العدد 5364 - الأحد 14 مايو 2017م الموافق 18 شعبان 1438هـ

علي عمر محمد... أو الوجه السوداني الجميل في البحرين

يوسف مكي (كاتب بحريني) comments [at] alwasatnews.com

كاتب وباحث بحريني

في معظم الأحيان تسوقنا الأقدار إلى مصائر ومطارح لم تكن في البال مطلقاً، بحيث يتقرر شكل حياتنا ومصيرنا بالارتباط بهذا المكان وببشره وحجره وشجره. هذا المكان الذي لم يخطر على بالنا، إنه المكان الذي نعيش فيه ونموت فيه، بقرار أو بحكم الأقدار، لا فرق. يتقرر مصيرنا وأحلامنا فيه.

والأمثلة في هذا الشأن كثيرة، وأكثر من أن تُعد وتُحصى. أما مثالي الملموس في هذا السياق فهو الصديق والزميل في مهنة الصحافة طيب الذكر الذي غادرنا في الآونة الأخيرة المرحوم علي عمر محمد، المواطن السوداني، ولكنه البحريني الهوى حتى النخاع.

هو السوداني الذي قضى نحو ثلاثين عاماً في البحرين، وهي أخصب فترات عمره موزعاً بين الصحافة وشئون التحرير والترجمة والاهتمامات الثقافية العامة. مقدماً خلاصة عمره لهذا البلد.

علي عمر قضى شطراً من عمره في السودان؛ لكنه يمم صوب الخليج فاستقر فترة في الإمارات العربية المتحدة عمل خلالها في جريدة الاتحاد رئيساً لقسم الترجمة، ثم مديراً للتحرير في جريدة الفجر، ثم حط رحاله أخيراً في البحرين سنة 1989 ليستقر فيها نهائياً هو وأسرته، ويقرر أن روحه الطاهرة لن تبرح البحرين وستظل ترفرف في سماء هذا البلد، وأن جسده النحيل والرشيق وبطوله الفارع لن يحتويه مكان آخر غير تراب البحرين. وهذا ما حدث بالضبط قبل أيام. توفي يوم الجمعة الموافق 28 أبريل/ نيسان العام 2017 .

أما معرفتي بعلي عمر فتعود إلى بدايات تأسيس جريدة الأيام في 1989 حيث عملنا سوية على امتداد أربع سنوات. هو في مجال التحرير (الديسك) والترجمة حيث عمل رئيساً لقسم الترجمة، وأنا بين قسم التدقيق اللغوي وقسم المحليات والملتقى (بريد القراء) وأخيراً في القسم الثقافي بالجريدة، حيث كنت أتلمس طريقي إلى مهنة الصحافة حينذاك.

ومنذ هذه اللحظة تعمقت صداقتي وزمالتي معه، واستمرت حتى بعد أن أخذتنا الحياة في طرائق مختلفة ومجالات متباينة وأماكن شتى، وأكثر من ذلك اتسعت صداقتي به لتصبح صداقة عائلية ومازالت كذلك. أي صداقة بين عائلتين.

ولا أذيع سراً عندما أؤكد أنني في مرحلتي الصحافية كنت كثيراً ما أستشيره بحكم خبرته الطويلة - وقلة خبرتي - واطلاعه الواسع على مهنة الصحافة وفنياتها ودهاليزها من جهة، وبحكم كونه أحد المثقفين السودانيين وعلى اطلاع واسع بشئون السياسة والفكر والثقافة من جهة أخرى، فكان بذلك خير معين لي في بداياتي الصحافية، وكان كريماً ودوداً معي كعادة أهل السودان، ولم يبخل عليّ قط بنصيحة أو باستشارة، هذا هو علي عمر.

كان علي عمر صحافياً بامتياز كما كان مترجماً متمكناً من اللغة الإنجليزية واللغة العربية بطبيعة الحال، وكان متذوقاً للفنون، ولديه رؤية نقدية للنتاجات الثقافية عموماً، وكان متابعاً شغوفاً للإصدارات الأدبية، حيث كان يوجهني إلى بعض الإصدارات أو النتاجات الثقافية وأهمية الكتابة عنها ونقدها، يضاف إلى ذلك روحه المرحة والنكتة المحببة إلى النفس التي يطلقها من حيث لا تحتسب. لتموت من الضحك.

أما أهم ميزة في شخصيته فهي هدوؤه وصوته الخفيض واحترامه الجم لكل من حوله ولكل من زامله، وابتعاده عن النقاشات البزنطية، لذلك فهو شخصية تدخل إلى القلب والروح دون استئذان، وعلى هذا الأساس وجدت -أنا- من جانبي فيه الصديق الصدوق الذي يبني علاقاته معك لذاتك ولشخصك وليس لشيء آخر.

