العدد 5236 - الجمعة 06 يناير 2017م الموافق 08 ربيع الثاني 1438هـ

من تراثنا الضائع... كتب محروقة وأشياء موضوعة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لا نتفاجأ إذا ما عَلِمنا أن ثلاثة أرباع ما أُلِّفَ في العهود الإسلامية ليس له وجود في عصرنا الحالي، إذْ أتلفته الحوادث والنزاعات. كما لا نتفاجأ إذا قرأنا أن ثلثَيْ كتابٍ واحد هو سقيم لا صِله له بالحقيقة، وإنما أشياء مكذوبة وضعها الدَّسَّاسون. وقِسْ على ذلك الكثير من الصور.

نحن الآن نسير في العام 2017. هذا يعني أن هناك واحداً وستين جيلاً مروا على هذا العالم. وخلال ذلك المتوسط للزمن الواقع بين ولادة الآباء والأبناء تجري أشياء كثيرة. أحداث وتغيُّرات هائلة. والأهم تتولد الفروق الفردية لتلك الأجيال، ليس في المهارات والمَلَكَات بل حتى في الميول والنزعات.

فعلى رغم أن سلوك الناس يرتبط بأصول بيولوجية، إلاّ أن البيئة والاحتكاك بالمحيط يخلق ويُخلِّق تصرفات الناس. بل حتى تربية ومجاورة الحيوانات بشكل عضوي قد يفضي إلى اتباع سلوك محدَّد ومتماهٍ معها في حركات الجسم ربما. وهو أمر تم رصده على أرض الواقع.

من هنا يمكننا أن نقول أن كل ما صدر عن تلك الأجيال الحادية والستين خضع لتلك الظروف من حوادث وتغيّرات وفروق فردية وميول ونزعات واحتكاك بالمحيط وتأثر به. وهي حالة سَرَتْ على الجميع، بمن فيهم العلماء والمثقفين وأهل القلم، الذين خلفوا لنا كل هذا الكمّ الكبير من التراث.

لذلك، لا نتفاجأ إذا ما عَلِمنا أن ثلاثة أرباع ما أُلِّفَ في العهود الإسلامية ليس له وجود في عصرنا الحالي، إذْ أتلفته الحوادث والنزاعات. كما لا نتفاجأ إذا قرأنا أن ثلثَيْ كتابٍ واحد هو سقيم لا صِله له بالحقيقة، وإنما أشياء مكذوبة وضعها الدَّسَّاسون. وقِسْ على ذلك الكثير من الصور.

في كتابه الثمين «أغرب الأخبار في ضياع الحقائق والكتب والآثار» يسرد فاضل جابر ضاحي شيئاً من تلك الصور. ويبدأ بقضية إهداء المؤلفين في العصور الإسلامية بعضاً من كتبهم في السياسة والسِّيَر والأنساب وغيرها إلى الملوك والأمراء كما في حالة أبي عبيد القاسم مع الأمير بن طاهر.

وكانت الدوافع في ذلك هو طلب المال والحَظْوَة. لذلك، ابتعد أؤلئك المؤلفون عن ذكر ما يسيء أو يُفسِد مزاج الحاكم فيمنع عطاءه عنه، لذلك، كانوا يختارون أطيب الكلام والمعلومات التي ترضي المُهدَى إليه حتى ولو كانت كذباً. وهو ما يعني دخول كمّ كبير من الأشياء الكاذبة في كومة التراث.

كذلك، ما كان يُكتَب في السِّير الذاتية للملوك والحكام والأمراء والوزراء، إذْ كانت تُكتَب المناقب بشكل مبالغ فيه، بل وبشكل موضوع وذلك طلباً للجاه وربما الإرغام حتى. ولم تُسجَّل إلاّ أسماء قليلة رفضت ذلك كما مع السخاوي الذي رفض كتابة سيرة السلطان المملوكي خشقدم.

