العدد 5241 - الأربعاء 11 يناير 2017م الموافق 13 ربيع الثاني 1438هـ

الرحلة الممتعة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كلما ضاع جزء من تاريخ هذا العالم، فقد وجه البشرية شيئاً من ملامحه. ضيَّع الإنسان الأوروبي إرث الهنود الحمر في الأميركتين، فلم نعرف عن لغة الآمورداغ (ولا عنهم) شيئاً. وضيَّعوا ما كان عند سكان البلاد الأصليين في استراليا (الآبوريجينال)، فلم نفقه لا لغة الماغاتيكي ولا والياوورو ولا حتى ما كانوا يفعلونه بالصُّدَف؛ كي يُحوّلوها إلى عملات للتبادل التجاري بطريقة رائعة وذكية.

هذا الأمر لا يقتصر على تلك الأماكن، بل في أنحاء كثيرة. وربما جرى ذلك بدافع سياسي، أو حتى عنصري. لكن الحقيقة أن هناك من الغربيين مَنْ دوّن وسجّل، ربما من منطلق إثنوغرافي. فهناك من الرَّحَّالة مَنْ جابوا البلدان لأهداف تجارية أو بحثية أو حتى سياسية، وحرصوا خلالها على التدوين.

وربما وجدت واحدة من أهم الرَّحلات التي جرت في مطلع القرن السابع عشر التي تندرج ضمن أولئك المهتمين، وهي التي قام بها الرّحالة البرتغالي بيدرو تيخيرا الذي جابَ مناطق عدَّة في العراق والشام، وتحديداً من البصرة مروراً بالعمق العراقي حتى مدينة حلب، ودوَّن فيها أشياء كثيرة غاية في الأهمية، بعضها حَمَلَ جانباً إثنوغرافيّاً وآخر ثقافيّاً وأشياء أخرى.

تبدأ الرحلة في الخميس (السابع عشر من يونيو/ حزيران من العام 1604م) وكان منطلقها من هرمز. ويصف بيدرو تيخيرا المناطق التي مرّ بها وناسها والأنواء التي شاهدها بشكل دقيق، بما فيها المياه البحرية حين تكون ضحلة كمستنقعات كناوة، أو غزيرة. كما كان يصف بوشهر بأنها وفيرة الخبز والفواكه والخضراوات الجيدة، ويستعرض أحوال جزيرة خرج (أو خارك) الواقعة شمال شرق الخليج.

من الأشياء اللافتة والغريبة التي يذكرها تيخيرا وهو يصف العلاقة السيئة ما بين العرب والبرتغاليين، هو ذكره أن جوازات السفر وبطاقات الهوية كانت تستخدم في ذلك الأوان عند عرب تلك المناطق، وهو أمر جدير بالتأمل. نعم، ربما عُرِفَت رسائل العبور أو الوثائق في أوروبا وتحديداً فرنسا. لكن أن يكون ذلك معمولاً به في تلك المناطق العربية فهو أمر جدير بأن يُبحث ويُتعمّق فيه.

كذلك، يتحدث الرحّالة عن أشياء سمعها من سكان منطقة خرج (أو خارك) وهي أن مدينة كاملة كانت عامرة إلاّ أنَّ المياه غمرتها ليصبح سقفها. وهو وصف يعطينا صورة للكوارث التي كانت تحصل في تلك الفترة، وكيف أنها كانت بالشّدة ذاتها التي نشهدها اليوم وربما أكثر، ولحجم الخسائر البشرية والمادية التي كانت تحصل.

في إشارته إلى مدينة البصرة جنوب العراق يتحدث تيخيرا عن تعداد البيوت وليس الأنفس، إذ يحصيها في حدود 10 آلاف بيت، وهنا يمكن التقدير الديمغرافي لتلك المدينة. كما كان يصف بيوتهم وكيف أن الناس هناك يقومون بهدم أو ترميم بيوتهم كل ثلاث سنوات، نظراً إلى اعتمادهم على الآجر المجفف بالشمس، بينما البعض يتخذ الحصران وحزم القصب النهرية في بناء بيته.