إن علي عمر وكما عرفته نقي كنقاء أهل السودان وعذب كماء النيل في السودان، وطيب كطيبة أهل البحرين، فهو بذلك جمع أجمل وأفضل ما لدى الشعبين الشقيقين. إنه إنساني بامتياز.

أقول استمرت صداقتنا وأصبحت عائلية، فكنت أزوره بين فترة وأخرى، ولكن ليس بما يكفي من الزيارات، وكان يستقبلني هو وأسرته بكل حفاوة وتقدير ونظل نستعيد ذكرياتنا في العمل الصحافي وعن لقاءاتنا المتكررة خارج أوقات العمل، هذا فضلاً عن التطرق إلى أمور الحياة.

عندما التقيته لأول مرة شعرت أنني أعرفه من زمان، وكان وقتها في حدود الخامسة والأربعين من العمر وفي قمة عطائه. وهو من جانبه رأى فيّ أحد أبنائه وكنت أتلمس بداياتي في مهنة الصحافة، فكأن علاقتي به أشبه بعلاقة الشيخ بالمريد.

بطبيعة الحال قضينا أوقاتاً جميلة لاتنسى تبادلنا الزيارات وكل ما هو إنساني نبيل، وهو الرجل النبيل الذي يستحق كل تقدير وتكريم.

في سنواته الأخيرة، وربما آخر مرة زرته فيها كنت استشعر فيه تعب السنين، وأنه بات متعباً وفي عينيه شيء من القلق الدفين. لا لشيء وليس خوفاً من المصير المحتوم - فكل الأنام إلى ذهاب - وإنما خوف على مصير عائلته وخاصة أولاده الذين رافقوه في رحلته المضنية، وبعضهم أطفال والبعض الآخر ولد في البحرين وتفتحت عيونهم على سماء البحرين وتنفسوا هواء البحرين، وأصبحوا مواطنين بالروح كأبيهم وإن لم يحظوا بشرف الجنسية حتى الآن.

علي عمر: السوداني/ البحريني على رغم الرحيل سيظل في ذاكرة زملائه وأصدقائه، لا لشيء سوى أن شخصيته من النوع الذي يدخل إلى النفس دون استئذان، ويظل محفوراً في الذاكرة حتى مع تقادم السنين.

في أيامه الأخيرة مرض علي عمر مرضاً خفيفاً، وكان يمازح أهله ومحبيه عندما يعودونه في المستشفى بأن يعودوا إلى بيوتهم فيبادرونه بأنه سيكون معهم في البيت في اليوم التالي وسيغادر المستشفى، فيبادرهم بأنه سيذهب إلى بيت آخر هو البيت «العود»، أو البيت الكبير، مستشعراً بتفكيره الحاد أن المنية قاب قوسين أو أدنى؛ لكنهم كانوا يعتبرون أن ما يقوله مجرد مزحة. إلا أنه لم يكن يمزح، بل كان من الصادقين.

علي عمر رحل عن عالمنا عن عمر 72 عاماً، فهو من مواليد 1945 قضى منها نحو النصف في البحرين. إلا أن علي عمر أيضاً لم يرحل وحيداً فقد حفت به عائلته ومحبوه وبعض أصدقائه لينام قرير العين بعد رحلة مضنية ومتعرجة من السودان عبر الإمارات إلى الاستقرار نهائياً في البحرين.

وكما كان له أثره البارز في حياته، فقد ترك أثراً رائعاً وجميلاً بعد مماته، إنه الأثر الباقي من علي عمر الذي سيكمل مشواره بشكل أو بآخر، إنها عائلته، أبناؤه الأربعة طارق، وخالد، وياسر، وعمر، وابنته سارة، وزوجته الفاضلة أم طارق.

علي عمر باختصار هو الوجه السوداني المشرق والجميل الذي سطع في سماء البحرين خلال ثلاثة عقود، ورحل عنا، ليترك أعز وأغلى مالديه أمانة في هذا البلد. إنه يمثل نموذج الشخص النادر، فقد عاش بهدوء ودون ضجيج وعمل بصمت دون جلجلة، ورحل عن عالمنا بهدوء ليترك لنا نحن الأحياء وأصدقاءه وزملاءه خاصة، سيرة عطرة، وذكرى طيبة لن تُنسى أبداً.

