العدد 5222 - الجمعة 23 ديسمبر 2016م الموافق 23 ربيع الاول 1438هـ

دروس اغتيال السفير الروسي

رضي السماك

كاتب بحريني

للوهلة الأولى توقع الكثير من المراقبين والمحللين بأن يؤدي اغتيال السفير الروسي لدى تركيا، اندريه كارلوف، إلى انفجار أزمة جديدة في العلاقات بين البلدين، والتي لم تكد تتحسن في أعقاب تأزمها الشديد، إثر إقدام سلاح الجو التركي على إسقاط مقاتلة روسية (سوخوي 24) كانت تحلّق في النطاق الجوي السوري على الحدود مع تركيا في أواخر العام الماضي 2015 حتى وقع حادث الاغتيال؛ لكن موسكو فاجأت العالم بتخييب تلك التوقعات، فكما سبق لها أن توخت أقصى درجات ضبط النفس، كدولة ذات سيادة فضلاً عن كونها دولة عظمى، في رد فعلها على حادث إسقاط طائرتها دون اللجوء إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أنقرة، مكتفية بالعقوبات الاقتصادية، وشن حملة إعلامية ضدها إلى أن اضطرت أنقرة إلى تقديم اعتذار رسمي بعد تلكؤ دام شهوراً، هاهي موسكو نفسها تتوخى في حادث الاغتيال ضبط النفس أيضاً، وتبدي تفهماً لظروف الحادث الإرهابي، باعتباره خارجاً عن إرادة ونوايا السلطات التركية.

والحال أن الحادث نفسه، وما اتسمت به ردود فعل كلا الطرفين التركي والروسي من حصافة وتعقل إزاءه، إنما تنطوي على دروس بليغة المغزى في العلاقات الدبلوماسية الثنائية بين دول العالم أجمع؛ الأول: إنه على رغم أن تركيا بقيادة رئيسها رجب أردوغان تعيش حالة استنفار أمني قصوى غير مسبوقة تاريخياً، منذ تأسيسها دولةً علمانية منذ أكثر من 90 عاماً، على إثر الانقلاب العسكري الفاشل ضده في يوليو/ تموز الماضي، وما تبعه من حملة تطهير واسعة النطاق داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية والمدنية بحق خصوم أردوغان، لم تنته بعد، فإن ذلك لم يحُل دون وقوع اختراقات أمنية حتى داخل الأجهزة الأمنية نفسها، حيث اتضح أن قاتل السفير هو من رجال الأمن، ما يثبت فشل الحل الأمني لمواجهة الارهاب دولياً أو إقصاء الرأي الآخر، بدون أن تكون بموازاته حلول سياسية ديمقراطية واقتصادية وفكرية بعيدة المدى تجتث بيئته التي يتغذى منها.

الثاني: لأن كانت مأساة حلب حاضرة الآن بقوة، حيث تتلطخ أيدي أطراف أقليمية ودولية بدماء أهاليها وتدمير عمرانها، لا أيدي النظام السوري فحسب، فإن التذرع بهذه المأساة لارتكاب الجريمة، وتحميل الجانب الروسي وحده مأساة حلب، كما تجلى ذلك في التكبيرات والصرخات الهستيرية التي أطلقها ذلك الشاب التركي المغرر به (22 عاماً) فور ارتكابه الجريمة، إنما يعكس الدور الشائن الذي تلعبه الجماعات الاسلامية المتطرفة في تزييف وعي الشباب، والسيطرة على أفئدتهم وعقولهم، عبر غسل أدمغتهم وتسميمها بالأفكار المتطرفة، واقحامهم في قضايا آنية مفتعلة، ومهما كان عظم مأساتها، فإنها تُختلق بغرض تصفية القضية الفلسطينية كقضية مركزية للعرب والمسلمين، بما يخدم مصالح وأجندة اسرائيل التي هي بأمن ومنأى عن مثل هذه الأعمال الارهابية، كما يخدم مصالح وأجندة الولايات المتحدة في المنطقة العربية.

الثالث: إذا كانت جريمة اطلاق النار على السفير جرت بغتةً وهو أعزل مجرد من السلاح ومن أي حماية أمنية، تُعبّر عن انحطاط الوسائل التي انحدرت إليها تلك الجماعات الارهابية في التعامل مع خصومها، فإن مكان وقوع الحادث (معرض للفنون التشكيلية الروسية) إنما يُعبّر أيضاً بشكل غير مُباشر عن عدم احترامها محراب الفن ورسالته الانسانية الحضارية في التقارب بين الشعوب، وليس غريباً ذلك على تلك الجماعات الدينية المتطرفة، التي لطالما أثبتت افلاسها وفقرها في حقل الإبداع الفني والأدبي المعاصر، كشكل من أشكال الحداثة التي تحاربها، مادامت ترفض الخروج من كهوف التاريخ المتخلفة.

الرابع: أن توخي الجانبين، وبخاصة الروسي، أقصى درجات ضبط النفس في الحادث الأخير، على رغم ما هو معروف عن خلافاتهما الكبيرة في قضايا إقليمية ودولية متعددة، إنما يقدم مثالاً جديراً بالاحتذاء بشأن أهمية افتراض حسن النوايا، حتى خلال تأزم علاقاتها عند وقوع مثل هذه الحوادث الطارئة، التي يتسبب فيها أفراد أو جهات في أي من الدولتين خارجة عن إرادة سلطة الدولة، بغض النظر عن مسئوليتها عن التقصير الأمني، الذي ينبغي أن تتحمل مسئوليته الدولة التي على أراضيها الاعتداء، لكن بعيداً عن التشنج والتصعيد المتبادل وبما يحفظ ديمومة علاقاتهما الدبلوماسية، باعتبارها البوابة الرئيسية لأمن واستقرار العلاقات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الاخرى على المستويين الرسمي والشعبي. والحق فقد قدمت تركيا نموذجاً رائعاً قلَ نظيره في تاريخ العلاقات الدبلوماسية الثنائية بين الدول في عصرنا، والتي تمر بمثل هذه الحوادث التي قد تفضي إلى إقدام أحد الطرفين على قطعها، وذلك باتخاذ أنقرة عدة مبادرات لتطييب خاطر الجانب الروسي، وكان أروعها مراسم الوداع المُهيبة لجثمان السفير الروسي المغدور في مطار أنقرة، والتي شارك فيها مسئولون أتراك كبار يتقدمهم نائب رئيس الوزراء توغرل توركش، الذي ألقى كلمة في هذه المراسم، ووزير الداخلية سليمان صويلو، ونائب وزير الخارجية أحمد يلدز، وعدد من السفراء الأجانب، وقامت احدى فرق حرس الشرف بأداء التحية العسكرية للجثمان، كما قام أحد رجال دين الكنيسة الارثوذكسية في تركيا بترتيل الصلوات على جثمانه، وكان لافتاً أن من بين الحاضرين السفيرين الأميركي والبريطاني، وكذلك أرملة السفير الروسي والتي كان لمشهد عدم تمالك نفسها وهي متشحة بالسواد بالنحيب على جثمان زوجها وعيناها متفجرةً بدموع الفجع، أثره الإنساني الواضح على وجوه جميع الحاضرين في مراسم توديع الجثمان في المطار.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5222 - الجمعة 23 ديسمبر 2016م الموافق 23 ربيع الاول 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 11:31 م

      ارى 0وانا القاصر0 ان أحد الحاضرين لوداع جثمان السفير هو الفاعل للقتل او هما معا بريطانيا وامريكا او الطرف الثالث تركيا فهي احد رجلي داعش واكبر مساعد له فهي تحتضنه وتغذيه وكل من يسير مع داعش تركيا شريك فيه فتركيا ساعدت الارهاب فهي قتلت السفير وامريكا والغرب يريد تعكير العلاقة بين تركيا وروسيا فهي دبرت قتله

    • زائر 2 | 11:27 م

      1

      إن لم تكن الخيانه أن تقتل من كلفت بحمايته فما هي الخيانه إذن؟ وهل أن تكون شجاعا أن تقتل رجلا في بيتك واستئمنك على نفسه ؟ رجلا أعزل !! من أنت حتى تحكم على الناس بالموت؟ وتنفذ حكمك ؟! وجهرك بالله أكبر أتريد أن تجعل الأمر إسلاما ؟ هل الإسلام أن تقتل ؟ يا له من جبن وخسه .

    • زائر 1 | 10:19 م

      الجبان يعتبر الشجاعة جريمة!

اقرأ ايضاً