العدد 5283 - الأربعاء 22 فبراير 2017م الموافق 25 جمادى الأولى 1438هـ

ثمن الجاموسة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أصدرت محكمة في محافظة بابل حكماً بتغريم وزير الكهرباء العراقي قاسم الفهداوي 6 ملايين دينار عراقي. لماذا؟ إليكم السبب: خلال هطول الأمطار في مناطق مختلفة من العراق، ومنها بابل، وأثناء مرور قُطْعَان الماشية بقرية معيمرة اقترب جاموسٌ من الجواميس وهو يلتهم أعشاب الأرض من عمود إنارة، وما هي إلاّ غمضة عَيْن حتى صَقَعَ ذاك العمود الجاموس المسكين فأرداه قتيلاً.

الرَّاعي الذي تعود له ملكية الجاموس اتهم وزارة الكهرباء ممثلة في وزيرها بأنهم لم يقوموا بالصيانة اللازمة لذلك العمود، فرَفَعَ شكوى ضد الوزير الفهداوي. إحدى المحاكم الابتدائية في مدينة الحِلَّة نظرت في الدعوى وقررت تغريم الوزير 6 ملايين دينار (4 آلاف و 966 دولاراً) كَوْن الوزارة قصَّرَت في واجبها بعدم صيانة أعمدة الكهرباء مع هطول المطر ما تسبب بصعق الحيوان ووفاته.

محكمة التمييز الاتحادية في العراق ردَّت طعن الوزير على قرار المحكمة الابتدائية، فصدَّقت على الحكم بعد أن وجدته «موافقاً للقانون بعد إثبات الأوراق التحقيقية التقصير من قبل دائرة الكهرباء» حسبما جاء. وقد حدَّدت المحكمة ذلك المبلغ بناءً على ندبها لخبراء وصفوا لها الضرر والمبلغ المقدّر له، مع تحميل المدَّعَى عليه «كافة مصاريف الدعوى وأتعاب المحاماة». انتهى.

هذه القصة الطريفة تمنحنا مساحة للتأمل. فإنصاف الفقير الضعيف أمام الثري المتنفذ أمرٌ جيد. ومع تكرار تلك الأحكام المنتصرة للضعفاء تُعزز العدالة بشكل أفقي في المجتمع، لكن ذلك لا يعني أن العدالة هي في تلك الأحكام فقط، من جواميس وسرقة «الخردة» وبقية القضايا الصغيرة، بل هي أعمّ من ذلك، حين تصل إلى نخاع الفساد وبيئته لتحاسب المسئولين الكبار.

سألتزم هنا بما قاله رئيس هيئة النزاهة في العراق السيدحسن الياسري عندما دعا وسائل الإعلام إلى «عدم الانجرار وراء شائعات تفشِّي الفساد وترديدها من دون التأكد من صحتها من خلال الجهات المعنيَّة الرسمية». لذلك لجأتُ إلى بيانات هيئة النزاهة ذاتها كي أقِف على الأرقام الموثوقة على الأقل من وجهة نظر الهيئة. والحقيقة أنها أرقام جعلتني أفغر فاهاً وعينَيَّ تقفزان من مكانهما.

تقول الهيئة أنها وفي العام الماضي (2016م) استطاعت «استرجاع ومنع هدر وإيقاف صرف قرابة» ملياريْن و 151 مليون دولار. وصَدَرَ بحق عدد كبير من ذوي الدرجات الخاصَّـة والمديرين العامَّين و 16 وزيراً ومن هم بدرجتهم من الوزراء بالإحالة. وإذا ما أردنا الإنصاف فيجب أن نقول أنها أرقام يُشار لها بالإشادة، لكن في نفس الوقت هي تطرح مجموعة من الاستفهامات الأساسية في ذلك.