فقط أقول وأنا أنهي مقالتي عن علي عمر، وهو الذي قدم كل غال ونفيس في سبيل البحرين وكان له دور في مجال الترجمة الصحافية بمختلف مجالاتها، كما عمل في مؤسسات مهمة كمترجم مثل مركز البحرين للدراسات والبحوث، واللجنة الأولمبية البحرينية، وأخيراً في ديوان رئيس الوزراء، وأصبح له بصمته في الشأن العام في هذا البلد، أقول إنه يستحق كل تكريم، وأظن أن أفضل تكريم له بعد رحيله هو منح أولاده وابنته وزوجته شرف الجنسية البحرينية، وفي أسرع وقت ممكن. فأمثال علي عمر يستحقون لفتة تقدير في حياتهم وفي مماتهم. ولأنه لم يحظ بهذا التقدير في حياته فعلى الأقل بعد رحيله.

تغمد الله الفقيد بواسع رحمته، وألهم ذويه الصبر والسلوان. وتحية إليه في حياته وفي مماته. كما نعزي أنفسنا لأننا فقدنا صديقاً صدوقاً قل نظيره، ولا يمكن تعويضه بأي حال من الأحوال. رحمك الله يا أبا طارق. فقد كنت نعم الصديق ونعم الزميل.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"

العدد 5364 - الأحد 14 مايو 2017م الموافق 18 شعبان 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 2:50 م

      لله ماعطي ولله ماخذ ولكل اجلآ كتاب رحمك الله يا ابوطارق واسكنك الفردوس الاعلي من الجنه هذا هو الرجل السوداني نفتخر نكون من هذه البلد السمرا الطيبون اهلها طيبه كماء النيل الصافي من دون شوائب اخوان في كل المواقف الرجل السوداني اسمر في بشرته وابيض في قلبه هذا هو الرجل السوداني الاب والاخ والزوج والابن نمثل بلدنا في المحافل الدوليه ورؤسنا مرفوعه لاننا ننتمي الي تلك البلد الطيبه السودان انجبت رجال اسود في كل الموافق نسال الله العلي القدير ان يجعل البركه في زريته ويحفظ البحرين وكل الدول الاسلاميه يارب

    • زائر 7 | 3:37 م

      مقال قمة في الروعة
      صاغته اناملك بإحساس مرهف وبلاغة مطلقة وبيان غني عن الإشادة والمدح دلت على نفس طيبة ومعدن أصيل تجلى امتداد جذوره لأخمص قيعان الأرض ونبل مشاعر تصافت مع أصدق معاني الإنسانية ففاضت قيما وأخلاقا نَدُر وجودها.
      فأنت نتاج للبلاغة في أوج ازدهارها وسلطان التعبير وفيلسوف الفكر المستنير
      وإنا إذ نفخر بكم نفخر بشخصية رائعة تمتلك الكثير والكثير من المقومات التي خلت منها البشرية جمعاء
      أخي العزيز على قلوبنا الكاتب والمتألق بمعنى الكلمة ..
      كم أثلجت صدورنا بمقالك الذي

    • زائر 6 | 1:00 م

      للبحرين الشرف العظيم بأن يعطر ترابها هذا الجسد الطاهر النبيل جسد المغفور له بإذن الله الأستاذ السوداني الرائع و الصحفي العظيم السيد علي عمر و الذي يشهد له التاريخ في السودان و الامارات و البحرين و الخليج و الوطن العربي و الصحافات العالميه بتطويره لمجال الصحافه و بذله الغالي و النفيس لتدريب كل من يرغب في هذا المجال بكل حفاوه و اهتمام فمثل هؤلاء هم من تتشرف البحرين بأن يحملوا اسم هذا البلد و جزاك الله كل خير أيها الصحفي الرائع يوسف مكي على عرفانك و جميلك لهم إنما تصرفك يدل على جوهرك الاصيل

    • زائر 4 | 7:54 ص

      رحمه الله واسكنه الفردوس الأعلى لن أقول والدي ولكن كان والد الجميع ومحب للجميع دون تمييز . وجزاك الله كل الخير يا أستاذ يوسف على هذا المقال الذي يجسد محبتكم العظيمه للراحل.

    • زائر 3 | 2:56 ص

      اللهم ارحمه واغفر له واسكنه الفردوس الأعلى وارزقه النظر الى وجهك الكريم , بارك الله فيك استاذ يوسف وجزاك الله خير الجزاء ,أمثال هؤلاء تبقى ذكراهم تصدح في قلوبنا وعقولنا , اللهم الهم أهله واصدقائه الصبر والسلوان

    • زائر 2 | 12:46 ص

      رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته ،، أنصفت الرجل أيما إنصاف يا أستاذ يوسف ،، جزاك الله خير وفي ميزان حسناتك

    • زائر 1 | 11:41 م

      الله يرحمه ويغمد روحه الجنه

اقرأ ايضاً