العدد 5252 - الأحد 22 يناير 2017م الموافق 24 ربيع الثاني 1438هـ

من حروب العالم «المجهول»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل 45 عاماً حدث شيء هَزَّ العالم. هو ليس حرباً ولا تجربة نووية، بل كان اختفاء شخص! شخص؟ نعم. ماذا؟ ومَنْ؟ ومتى؟ وأين؟ وكيف؟ ولماذا؟ الحقيقة أن هذه الأسئلة «الستة» للخبر مشروعة، حتى بعد مُضِيْ أزيد من نصف قرن على ما جرى، لأن ذلك الحدث هو بالفعل حربٌ وليس اختفاء شخص فقط، بل هو سمَّاها حرب حين كَتَبَ: حربي الصامتة في مذكراته.

ففي مثل هذا اليوم (23 يناير/ كانون الثاني) من العام 1963، اختفى دبلوماسي بريطاني (ونجل دبلوماسي أيضاً)، وأحد كبار ضباط الاستخبارات البريطانية في العاصمة اللبنانية (بيروت) يُدعَى كيم فيلبي. لقد أدركت بريطانيا (وهي قلب أوروبا ومِعوَل هدم الشيوعية في القارة العجوز حينها) أنها مُختَرَقَة بالكامل من قِبَل الاتحاد السوفياتي. كان عليها الاعتقاد حتى اليقين بأنه لا يوجد شيء فيها إلاّ وعرفته موسكو عنها وعن حلفائها بالسواء.

كان الفضل في ذلك يعود إلى كيم فيلبي، الذي كان يعمل في جهاز الاستخبارات البريطاني ضمن درجات متقدمة، لكنه كان عميلاً للاتحاد السوفياتي في ذات الوقت. رجل «يجمع بين البراعة والقدرة والسحر». هكذا قيَّمه أرباب الاستخبارات والسياسة في بلاده منذ سبتمبر/ أيلول 1940. وكان من شِدَّة ذكائه، أنه كان يُصوِّر أباه لمنظومة الاستخبارات البريطانية أنه غير وطني!

قبل كل شيء كان هذا الشاب في الثلاثينات من القرن الماضي طالباً في جامعة بريطانية مرموقة، هي جامعة كيمبرج. في تلك الفترة بدأت الأفكار الشيوعية تتغلغل إلى الأوساط الاجتماعية في بريطانيا على وَقْع التوحّش الرأسمالي، وزيادة رقعة الفقر. ولأن فيلبي كان دارساً للاقتصاد في كلية ترينيتي، فقد أدرك ما تعنيه مفردة: فقراء أو أزمة مالية. منذ تلك اللحظة بدأت الحكاية.

لقد تشرَّب فيلبي الأفكار الشيوعية مؤمناً بأنها الأكثر عدالة وأحقية في أن تسود ضد الأفكار الرأسمالية، التي ترجع إليها أكثر ويلات العالم. هكذا يرى السوفيات صديقهم. لذلك تحوَّل من شخص يعيش في بيئة نخبوية تؤمن وتعمل تماماً ضد الأفكار الشيوعية، إلى واحد من أنصارها، الذي يرى فساد تلك البيئة.

في هذه الأثناء، كان ستالين قد ضاعف من قوة الاستخبارات السوفياتية الـ (كي جي بي) وجعل من إمكاناتها هائلة جداً. وقد بدا هذا الجهاز أمام أجهزة الاستخبارات الأوروبية كلها وحشاً كاسراً لا يُضاهَى. في تلك اللحظة، قرّر هذا الجهاز استثمار «إيمان» كيم فيلبي بالأفكار الشيوعية كي يُجنِّده لصالحه. وكان فيلبي يَهِمّ في تلك الفترة للانضمام إلى الحزب الشيوعي البريطاني.

بعث السوفيات ضابط استخبارات سري إلى بريطانيا. كانت مهمته هي أن يلتقي بفيلبي. وبعد لقاءَيْن قرّر السوفيات تجنيده. كانوا لا يريدون منه أن يكون أو يظهر كيساري بارز في بريطانيا بقدر ما يريدونه أن يكون «عدواً» للشيوعية، بتحوّله إلى الفاشية. وفي الخطوة التالية أن يبدأ بالعمل في جهاز الاستخبارات البريطاني نظراً لما يتمتع به من قدرات. كانت هذه هي الخطة.

بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية سنَحَت الفرصة لفيلبي كي ينضمّ إلى الاستخبارات البريطانية السرية، وترقّى فيها بسرعة مذهلة، بل ومسئولاً عن دائرة جغرافية كبيرة في أوروبا وتحديداً إسبانيا والبرتغال حتى جبل طارق. وكان فيلبي يعمل في عين أخبار المعلومات السرية.

لذلك، بات الاتحاد السوفياتي يحصل على معلومات من داخل بريطانيا بذات الكمية التي كانت تحصل عليها الحكومة البريطانية. وخلال الحرب العالمية، نقل فيلبي إلى الاتحاد السوفياتي 914 خبراً من صميم الاستخبارات البريطانية التي كانت تتلقفها عن تحركات هتلر. وكان من تلك الأخبار معلومات دقيقة عن ساعة الصفر بشأن معارك حربية مفصلية غيّرت مجرى الحرب لصالح السوفيات. لكن المهمّة التي قصَمَت ظهر لندن هي عندما دخلت في صراع مع موسكو.

لقد أصبح فيلبي رئيساً لقسم مكافحة الخطر الشيوعي في الاستخبارات البريطانية! كان هذا أمراً مذهلاً بالنسبة للاتحاد السوفياتي. هذا يعني أنه كان يعرف ما يُعلَم عن موسكو وماذا يُخطط له ضدها، ومَنْ هم العملاء الانجليز في داخل الاتحاد السوفياتي. لقد باتت موسكو تعرف كل شيء عنها في خزينة الانجليز، وتضع الخطط المضللة التي أرهقت بريطانيا واستنزفت أمنها.

ليس ذلك فحسب، بل كان يعلم ما يخطط له الأميركان ضد الاتحاد السوفياتي بسبب الصِلات التي كانت معقودةً بين الحلفاء (الانجليز والأميركان). وبهذا أصبح السوفيات يدركون ما ينتظرهم بكل هدوء. لقد أعطاهم كل شيء.

وبعد ثلاثين سنة من العمل لصالح السوفيات، جاءت اللحظة التي دفعت فيلبي للمغادرة إلى موسكو بعد انكشاف أمره. كان أمر سفره قد دبّره السوفيات من بيروت بطريقة معقدة وسرية جداً إلى الحدّ الذي لم تعرف زوجته به. وكان ذلك في مثل هذا اليوم الثالث والعشرين من يناير سنة 1963.

صورة فيلبي بالأساس لا تعكس عملاً فردياً وخاصاً، بقدر ما تمنحنا القدرة لقراءة حجم الصراع الذي كان محتدماً في تلك الفترة، وكيف أن خلف هذا العالم المرئي هناك عالَمٌ مكتومٌ هو الذي يدير ما يجري في حقيقة الأمر، على رغم كونه خاضعاً للقرار السياسي، لكن الأكيد، أن هذا ما جرى، وستظل تحكم العالم تلك القوى الخفية للقوى العظمى مسنودة بكل شيء، بما فيها الحروب القذرة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5252 - الأحد 22 يناير 2017م الموافق 24 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 12:47 ص

      تكملة...
      وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي نشر احد عملاء الــ"كي جبي بي" الروس كتابا اشار فيه الى ان الجاسوس الخامس في الشبكة هو فيكتور روتشيلد وهو ثري من عائلة روتشيلد عمل في المخابرات البريطانية في فترة ما قبل واثناء الحرب العالمية الثانية لكنه تقاعد منها وبقي على صلات قوية مع الكثير من رؤسائها واعضائها. اعترف روتشيلد بأنه فعلا الشخص الخامس في الشبكة. شكرا مجددا على المقال.

    • زائر 1 | 12:45 ص

      شكرا للمقال والمعلومات القيمة... تلك الحقبة ما تزال غائبة عن وعي نخب سياسية كاملة في بلداننا. لقد كان فيلبي واحدا من حلقة جواسيس سوفييت اطلق عليها "شبكة الخمسة"، اكتشفت المخابرات البريطانية أربعة منهم وبقي الخامس مجهولأ.. وفي كتابه "صائد الجواسيس" اتهم ضابط ام اي 5 السابق بيتر رايت أحد رؤساء الجهاز وهو روجر هوليس بانه الشخص الخامس، لكن لجنة تحقيق حكومية برأت هوليس من التهمة.

اقرأ ايضاً