العدد 5257 - الجمعة 27 يناير 2017م الموافق 29 ربيع الثاني 1438هـ

الاحتراب الطائفي ومستقبل الدولة الوطنية في العالم العربي (2)

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

أية مشكلة عربية لا تحل في إطار الجامعة بل يجري تدويلها، وهذا يطرح أحد الاحتمالات وهي:

1 - أن تتوصل الدول العربية المتصارعة إلى قناعة باستخدام الأدوات في يد الدول الكبرى، وبالتالي تتوصل إلى صفقة عربية تنهى الحروب والنزاعات وتطرح حلولاً توافقية وطنية، وتوافقاً على نمط العلاقات العربية العربية، وإعادة النظر جذرياً في جامعة الدول العربية.

2 - أن تتوصل الدول الكبرى بتفاهم مع الدول الإقليمية إلى صفقة كبرى، إدراكاً منها بأن استمرار النزاعات وتوسعها وامتدادها لساحات أخرى يهدد مصالحها، وقد انعكست فعلياً على عمليات الإرهاب في عقر دارها.

3 - ومع استبعاد هذين الخيارين حالياً، وإن لم يكن استحالتهما، هناك احتمال ثالث وهو الاحتمال الثاني الذي طرحة شعبان، أي استمرار الأزمة وتوسعها وتعمقها لتفتح آفاقاً أكثر خطورة من الوضع الحالي، لقد وصل الوضع العربي إلى حالة من الانحطاط لم يشهدها في تاريخه على كل الصعد القيمية والأخلاقية والسلوكية وصراعات مدمرة على مختلف الصعد، واحتراب ديني وطائفي وقبلي ومناطقي، واستباحة البلدان العربية للقوى الإقليمية والدولية، وتراجع مخيف في جميع الجوانب الاقتصادية والتنموية والصناعية والتعليمية والصحية، لقد تقطعت الروابط التي تجمع العرب، وهم يتراجعون إلى تكوينات ما قبل الدولة، وما قبل الإسلام، وما قبل العصر الحديث، إنهم يستجدون الدول الاستعمارية لإقامة قواعد عسكرية تحميهم من جيرانهم أو شعوبهم، ولم تعد إسرائيل هي العدو الأول، بل أضحت الحليف عند الكثيرين، ولم تعد القضية الفلسطينية قضيتهم الأولى ولم تعد الوحدة هدفاً منشوداً. وأضحى العرب منبوذين من العالم، ولا يحسب لهم حساب، وهم متفرقون، ولذا يجري سهولة التلاعب بهم واستخدامهم ضد بعضهم البعض، وهناك الكثير ما يمكن قوله في حالة الانحطاط العربي.

إن هذا يطرح مسئولية مضاعفة على النخب الثقافية والسياسية المخلصة لوطنيتها وعروبتها وإنسانيتها، أن تتمعن في هذه الأوضاع وتجترح الحلول، وتصيغ الأفكار لتتحول إلى حركة جماهيرية سياسية ومجتمعية فاعلة لإيقاف هذا الانحدار، أشبه بالصحوة العربية الوطنية والقومية في مطلع القرن الماضي رداً على الاحتلال العثماني وما تلاها من هجمة استعمارية صهيونية.

إن التاريخ العربي الإسلامي هو تاريخ الاستبداد المديد، وباستثناء فترة الخلافة النبوية والخلافة الراشدة، والتي شابتها أيضاً نزاعات دموية، وفترة حكم الخليفة عمر بن عبدالعزيز القصيرة الأجل، وجوانب من التسامح في بعض العهود العربية مثل العهد الذهبي للحكم العباسي والحكم الأموي في الأندلس، فقد تركت الشورى بما فيها، فإن الحكم العربي الإسلامي في ظل عهود الخلافات الأموية والعباسية والأغالبة والفاطمية والعثمانية وغيرها، فقد كان طابع الحكم العربي الإسلامي هو الحكم القائم على مفهوم الحاكم خليفة الله في الأرض، ومفهوم الرعية وقد لخصها الخليفة هارون الرشيد مخاطباً الغيمة أينما تذهبين يأتيني خراجك كما خاطب الحجاج أهل العراق، حتى تبلور مفهوم المواطنة من خلال النضال ضد الاستعمار الغربي وقيام الدولة الوطنية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث انتظمت الدول العربية المستقلة في جامعة الدول العربية والأمم المتحدة، والتي تنص مواثيقها على مجموعة من الحقوق للمواطنين، وتصور عام لنظام الحكم يقوم على الديمقراطية ومؤسسات التمثيل للمواطنين.

