبتهما الأخلاقية والنفسية والأمنية، وما يحدث اليوم من ظهور لحركات النازية الجديدة وصعود اليمين المتطرف وتناسل الحركات الجهادية بمختلف مسمياتها، وتنامي الحس العنصري والانشغال بتعزيز الهويات الثقافية والعرقية والمذهبية في أنحاء أوروبا وأميركا، وفي مختلف مجتمعاتنا العربية، كل ذلك نذير شؤم على أن الاستقرار الإنساني مهدد، ولا يمكن وصفه إلا بكونه نوعا من الاضطراب الذي أمسى يزعج عالمنا اليوم، ويشكل تهديدا للسلم الاجتماعي والسياسي والأمن الروحي وحريات الأفراد والفكر لجميع المجتمعات. إنه في الأخير؛ ضوء أحمر على أن التنوع الإنساني في المجتمعات الإسلامية والغربية قد انتكس، وأن قبول الاختلافات ومحاولة تدبيرها مهما تكن صورتها أضحى ركنا منهارا وفلسفة باهتة، إنها صورة قاتمة - ويا للأسف - لما يشهده عالمنا من تحولات صعبة وعنيفة قد تنحو به إلى مزيد اضطراب على المستوى الاجتماعي والقيمي والاقتصادي، مما يجعل ما راكمته الإنسانية من فكر تنويري وتراث عقلاني وروح إبداع ومكاسب جمة على جرف هار.

إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"

العدد 5121 - الثلثاء 13 سبتمبر 2016م الموافق 11 ذي الحجة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً