العدد 542 - الأحد 29 فبراير 2004م الموافق 08 محرم 1425هـ

الاختلاف بين العقلانية الإسلامية والعلمانية الأوروبية

فرنسا ومعركتها ضد الحجاب «العرفي» وليس الخمار «الاسلامي» (1-2)

محمد أبوالقاسم حاج محمد comments [at] alwasatnews.com

.

تدور معركة راهنة ومشهودة في فرنسا بين «الدولة» وما اصطلح عليه «بالحجاب الإسلامي». ومن ثم اتخذت المعركة طابع الصراع، ما بين «النهج العلماني» و«الأخلاق الدينية». وتطورت الى استهداف ما اصطلح عليه «بالأصولية الإسلامية». وتمت «المقاربة» ما بين هذه المعركة ومعارك «الفرنج/ الصليبية» ضد المسلمين العرب، والتي استمرت عبر سبع حملات طوال الفترة (بين 1095 و1270).

ورُبط ذلك كله بالعولمة الأميركية التي أعلنها الرئيس جورج بوش (الأب) في جلسة الكونغرس بتاريخ 11 سبتمبر/ أيلول 1990م قبل عقد من الزمان على تفجيرات نيويورك بالتاريخ نفسه العام 2001.

تفكيك دلالات المصطلحات أولا

قبل أن نشرع في تحليل ابعاد هذه المعركة، علينا أن (نفكك) المصطلحات المستخدمة أولا. وذلك لفهم دلالاتها لنضع المعركة في إطارها المفهومي conception الصحيح.

منذ أن أعلنت فرنسا في العام 1905 التزامها بالعلمانية، تأسيسا على مبادئ وروح الثورة الفرنسية في العام 1789 استبعدت الدولة الفرنسية «التمظهر الديني» داخل أروقتها «الرسمية» ولم تمنعه في المجتمع وفي الشارع والمدارس «الخاصة» ودور العبادة.

فالعلمانية sacularism هي توجه سياسي ليبرالي (political liberalism) وليست عقيدة وفلسفة وجود (Antology). فالموقف العلماني الليبرالي الفرنسي وفي الحضارة الغربية عموما، مؤسس على الصراع ضد اللاهوت (Mythology) في الفكر الديني (البشري) المسيحي الكاثوليكي بالذات. وليس ضد الدين وضد هيمنة (السلطة الكهنوتية) الكنسية التي استلبت الارادة السياسية والحرية العقلية للإنسان. فالعلمانية الليبرالية هي اتجاه «الانسية» الانسان ( Humanism) بمعزل عن جميع أنواع الجبريات العقائدية Compulsive التي تمارس عليه باتجاه ايماني أو إلحادي.

فالعلمانية الليبرالية بنزعتها (الانسية) هي ضد الثيوقراطية اللاهوتية. وفي الوقت ذاته ضد الدكتاتورية السياسية وليست ضد الدين. وهذا ما كان عليه موقف الفيلسوف الفرنسي فولتير (1694/1788) المؤسس الحقيقي للعلمانية الليبرالية. وقد توفي قبل عام واحد من اندلاع الثورة الفرنسية.

وكان فولتير فيلسوفا مؤمنا بالله - سبحانه وتعالى - ولكنه ضد الحكم المقدس الملكي واللاهوت والثيوقراطية الكنسية. ودافع في كتاباته عن الدين والتدين وتصدى لفلسفة (سبينوزا) التي وصفها (بالالحاد) كما وصفه بالحماقة في كتابه «الفيلسوف الجاهل».

وفولتير هذا نفسه كان يكره (الكهنة) وما صنعوه من لاهوت أو (وعي ديني زائف) يخرق ابسط مقولات العقل الانساني. ولهذا باتت قولته الشهيرة «إن اللاهوت هو ثمرة لقاء أول (كاهن محتال) بأول أحمق من البشر» ولهذا رفض الامتثال لطقوس(الاعتراف الكاثوليكي) لدى احتضاره بين يدي قسيس، وأملى بدلا عن ذلك العبارة الآتية:

«أموت على عبادة الله ومحبة أصدقائي وكراهية أعدائي ومقتي للخرافات والاحكام والأساطير الدخيلة على الدين». وحررت الورقة مع تاريخ وفاته (28 نوفمبر/ تشرين الثاني 1788). ورفضوا دفن جثمانه في مقابر المسيحيين.

