العدد 5204 - الإثنين 05 ديسمبر 2016م الموافق 05 ربيع الاول 1438هـ

قرية باربار والحكاية التاريخية للمقابر الثلاث الباقية

يوسف مكي (كاتب بحريني) comments [at] alwasatnews.com

كاتب وباحث بحريني

ذات مرة سألني أحد الأصدقاء، ونحن نهمُّ بتشييع أحد الموتى في قريتنا: لماذا تختلف قريتكم عن بقية القرى، بحيث يوجد فيها ثلاث مقابر؟. فأجبت ربما يكون ذلك رغبة من الأحياء في توزيع موتاهم على أكثر من مكان. أو نوع من الترف حتى في الدفن. بمعنى أن يكون لدى أهل الميت أكثر من خيار في مكان دفنه.

إلا أنَّ هذا الجواب لم يكن شافياً بما فيه الكفاية، كما أنَّ السؤال ظل يشغلني لسنوات، ولم أجد له جواباً شافياً، أو لنقل جواباً تاريخيّاً. وقد بذلت كثيراً من الجهد للعثور على وثيقة أو رأي، أو معلومة تدلني على سبب وجود ثلاث مقابر، ولم أعثر على شيء من هذا القبيل.

ولكن كما يقول الفيلسوف أرسطو لا يوجد فراغ في الطبيعة، فالطبيعة تملأ نفسها بنفسها، فإن الفراغ في الجواب لابد من ردمه أو لابد من إيجاده بهدف ملء الفراغ، حتى يأتي الجواب القطعي على سؤال كهذا. وعليه فإنني سأقوم هنا بملء الفراغ، وأقدّم ما يشبه الجواب / الاجتهاد الشخصي القائم على تركيب الصورة التاريخية المفترضة.

وعليه بداية لابد من الانطلاق مما هو ملموس من الناحية التاريخية. ويتمثل ذلك الملموس في وجود خمس مقابر وليس ثلاثاً. اثنتان مندثرتان، وثلاث مؤهلات للدفن. أما الاثنتان المندثرتان فهما: أولاً مقبرة الشريبة في غرب القرية بمحاذاة مزرعة يتيم، وهي مقبرة كان يدفن فيها آل الذوادي، حيث كانوا يسكنون في باربار، ثم غادروا القرية جميعهم بسبب خلاف بينهم وبين الأهالي، انتصف فيه الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة (1876 - 1964) لأهالي القرية؛ لأنهم كانوا من رعاياه، وفي منطقته التي كان يحكمها، وذلك في مطلع القرن العشرين. ومع مرور الزمن اندثرت هذه المقبرة، وأصبحت أملاكاً خاصة. وثانياً المقبرة الجنوبية وتقع في جنوب القرية، وكانت القبور واضحة حتى السبعينات ثم أخذت تدخل ضمن الأملاك الخاصة ولم تعد قائمة.

أما المقابر الثلاث الباقية، والمؤهلة للدفن، وهي موضوعنا بالأساس فهي مقبرة المدرسة، وتقع في شرق جنوب القرية، وهي أكبر المقابر الثلاث، ثم المقبرة الغربية وتقع في وسط القرية الآن من جهة الغرب بمحاذاة مدرستي باربار الابتدائية للبنين وزينب الاعدادية للبنات، ثم مقبرة بن رجب المعروفة الآن بمقبرة «الشويخ»، وتقع شرق القرية من الناحية الشمالية وهي أصغر المقابر الثلاث.

لإيضاح الصورة في وجود ثلاث مقابر، نعتقد من الأهمية بمكان تأكيد أن الأصل في التاريخ هو المجموعات السكانية والاجتماعية وحركتها ثم استقرارها، أما المقابر فتأتي لاحقاً وكأنها امتداد لممارسات المجتمع الدنيوية، أو هي آخر ما يتم انجازه بخصوص الأشخاص في هذه الدنيا للعبور نحو العالم الآخر. هي المكان الفاصل بين عالمين أحدهما مرئي وهو المجتمع بكل ما فيه، وآخر غير مرئي وهو عالم الأموات؛ لكن المقبرة نفسها هي بالتأكيد كمكان لمواراة الموتى هي من صناعة المجموعات البشرية، وذلك وفقا لعاداتها وتقاليدها وقيمها الدينية والحضارية. بمعنى أن المقبرة لم تكن موجودة في الأصل، فتم ايجادها من قبل المجموعات السكانية في لحظة تاريخية محددة واستمرت أو اندثرت.

ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أن وجود ثلاث مقابر في قرية واحدة، معناه وجود ثلاث مجموعات بشرية سكانية تعاقبت على المنطقة خلال فترات تاريخية مختلفة، بحيث حرصت كل مجموعة ولأسباب تاريخية واجتماعية، وربما اثنية على أن تكون لها منطقتها الخاصة بدفن موتاها. مما يعني أن كل مقبرة تعكس في الأصل بهذا القدر أو ذاك حضور مجموعة سكانية مختلفة عن المجموعات الأخرى من حيث العلاقة بالمكان، وقامت بتمييز نفسها بمقبرتها الخاصة.

إذن، نحن أمام ثلاث مجموعات سكانية تعاقبت على منطقة باربارعلى الأقل في غضون 500 سنة الأخيرة. وكل مجموعة أحدث قامت بتأسيس مقبرتها، كمجموعة قائمة بذاتها والتي تختلف عن المجموعتين الأخريين. وبهذا المعنى فإن المقابر الثلاث قامت في فترات تاريخية متعاقبة، وذلك بحسب المجموعة البشرية القادمة إلى القرية. فهناك المجموعة الأقدم وبالتالي المقبرة الأقدم ثم المجموعة التي تليها ومقبرتها أحدث من الأولى، ثم المجموعة السكانية الأحدث ومقبرتها الأحدث بين المقابر.

ودون وجود ثلاث مجموعات بشرية لا يمكن تفسير وجود ثلاث مقابر. ومن هذا المنطلق، فإن المقابر الثلاث من حيث الأساس هي مقابر خاصة بمجموعات بشرية، ثم حدث التداخل لاحقاً من خلال المصاهرات والتزاوج فيما بين المجموعات، فأصبح بامكان هذه المجموعة أو تلك أن تدفن موتاها في مقبرتها الخاصة أو في المقبرتين الأخريين. ومع ذلك فإن كل واحدة من هذه المقابر الثلاث، معروفة بعوائل محددة كانت في الأساس مجموعات بشرية، وفدت إلى القرية في أزمان مختلفة.

فمثلا: مقبرة المدرسة وهي الأكبر والأقدم بين المقابر الثلاث، كانت في الأساس مكاناً لدفن أموات ثلاث عوائل، وهي القشعمي والوداعي والمحافظة. لكنها الآن مفتوحة للكل.

أما لماذا هي تحمل اسم المدرسة، فذلك يعود إلى اعتقاد لدى الأهالي بأن هذه كانت في الأساس حوزة علمية في حدود 1500 ميلادي؛ لكنها دمرت من قبل البرتغاليين، وكان بها رجال دين أساتذة وطلبة، فقاوموا الاستعمار البرتغالي، فتم التنكيل بهم وقتلهم ودفنوا في نفس المكان، فكانت هذه بداية المقبرة / المدرسة التي لاتزال قائمة كمقبرة مع وجود بعض الأساسات التي تدل على ما يشير إلى وجود بناء سابق، ربما يؤشر إلى وجود حوزة / مدرسة أو مسجد ملحق بالمدرسة.

أما المقبرة الثانية فهي مقبرة بن رجب، المعروفة الآن بمقبرة «الشويخ»، على اعتبار، بحسب الرواية التي تخص المجموعة التي تدفن في هذه المقبرة، أنها خاصة بعائلة الشويخ، وإن بن رجب هو شخصية من عائلة الشويخ أو هو نفسه الشويخ تصغير شيخ، كنوع من التصغير الذي يعني التحبب؛ لكنني في الحقيقة سمعت من بعض الأهالي رواية تقول إن عائلة أبناء «قمبر» هم شركاء مع عائلة الشويخ في هذه المقبرة وربما آخرون.

أما المقبرة الغربية، وربما تكون الأحدث بين المقابر الثلاث، فلا تحمل اسماً محدداً؛ بل تحمل اسم جهة / صفة « الغربية»، وهي أكبر من حيث المساحة من مقبرة بن رجب، ويدفن فيها المجموعة البشرية التي جاءت إلى القرية خلال 300 سنة الأخيرة. وأهم هذه العوائل آل السيد ماجد، وآل الحاج مكي بن علي (عائلة الكاتب) وآخرون.

هذا كان الأصل بالنسبة إلى المقابر الثلاث كما نتصوره. أما الآن فإن الأمر مختلف. فبسبب تداخل المجموعات، والعوائل والمصاهرات باتت العائلة أو حتى الأسرة الواحدة تتوزع على المقابر الثلاث. فالأم مثلا تدفن في مقبرة، والأب يدفن في مقبرة أخرى والأولاد في مقبرة ثالثة، وذلك بحسب ما يقرره أهل المتوفى، وليس بالضرورة أن يدفن في مقبرة مجموعته الأصلية. لكن مراعاة التقليد الأصلي للدفن في مقبرة دون أخرى مازال قائما حتى اليوم، بحيث تحرص العوائل الأصلية على دفن موتاها في مقبرة أجدادها.