كما يصف العتاد العسكري المنتشر في البصرة. فيشير إلى نوعية جيدة من المدافع ودار لصناعة السفن وغيرها، مع ثلاثة آلاف رجل ما بين تركي وكردي وعربي، لكنه يقول إن ذلك العتاد والعدّة لم يكن هدفها مواجهة البرتغاليين، إذْ كان الأتراك يهتمون أساساً بمواجهة موجات التمرد العربية.

من الأشياء اللافتة في يوميات الرّحّالة البرتغالي هو استخدامه لفظة «المحمّديين» حين يريد ذكر «المسلمين». والمعروف أن زيادة الياء المشددة في نهاية الاسم يحمل مدلولاً معنويّاً بعد أن يُركَّب، ويُصبح التفسير على أنه نسبة إلى مكان أو دم وخلافه. ومن هذا قد نقرأ الثقافة الدينية الأوروبية في تلك الفترة أنها اختزالية، وتنظر إلى الديانتين المسيحية والإسلام بشخصَيْ نبييهما: عيسى (ع) ومحمد (ص). وقد تكون تلك الثقافة من بقايا الحروب الصليبية أو لأسباب نجهلها.

من الأشياء التي تفاجأ بها الرّحالة البرتغالي بيدرو تيخيرا في جنوب العراق هو موقف المسلمين من المسيح، إذ يقول إنه شاهد منزلاً مُكرّساً لعيسى بن مريم، ومعه مساحات شاسعة من الأراضي والبساتين والنخيل الموقوفة له، لكنه لم يفصّل تحديداً نوعية ذلك التخصيص وهل أنه كان بمثابة الكنيسة أم ماذا.

يتحدث تيخيرا أيضاً عن مدينة النجف العراقية فيسميها: مدينة مشهد علي باللفظ ذاته الذي استخدمه ابن بطوطة. والفارق أن ابن بطوطة كان يُفرِّق بين محيط ضريح الإمام علي وبين مدينة النجف ذاتها فيقول ابن بطوطة: «فنزلنا مدينة مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنجف، وهي مدينة حسنة في أرض فسيحة صلبة من أحسن مدن العراق وأكثرها ناساً وأتقنها بناءً»، إلى آخر النص.

يواصل تيخيرا فيصف أحوال المدينة وكيف أنها في تلك الفترة كانت تعاني من الفقر وقلة المتصدقين على الضريح. وهو يُرجع السبب إلى وفاة الشاه الصفوي طهماسب الذي كان يهتم ويُجِلّ مدينة مشهد علي. وكان الفاصل ما بين وفاة طهماسب ورحلة تيخيرا 28 عاماً تقريباً.

بالانتقال إلى الجانب الجغرافي الآخر من الرحلة وهي حلب نرى الرّحّالة البرتغالي لا يتحدث عن مدينة حلب بشيء من التفصيل، وإنما يُفرد لتل الشراب وسفيرة وغيرهما من محيط حلب حديثاً أكثر. ولا نعلم ما هو سبب ذلك. لكن أقصى ما ذكره أنه وجد في حلب غرفة مؤثثة بشكل جيد كي يسكن فيها. وفي ثنايا الحديث يشير إلى بعض سكنة المدينة من الأجانب الذين يتملكون فيها الأبنية، ويستدل بأحدهم، وهو جوان باتيستا باغوزي، دون أن يُحدّد هويته أو أسباب وجوده في المدينة.

في المحصلة، وقائع الرحلة طويلة لكنها مهمّة وممتعة. وأرى من الضروري أن يتم الوقوف على تفاصيلها كي يتلمّس الباحثون الجزء الضائع من صورة العالم في تلك الفترة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5241 - الأربعاء 11 يناير 2017م الموافق 13 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:40 م

      موضوع جميل جدا وخصوصا مدينة مشهد علي وحلب الشهباء ليته يزورها اليوم ليرى أفعال الإرهابيين المجرمين

اقرأ ايضاً