وهذه النزعة الأنسية المماثلة لنزعة فولتير واضحة في كتابات الرواد في مدرسة العقلانية الإسلامية كالجاحظ (256هـ/ 869م) والتوحيدي (414 هـ/ 1023م)، وتفسيرات فخر الدين الرازي (609هـ / 1209م)، وواصل بن عطاء (131 هـ/ 749م)، والشيخ الرئيس الفيلسوف أبوعلي الحسن بن سينا (980 / 1037م)، وأبونصر الفارابي (874 / 950م)، ووليِّ الدين عبدالرحمن بن خلدون (1332/ 1406م)، وابن طفيل الأندلسي (1106/ 1184م)، وابن الصايغ محمد بن باجة المتوفى العام 1139م.

أما أبوالوليد بن رشد (1126/1198م) الذي يعرفه الغرب الأوروبي باسم «أفيروس» فهو «القمة الكبرى» الذي دفع بفكر التنوير ضد اللاهوت واخترق أسوار أكاديمية فلورنسا حين غزاها فكره مطلع القرن الرابع عشر إلى الخامس عشر الميلاديين، كما اخترق فكره سياج الدغمائية اليهودية التراثية، فولدت بتأثيره مدرسة ابن ميمون وكتابه الشهير «دلالة الحائرين».

والفرق أن روادنا المسلمين قد واجهوا اللاهوت الخرافي في مبتدأ التراث الإسلامي، مستعينين بالنص القرآني في داخل «النسق» الإسلامي، في حين أن الرواد الأوروبيين كفولتير عانوا من «اضطراب» النصوص الانجيلية، ولهذا مساق آخر.

الوضعية ضد الدين وليست العلمانية:

هناك خلط كبير في تداولنا للمفرادات والمصطلحات بين «العلمانية» و«الوضعية»، فالفلسفة الوضعية Positivism التي أسسها (أوغست كونت 1798 / 1875م) هي التي أحدثت «القطيعة المعرفية والفلسفية» مع الدين، إذ جعلت من الدين مرحلة ابتدائية وخرافية في تطوير العقل البشري، ثم تأتي بعده المرحلة الميتافيزيقية - التأملية، فوق قوانين الطبيعة، ثم تنتهي المرحلتان اللاهوتية الغيبية Theology / Mythology وما فوق الطبيعة Metaphysic لتحل محلهما المرحلة الوضعية. وعبر هذه المرحلة الوضعية تأتي ثنائية «الانسان والطبيعة» بمعزل عن الدين. فوضعية كونت هي الأب الشرعي لفلسفات الإلحاد والعدمية التي انتهت إلى المادية الجدلية. ولا علاقة لفرنسا وعلمانيتها بكل هذه الوضعية وفلاسفتها.

فالعلمانية الليبرالية الفرنسية هي موقف يؤكد «الانسية» في التوجه الفكري. ويطلق حرية الإرادة والعقل الإنسانيتين، أي «جدل الإنسان» من دون أن يلغي «جدل الغيب الإلهي» أو «جدل الطبيعة وقوانينها». وهو موقف الرواد من فلاسفتنا مع اختلاف «النسقين» العربي الاسلامي والأوروبي المسيحي.

الفارق بين ليبرالية الغرب العلمانية وعقلانية الفلسفة الإسلامية:

في الوقت الذي يلتقي فيه رواد الفلسفة الإسلامية - من الذين ذكرنا بعضهم تحديدا كمثال - مع رواد الليبرالية والعلمانية الغربية كفولتير في استبعاد «السطة الثيوقراطية»، وتأكيد «الحرية الأنسية» فإن معالجة النص الديني في تختلف باختلاف النصوص نفسها بين القرآن والكتب الآخرى.