فإذا كان زياد طارق عبدالله القطان نائب الأمين العام الأسبق لوزارة الدفاع العراقية قد اتهِمَ في قضايا فساد قيمتها أزيد من 832 مليون دولار (تولى منصبه لمدة سنة واحدة فقط وجنى كل تلك الأموال)، فما هو مجموع المبالغ من 2500 متهم في سنة واحدة، بينهم أزيد من مئتين من كبار المسئولين، وخصوصاً أنهم كانوا يتسنمون مناصب حساسة وخدمية لمدد أطول؟

كذلك، لماذا كثير من أصحاب القضايا الكبرى هاربون خارج العراق ومن بينهم القطان ذاته، والمدير العام الأسبق للموازنة والبرامج في وزارة الدفاع، والمدير العام الأسبق لدائرة الرعاية الاجتماعية في وزارة العمل والشئون الاجتماعية، والمدير السابق لمصرف الرافدين (فرع جلولاء) وكذلك إحدى مسئولات بريد الرصافة وأحد مديري القطاع الخاص وغيرهم كثيرون ممن هم لم تصله يد العدالة؟!

عندما تدقق في الأسماء التي تنشرها الهيئة في قضايا مختلفة يدفعك ذلك للتساؤل. فمثلاً الموظفون الذين ثبت تقديمهم وثائق دراسية مزوّرة للوزارات والهيئات العراقية لا تجد فيهم أصحاب وظائف قيادية كبيرة، فأغلبهم إما حرفيون أو سواق أو موظفون عاديون وحراس. وكذلك الموظفون المعزولون من تلك الجهات، في حين يعجّ العراق من أمثال أؤلئك، ونُشِرَت بعض أسمائهم في السابق.

باعتقادي، ومع كامل التقدير لهيئة النزاهة إلاّ أن هذا الأمر لا يعالج أساس المشكلة في العراق؛ كون مصادر الفساد ورؤوسه ما تزال موجودة، وهي المسئولة أساساً عن تفريخ الفاسدين، وخلق بيئة خصبة للفساد، وإلاّ لما ظهر للهيئة فاسدون كل عام. فإذا لم يُقَم سدّ منيع فإن المياه ستستمر في الانهمار وتغمر كل مكان. وسيبقى العراق يحتل المرتبة 161 من بين 168 دولة في العالم على مؤشر الشفافية الدولية للفساد. فالقضية أكبر من اصطياد صغار الموظفين والكَسَبَة.

نعم، نعرف أن الفساد هو داء استشرى في العراق. وأنه يستقوي بأهم ثلاث قوى: النفوذ والإعلام والسلاح، وأن هيئة النزاهة العراقية فقدت ما بين العام 2005م والعام 2016م 62 فرداً من قياداتها وموظفيها، تم اغتيالهم أو تصفيتهم وذلك لردعها عن التصدّي إلى ملفات الفساد، لكن ما يجب على العراق القيام به هو جعل هذا الملف أول الأولويات حتى ولو دخلت معه في صراع على الأرض، ثم الاستفادة من دول حققت نسباً متقدمة في مكافحة الفساد، وإلاّ سيبقى الوضع هشاً والثقة في النظام السياسي ضعيفة، ما سينعكس سلباً على استقرار البلد الداخلي وتماسك جبهته الوطنية والسياسية أمام الخارج حتى.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5283 - الأربعاء 22 فبراير 2017م الموافق 25 جمادى الأولى 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 7:25 ص

      الفساد في كل مكان وليس في العراق فقط. حتى
      جيبك مشحون حب الفساد. ولا تنظر إلى البعيد
      بل انظر الى القريب وكفى. .

    • زائر 1 | 12:20 ص

      هكذا تربّي الأنظمة الفاسدة أجيالا من الفاسدين حتى اذا ارادت أمّة الخلاص من الفساد فإنه يصعب عليها ذلك ان لم نقل مستحيل .
      نظام صدّام خرّب ودمّر النفوس والقيم والاخلاق كما دمّر الطبيعة واهلك الحرث والنسل

    • زائر 3 زائر 1 | 1:58 ص

      نعم صدام فعل كل ذلك ولكن لماذا لم يصبح من جاؤوا من بعده أفضل منه؟؟؟

اقرأ ايضاً