وقد استشهدتُ مرة بما جاء في الأغاني من أن مُسلم بن عُقبة أسَرَ رجلاً من المدينة وأمرَ بقتلِه، فمَدَحَ الأسير عُقبة والده وما كان عليه من «مِطرفٌ خَزٌّ حتى يجلس بفنائه، ثم توضَعُ جَفْنتهُ بين يَدَيْ مَنْ حَضَر. فقال مسلم: أوَ قَد رأيتَه؟ قال: نعم. وبعد أن خَرَجَ منه سُئِل: هل كان أبوهُ كذلك؟ قال: «لا والله لقد رأيته في عباءَةٍ يجرُّها على الشَّوك، وما كنا نخاف على رَكائِبها ومتاعنا إلاَّ منه»!.

وفي قِبَال ذلك أيضاً، وُظِّفت الأقلام في ذمّ آخرين بدفع من الملوك والأمراء ممن كانت معهم عداوة. وفي وسط تلك المشاحنات، اختار الكثيرون من الكُتَّاب والعلماء الصمت خوفاً من القتل أو النفي أو السجن، لذلك ضاعت الكثير من الحقائق التي لو أنها موجودة اليوم لتبدّلت مواقف وأحكام كثيرة.

ومن ذلك، سُجِّلت حوادث أليمة حصلت لعلماء وفلاسفة كبار لاقوا الأمرّين عندما عزموا على الكتابة خلافاً لرغبة الحاكم. وقد سجَّل الذهبي ما تعرض له الوليد بن رشد من حرق لكتبه على يد السلطان المنصور الموحدي، وما قام به المنصور بن أبي عامر بحرق الكثير من الكتب الثمينة.

أما في مسألة الإرغام على الكتابة فحدِّث ولا حرج. حيث كان يُجبَر بعض العلماء على كتابة كل ما هو جميل في سلوك الحكام وأسرهم بكذب صريح. وقد ذكر المؤلف أن أحدهم مرّ على أبي إسحاق الصابي وهو يكتب في سيرة حاكم أجبِر على مدحه، فسأله عمّا يكتبه فقال: «أكاذيب ألفقها، وأباطيل أنمّقها». وقيل أنه كَتَبَ ذلك في السجن. ثم يذكر نماذج مماثلة حصلت لآخرين.

ومن الأشياء التي سُجِّلت في تلك العصور، هو الكتابة من غير اختصاص، سواء لأسباب مادية أو بدفع من أحد. ويذكر المؤلف في ذلك نصاً لـ محمد بن أحمد بن أبي الأزهر البوشنجي في وصف أحدهم بأنه: «انتحل ما ليس من صناعة علمه وانتهج ما ليس من طريقته وتكلف ما ليس من معانيه» إلى آخر النص. وهي أمور تجعلنا نتأمل في صدقية بعض ما كُتِب.

كذلك، كانت هناك الكثير من الكتب التي نُسِبَت إلى غير مؤلفيها بطرق مختلفة. فأحيانا كان يُطلَب من كاتب أو عالِم أن يؤلف سِفراً كي يُنسَب إلى شخص من علية القوم. وفي أحيان أخرى كان بعض العلماء المغمورين يختار عالماً أسمى وأشهر منه كي ينسب إليه ما ألّفه هو؛ ظناً منه أن ذلك قد يجلب على كتابه الشهرة والرواج كما ذكر ذلك الدّجلي المتوفي سنة 838 للهجرة.

واستشهد في ذلك ما قام به أحمد بن محمد بن عبدالسلام الشافعي حين نَسَبَ أحد مؤلفاته إلى قاضٍ مكي معروف، فانتشرَت منه نسخ كثيرة. وعندما سُئِل قال: «نسبته لقاضيها لغرض يعلمه الله تعالى» كما في كشف الظنون. وهو ما يعني ارتفاع أشخاص بأسماء غيرهم. وللحديث صلة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5236 - الجمعة 06 يناير 2017م الموافق 08 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 1:43 ص

      Show must go on
      ومازال العرض مستمرا

    • زائر 3 | 12:51 ص

      صحيح كلامك ف..... التي بين يدينا حاليا مدسوسة وموضوعة لاغراض سياسية في ذلك الوقت ولا يوجد اثر لما حدث فعلا في بداية ظهور الاسلام

    • زائر 2 | 12:50 ص

      ثلاثة أرباع الكتب الاسلامية ضاعت؟!!! لو موجودة ويش صار حالنا!!!

اقرأ ايضاً