إذاً فإن هناك تراثاً عربياً وإسلامياً سائداً على تكريس مفهوم الحاكم والرعية، وإن الحاكم أدرى بشئون رعيته.

وقد تنوعت نظم الحكم العربية ما بين ملكية مطلقة، وملكية دستورية ولو شكلياً، ونظم جمهورية ما بين ديمقراطية المحاصصة الطائفية مثل لبنان وهو استثناء أو جمهوريات ديمقراطية دستورية ولو شكلاً. وكان هناك قدر من التعددية السياسية والحزبية، ودساتير، وتوزع للسلطات، ومؤسسات ديمقراطية مثل البرلماني والمحكمة الدستورية، باستثناء دول الخليج التي تأخر استقلالها حتى السبعينيات، واليمن الشمالي الذي كان يعيش في القرون الوسطى واليمن الجنوبي في ظل حكم الاستعمار البريطاني.

لا يمكن أن نصف نظم الحكم العربية غداة الاستقلال بالاستبداد، لكن الاستبداد زحف تدريجياً على الدول العربية، حيث قضى على نواة الديمقراطية والتعددية في بنية الدولة العربية، وذلك عبر تطورات كثيرة أبرزها الانقلابات العسكرية ضد أنظمة أو ضمن النظام، والتي أطاحت بأنظمة ملكية، وجمهورية في عدد من أهم الدول العربية الملكية الجمهورية. وبدلاً من أن تكون هذه الانقلابات التي سوق لها بعدة أسباب وبعضها لقي قبولاً من الجمهور الواسع، والعودة للحكم المدني. بصورة أفضل وتصحيح الاختلالات في النظم السابقة، إلا أنهم عمدوا إلى تكريس حكمهم، وذلك استناداً إلى مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والمخابراتية مع إعطائها المشروعية من خلال هيمنة الحزب الواحد منفرداً أو تحت يافطة الجبهة الوطنية. كما أن الحكم المنشق من ثورات شعبية كما في الجزائر واليمن الجنوبي مثلاً والواعدة بحكم الشعب من خلال قوى التحرير، قد تحول أيضاً إلى حكم استبدادي لحكم الحزب الواحد.

والمحصلة أن الحكم الاستبدادي قد ساد في معظم الدول العربية، باستثناء لبنان حيث المثل المشهور «قوة لبنان في ضعفه» وهكذا زحف الاستبداد الذي يتخذ ايديولوجية إسلامية أو وطنية بتلاوينها اشتراكية أو رأسمالية (شكلاً)، ليتمدد في جميع مؤسسات الدولة، وفي المجتمع والثقافة والتعليم؛ لكن الوطن العربي يواجه باستحقاقات أخطرها وجود إسرائيل واستيلاؤها على كامل فلسطين في 1948، ثم شن حروب متتالية بمشاركة أو دعم الدول الإمبريالية كما في 1956 و1967 لتلحق هزيمة ساحقه ضد دول الطوق مصر وسورية والأردن، والنظام العربي ولتحتل أراضي ثلاث دول عربية، لكنه في الحقيقة إلحاق هزيمة بالمشروع النهضوي العربي الذي مثله عبدالناصر، ومن هنا فإن النظام الاستبدادي العربي فشل في نهوض العرب والتقدم ومجاراة الشعوب الأخرى، ولكن العجز عن تحرير فلسطين بل وتوسع هذا الاحتلال، ثم ما يوقعه من تراجع تدريجي عن الثوابت العربية بتحديد العدو بإسرائيل والامبريالية بل جرى إبرام الصلح مع العدو الصهيوني، وفتح الوطن العربي على مصراعيه أمام عودة الإمبريالية عسكرياً وأمنياً وسياسياً وثقافياً، وهذا ما فتح الأبواب أمام تفاقم الصراعات الداخلية والصراعات العربية العربية والصراعات العربية الإقليمية ومثالها احتلال الكويت، والحرب العراقية الإيرانية والحرب الأهلية في السودان والصومال.