باختصار هذه هي حكاية وجود مقابر ثلاث في قرية واحدة. وفي نفس الوقت لا ندعي أن ما نقوله هو الحقيقة، إنما نعتقد أنه أقرب إلى تركيب الصورة التاريخية لحكاية أو لتاريخ هذه المقابر الثلاث - مجرد ملء الفراغ - على أمل أن تنجلي الحقيقة بكامل نصاعتها في يوم ما.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"

العدد 5204 - الإثنين 05 ديسمبر 2016م الموافق 05 ربيع الاول 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 1:30 م

      أعتقد بأن التعمير الذي حدث في القرن الماضي وانشاء الطرق والشوارع ورصفها دون مراعات الى ملاك الاراضي والمقابر قسمت الكثير من الاراضي والمقابر والاملاك واضرب هنا مثال مقبرة كرانه كانت في الاساس مقبرة واحدة وعندما تم انشاء شارع النخيل قسمها نصفين الاهالي هناك اهمل القسم الشمال وعمروا القسم الجنوبي بقبورهم الى ان اصبح القسم الشمال لقمة سائغة للمتنفذين ورأينا في بداية الثمانينات كيف كانت الالات تجرف القبور والهياكل العظمية...

    • زائر 6 | 9:59 ص

      الشكر الجزيل للكاتب وتوضيح الشامل للموضوع واثراء الناس بالمعلومات المتعوب عليها من قبل الكاتب كذلك اريد ان اوضح او ابيين ان هناك مقابر في كرانه مشابه الى ماذكره الكاتب وعلى سبيل المثال المقبره المسروقه الان بالقرب من مدرسة كرانه الابتدائية وقد بيعت الى اراض ومازال البناء قائم عليها مع العلم انها مقبره ويوجد بها مقابر والكل قد شاهدها من الماضي القريب ومرة اخرى شكرا للكاتب على طرحه مثل هالمواضيع كما اشكر كل المتابعين وجريدة الوسط .

    • زائر 5 | 5:46 ص

      السلام عليكم. شكرا على هذا المقال. ولكن لتبيين حقيقة:هي. أنّ مقبرة )المدرسة) التي هي اكبر المقابر، كانت بيت وحوزة العالم الشيخ علي القشعمي، وهو جدُّ القشعميين حاليا في باربار، وكان يدرِّس فيها طلبته وتلاميذه، وفي فترة الاستعمار البرتغالي كما يقولون، قام الشيخ علي القشعمي هو وطلابه بمقاومة الاحتلال فاستشهدوا ودفنوا في محل دراستهم ، وهي الحوزة أو المدرسة، ولذلك سميت المقبرة بمقبرة(المدرسة) نسبة إلى صاحبها الشيخ علي القشعمي، وفيما بعد اصبحت القرية تدفن فيها واصبحت عامة، رحم الله الشيخ والاموات.

    • زائر 4 | 2:36 ص

      الله يخلي لينا المقابر و من عجائب الزمان ان تكون المقابر متنفس للاحياء من ضوضاء المدنية

    • زائر 3 | 1:41 ص

      أشكرك علي جهدك والحيادية في شرح الموضوع بالتوضيح الدقيق للمقابر صحيح كلامك عن اندثار المقابر والدليل راينا بعيننا ان مدخل عذاري من جهة الشمال توجد مقبر والآن عليها مبني وفي النعيم توجد 3 مقابر غرب صغير لم اشاهد او اعرف انه خلال 40 عام انه تم دفن موتي بها وربما تندثر والمقبر الكبير في الوسط شمال شارع البديع والمقبروالجنوبية تضم المغسل والمصلي لكنهم متحدين في المغسل وكل واحد بها سور خاص بها

    • زائر 1 | 11:56 م

      أشوه مقال في التاريخ بعيد عن عوار راس السياسة :-)

    • زائر 7 زائر 1 | 11:48 ص

      نشكر الكاتب على إجتهاده في حصوله على هذه المعلومات القيمة و التي قد تصيب وقد تخطئ ولكنها محاولة جيدة ﻹثبات اﻷصل .. مقترح مني لكوني من سكنة هذه المنطقة بأن يخصص الجزء الغربي من المقبرة الغربية للقرية المحاذي للمدرستين مواقف خدمات للاستفادة منها لكونها منطقة معدومة ﻻ يستفيد منها اﻷموات ولا اﻷحياء طبعاً بعد أخذ الرخصة من الشرع

اقرأ ايضاً