العدد 5288 - الإثنين 27 فبراير 2017م الموافق 30 جمادى الأولى 1438هـ

‏‫الوحدة الوطنية والتفسير «المالتوسي» للأزمات الداخلية

رضي السماك

كاتب بحريني

في خضم الأزمات السياسية الداخلية العربية الراهنة والآخذة في التفاقم، ارتفعت كثرة من الأصوات التي تعلي من شأن الهويات الفرعية على حساب ثوابت الهُوية الوطنية الجامعة، ومهولةً من «المخاطر» المزعومة التي يشكلها وجود الآخر الشريك لأصحاب تلك الأصوات في الوطن الواحد، وذلك على نحو هوسي غير مسبوق تاريخياً منذ نيل البلدان العربية استقلالاتها بفضل دماء وتضحيات مكونات نسيجها الوطني كافةً، وعلى رغم ما استقر بعد ذلك في وجدان الجميع شعبياً ورسمياً على مبدأ احترام وتقديس «الوحدة الوطنية» طوال عقود ما بعد الاستقلال الوطني، إلا أنه جرى انتهاكه تدريجيا، في البداية كان يجري على استحياء، وخاصةً منذ مطالع التسعينيات؛ لكن سرعان ما تحول انتهاك المبدأ منذ مطلع الألفية إلى مايشبه الصورة المنهجية ليصل إلى أعلى ذرواته بلا خجل ولا رتوش على نحو ما نتابع فصوله المؤلمة الدامية حاليا.

لكن يُخطئ من يظن أن تلك الأصوات التي ما فتئت تدق نواقيس الخطر مُهولةً من وجود الآخر، شريكها في الوطن الواحد منذ قرون، هي وليدة اليوم من قِبل الطارئين على السياسة والذين يقدمون أنفسهم بصفة «نشطاء» في وسائل إعلام عربية، أو فضائيات تلفزيونية تستضيفهم، متوهمين عظمة شأنهم، وهم لا يكادون يفكون الحرف أو ينطقون بجملة واحدة مترابطة فصحى صحيحة، ذلك بأن مثل تلك الأصوات ما كانت لتجرؤ أصلاً على هتك عصمة ذلك المبدأ الوحدوي النبيل السامي، لو لم تكن أصواتهم صدى لسياسات قائمة تقف خلفها جهات عليا مُتنفذة متربصة في أعلى دوائر صنع القرار السياسي بالدول العربية المنكوبة بتلك الأزمات السياسية، وهنا بالضبط مكمن خطورتها، حتى بات أصحاب هذه الأصوات لا يتورعون وبلا حياء عن توظيف «النظرية المالتوسية» ليس فقط في تفسير الأزمات الاقتصادية، كما يفعل كبار الرأسماليين، بل والسياسية أيضاً، بغض النظر عن جهلهم بهذه النظرية لتدني مستوى ثقافتهم العامة السياسية والاقتصادية. وهذه النظرية، كما شرحناها لماماً في مقال سابق، تعود إلى القس الإنجليزي توماس روبرت مالتوس (ت 1834) وهي تعلل باختصار شديد تفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية وعدم كفاية الانتاج الغذائي بالتزايد المطرد للسكان.

والحال إن تحميل مسئولية ظاهرة «التجنيس»، على حد زعم آخر «نموذج» من تلك الأصوات، إنما يتجاهل ان الجأر من تناميها الرهيب بلا ضوابط بات شكوى وطنية عامة يئن من ثقل وطأتها الجميع لا طائفة بذاتها، والشواهد على ذلك أكثر مما تحصى، يكفي مثلاً بأنه لا تكاد صحيفة من صحفنا المحلية إلا وتناولها قلم أو أكثر من أقلامها، محذراً منها بهذا القدر أو ذاك بين الفينة والاخرى، بل يكفينا ماتعج به وسائل التواصل الاجتماعي يومياً من شكاوى الجميع على اختلاف انتماءاتهم الفئوية مستغيثة من تحولها إلى كارثة مستديمة حقيقية، دع عنك ما يعج به الواقع اليومي من مشاكل اجتماعية وخدمية ومعيشية وإسكانية وتعليمية لا حصر لها.

واللافت حتى بافتراض صحة ما تهوّل منه تلك الأصوات إنما تُطلق على عواهنها، دون أن يملك أصحابها أي مؤشرات احصائية علمية للمقارنة بين معدلات الخصوبة والتكاثر والوفيات لدى كل فئة على حدة، بل انطلاقاً من انطباعات متسرعة، ناهيك عن ان مثل تلك المؤشرات لا وجود لها أصلاً لما تحمله من أبعاد لا أخلاقية تمس مشروعية الدولة الحديثة كممثلة لكل مواطنيها جميعاً بدون استثناء. وقصارى القول ان إعادة بناء «الوحدة الوطنية» في أقطارنا العربية هي المهمة التي لا ينبغي ان تعلوها أي مهمة اخرى مهما كانت التعقيدات الجمة التي تكتنفها، وهي وحدها صمام الأمان والصخرة التي تتفتت عليها كل المؤامرات الداخلية والخارجية من إقليمية ودولية التي تستهدف أوطاننا، إن أردنا حقاً أن نتصدى لها وليس من خلال وصم الآخر شريكنا الأبدي في الوطن حتى يرث الله الأرض ومن عليها، بضلوعه في تلك المؤامرات وشيطنته. ونحسب بأن مستلزمات إعادة بناء الوحدة الوطنية معروفة جيداً سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً ودينياً وإعلامياً يجمعها الحاجة الملحة لإطلاق مشاريع إصلاحية ديمقراطية جذرية جديدة، أو على الأقل بث الروح في الموجود منها وتطويره أو تجديده، وهي مسئولية تتحملها بالدرجة الأولى أنظمتنا العربية، وبدون ذلك ستظل شعوبنا العربية، وهي على حالها الراهن المُفتت، لقمة سائغة في أفواه أعدائها في الداخل والخارج ممن يقتاتون ويتاجرون على هذا التفتيت ويمعنون فيه.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5288 - الإثنين 27 فبراير 2017م الموافق 30 جمادى الأولى 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 6:07 م

      لم يكد جرح التجنيس يندمل إلا واستيقضنا على الآسيويين أكلوا الأخضر واليابس حتى كادوا أن يأكلونا وعلى الأجيال القادمة السلام

    • زائر 2 | 2:04 ص

      هذه كلها احقاد ونشر ثقافة كراهية
      أمراض.

اقرأ ايضاً