وإذا كان الطابع الاستبدادي متبايناً من نظام إلى آخر، فإنه إلى جانب استهداف الحريات العامة لكل الشعب، فإنها كانت تستهدف تيارات أو قوى سياسية معينة. فمثلاً استهدف الحكم المصري الإخوان المسلمين، واستهدف حكم البعث في سورية والعراق مختلف القوى المعترضة مثل الإسلاميين (الشيعة في العراق) والسنة في سورية والشيوعيين واليساريين، واستهدف الحكم في الجزائر اليساريين والأمازيع، واستهدف الحكم في المغرب القوى اليسارية والإسلامية المعترضة.

وفي ظل الاستبداد ومصادرة الحريات السياسية والعامة والحق في تعبير مختلف القوى السياسية والاجتماعية عن نفسها بطريقة مشروعة وشرعية على مختلف المستويات وفي جميع القطاعات والمؤسسات، بحيث تؤمن حراكاً سياسياً وتداولاً على السلطة في إطار النظام السياسي والدستور، فإنه من الطبيعي أن تلجأ هذه القوى إلى العمل السري، وتفكر في أساليب الثورة والتمرد والانقلاب وهو ما طبع الحياة السياسية العربية منذ الاستقلال حتى الآن، وتفجر في شكله الأكثر دموية بعد اندلاع الربيع العربي في فبراير/ شباط 2011 واتخذ طابع الحروب الأهلية والصراعات المسلحة والاضطرابات العنيفة تهدد بقاء دول عربية كما أشار إلى ذلك عبدالحسين شعبان.

أما بالنسبة لانبعاث التيارات الإسلاموية التكفيرية خلال السنوات الست التي تلت اندلاع الربيع العربي فاعتقد أنه يرجع إلى ما يلي:

1 - إنه وباستثناء دول مجلس التعاون التي تتخذ طابعاً وراثياً وإسباغ التقاليد والإسلام والحرية الاقتصادية على حكمها، والمغرب حيث تستند شرعية الحكم إلى ثورة الملك والشعب إلى الشراكة ما بين الثابت وهو حكم الملك العلوي، ومشاركة الشعب من خلال قواه السياسية والأحزاب والبرلمان وغيره في صيغ متفاوتة فإن معظم الأنظمة العربية، انفردت بالسلطة بالوسائل الجبرية، وطبع الحكم تأييد الحاكم بحيث إن مصر مثلاً وعلى امتداد تاريخها منذ ثورة يوليو/ تموز 1952 حتى 2011 قد حكمها ثلاثة حكام وهم عبدالناصر والسادات ومبارك، وسورية منذ الحركة التصحيحية البعث في 1970 حتى الآن فقد حكم اثنان وهما الأسد الوالد والأسد الولد، وفي العراق ومنذ وصول البعث للسلطة في 1968 حتى 2011 فقد حكم اثنان هم البكر وصدام، وفي الجزائر وفي ظل حكم جبهة التحرير منذ الاستقلال في 1962 حتى 2011 فقد حكمها بن بيلا وبومدين ومن جديد وبوتفليقة، وفي اليمن حكم علي صالح اليمن 32 عاماً، وتونس حكمت من الاستقلال في 1955 حتى 2011 بحاكمين بورقيبة وزين الدين، ويمكن القياس على ذلك في أنظمة عربية أخرى تحولت إلى حكم الحزب الواحد واختزلت في بعضها لحكم الأسرة.

وكان واضحاً غداة الربيع العربي، فقد كان الطابع الأساسي لأنظمة الحكم الاستبداد، ومن هنا فقد تفجر الوضع العربي في أكثر من بلد فيما يشبه الإعصار، بقوى ظلت تعمل تحت السطح وأهمها التنظيمات الإسلامية بمختلف تلاوينها السنية أساساً والشعبية هامشياً، واهمها الإخوان المسلمين والتنظيمات الجهادية مثل «القاعدة» وتفرعاتها، والتنظيمات الجهادية والتكفيرية التي رفضت في البداية شرعية الأنظمة الوضعية. وتكفير من يختلف معهم في العقيدة بل وتكفير المجتمع.

وبالطبع فقد لقيت هذه التنظيمات في ظل الصراعات العربية والإقليمية الدعم من قبل دول عربية وإقليمية، وكذلك من قبل إسرائيل والغرب.

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 5257 - الجمعة 27 يناير 2017م الموافق 29 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 10:58 م

      أحسنت أخي العزيز عبد النبي, مقال رائع, فالحكومات تحتاج أن تختلق الأعداء كي تبرر تواجدها بأنها موجودة لحماية هذة الشعوب. وهل يستطيعون تبرير تواجدهم من غير إختلاق الأعداء¿

اقرأ ايضاً