فالليبرالية في الفلسفة الاسلامية تنطلق من «العائلة» وليس «الفرد»، فلا تمتد للإباحة خلافا لمنطق الموسوعيين الفرنسيين مثل «ديدرو» الذين جعلوا من الانسان مجرد «امتداد غريزي» أشبه بالبهيمي للطبيعة بكل نزواتها. فالفلاسفة المسلمون دافعوا عن الليبرالية بمنطق «الحرية»، ثم قيدوا الحرية إلى «الأخلاق الدينية» خلافا لليبرالية الغربية التي نزعت نحو الفردية.

كذلك يلتقي رواد الفلسفة العقلانية الإسلامية مع نظرائهم الغربيين في «علمانية الدولة»، ولكن من مدخل آخر هو «رفض الاستبداد» وأوضحهم في تراثنا عبدالرحمن الكواكبي ومؤلفه «طبائع الاستبداد» وعلي عبد الرازق ومؤلفه «الاسلام وأصول الحكم» (1343/ 1925م). وهناك مقال ينشر للمرة الأولى لعلي عبد الرازق بعنوان «الديمقراطية والدين» تقديم نبيل فرج - مجلة «الديمقراطية» - السنة الثانية - العدد السابع - يوليو 2002م». ونفى فيه «أن تكون الخلافة من الدين في شيء وإنما هي «بدعة» لم يرد بها نص أو يرد لها ذكر في الكتاب والسنة».

فعلمانية الدول لدى رواد العقلانية الإسلامية مدخلها تحقيق «العدل» و«الحرية». وفي إطار ذلك يتولى المجتمع «الرقابة» على الدولة وتقويم اعوجاجها عن النهج الإسلامي «بالنصيحة» في إطار «الشورى». فالعقلانية الإسلامية تقوم على «ثنائية» العلاقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع. ويدور الأدب السياسي الإسلامي في هذا الإطار ليمنع أية نزعة ثيوقراطية. فكلاهما علماني ليبرالي مع تفاوت النسقين العربي الاسلامي والأوروبي المسيحي. أما الإطار السياسي فهو واحد في الحالتين. وفي الكيفية نفسها التي وجد بها خصوم الليبرالية والعلمانية في أوروبا من لاهوت وكهنوت كنسي، كذلك وجد هؤلاء الخصوم في تاريخ الإسلام والمسلمين، حتى قيل إن المال هو مال الله - سبحانه - وليس مال المسلمين يتصرف فيه «الخليفة» كيف يشاء، وإن الخيرة الاتوقراطية في قريش، وان الخلافة هى تجسيد «للحاكمية الالهية» وبمعزل عن «حاكمية الكتاب». سادت هذه المقولات وتجذَّرت لاهوتيا بحكم سيادة الاستبداد في مختلف عهود التاريخ الإسلامي، في حين حُذف المفكرون والفلاسفة العقلانيون الذين ذكرناهم. ومازالت مناهجنا التربوية والدينية والثقافية تبعا لفقهاء السلطة الاستبدادية والصراع بين «الاسلاميين» و«المتشددين» في طهران خير دليل. وهو استبداد لا يسنده فقط «التخريج الانتقائي» من النص، كما فعل أبوالأعلى المودودي (1903/1979م) وسيد قطب (1906/ 1966م) حين قالا «بالحاكمية الإلهية» خلافا «لحاكمية الكتاب». وإنما تسنده مركبات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والفكري ما قبل مراحل التطور الصناعي ونشوء الطبقات القادرة على إحداث الثورات والتغيير الجذري، كما حدث في المسار الأوروبي منذ القرن السادس عشر. فالمركب العربي/ الاسلامي طوال تاريخه هو مركب يعتمد على الإنتاج الطبيعي ما قبل الصناعي والعلاقات العشائرية، إذ يغلب العرف الاجتماعي والقيم الأخلاقية والثقافية على النص الديني، ويصادره بتأويلات شتى، ثم تقدس هذه التأويلات ويقدس الناطقون بها

العدد 542 - الأحد 29 فبراير 2004م الموافق 08 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً