العدد 563 - الأحد 21 مارس 2004م الموافق 29 محرم 1425هـ

«نوروز» الشرق تحت المجهر

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

ثمة مناسبات تحتفل بها الأمم والشعوب لا يتجاوز عمرها فترة حكم أمير، أو عهد نظام حكم ما، أو حقبة تاريخية معينة، ثم ما تلبث أن ترحل عن ذاكرة الناس وتصبح في أرشيف الزمان.

بالمقابل ثمة مناسبات أخرى تمر القرون تلو القرون عليها وهي «صامدة» كالأوتاد في مكانها تفخر على امتداد الأزمان في مراكب التاريخ وتتسع كالدوائر البحرية المتوالية في عرض الجغرافيا.

أعياد «نوروز» الإيرانية هي من النوع الثاني. فعمر هذه الأعياد التي تتجاوز الـ 2500 عام كحد أدنى مدون لها عاصرت كل العهود الإيرانية بامتياز منذ الأخمنيين والساسانيين قبل الإسلام مرورا بعهود الإسلام الراشدة والأموية والعباسية والسلجوقية والبويهية و... والعثمانية والصفوية والقاجارية والبهلوية وصلولا إلى عهد الإسلام الخميني الحديث وأخيرا بعهديه الإصلاحي والمحافظ بامتياز.

فمنذ عهد الأخمنيين والإيرانيون كافة بل ومعهم كل من ينتمي إلى «الثقافة الإيرانية» على امتداد الشرق الكبير يحتفلون في يوم الحادي والعشرين من مارس/ آذار من كل عام - في هذه السنة في العشرين منه باعتبار أن السنة الشمسية كبيسة هذا العام - بعيدهم الوطني والقومي و«الديني» الذي يطلقون عليه اسم عيد الـ «نوروز» أي اليوم الجديد باللغة الفارسية، إذ تتعطل الحياة الإدارية والسياسية والأنشطة الحكومية كافة لمدة أسبوعين متتاليين تظفى خلالها الحياة المدنية - الأهلية - الاجتماعية - الشعبية على كل ما عداها ويكون «السفر» هو الحال الجامعة لحركة الفرد الإيراني باتجاه الطبيعة وتعالي الروح وسموها عن الحياة الاعتيادية المترافقة مع ضجيج العمل اليومي طوال العام.

ثمة من يرجع التأريخ لهذا اليوم بمثابة عيد وطني إلى الأساطير الإيرانية الفارسية القديمة في عهد انتشار دين زرادشت المجوسي الشهير. وثمة من يربط بداياته بالعائلة الحاكمة الملوكية الضاربة في تاريخ الحضارة الفارسية القديمة. وثمة من يعطي الفضل فيه للعلماء الذين اخترعوا التقويم الشمسي المرتبط بتلك الحضارة العريقة اعتمادا على تحولات الطبيعة والنظام الشمسي والأبراج الاثني عشر. وثمة من قرأ فيه ارتباطا وثيقا بمواقيت تحصيل الخراج من المزارعين وتنظيم المواسم الاقتصادية للأمبراطورية الفارسية القديمة.

لكنه ومع ذلك كله فقد استقر منذ العهد السلجوقي وتحديدا منذ زمن جلال الدين ملك شاه أي في العام 468 هـ (1075م). ليصبح احتفالا شعبيا ثابتا واسع الانتشار يبدأ مع فصل الربيع لا يتغير بتغير الملوك ولا المواسم الزراعية ولا التفسيرات النجومية كما كان يحصل من قبل، بل صار له توقيت رسمي ثابت يصادف في كل عام لخطة تحول الشمس من برج الحوت إلى برج الحمل. ومنذ ذلك الحين وهذا العيد «القومي» الإيراني يمتد ويتسع ليشمل أقوام ومساحات «دينية» وعرقية وجغرافية ليصبح جزءا لا يتجزأ من تراث ومناسبات العراق وسورية وتركيا وبلاد آسيا الوسطى والقوقاز وبلاد الأفغان وصولا إلى شبه القارة الهندية وحدود الصين العظيمة.

ما هو جديد في أعياد «النوروز» لهذه السنة هو إعلان مجلس بلدية طهران الإسلامي «المحافظ» بأنه «ونزولا عند رغبة الشعب» قرر اختيار 40 نقطة في طهران العاصمة لتكون مراكز لتنظيم احتفالات ليلة «الأربعاء الحمراء» الشعبية وذلك من «أجل التخفيف من الأضرار التي عادة ما تنجم عن الاحتفال بهذه المناسبة، وتأمين سلامة العامة».

واحتفالات ليلة الثلثاء على الأربعاء أو ما يسمى بالفارسية بـ «چهار شنبه سوري» أي الأربعاء الحمراء التي تقام في آخر ليلة أربعاء من العام الشمسي الإيراني، عبارة عن احتفالات شعبية عارمة تقام في جميع الأزقة والشوارع وأماكن التجمع العامة عبر إشعال النيران والقفز فوقها ويقال لتطهير الأبدان والأرواح من الشرور، وهي جزء لا يتجزأ من فلسفة أعياد النوروز والربيع الإيرانية، يرافقها طبعا استعمال جميع أنواع المفرقعات، وهي فرصة يخرج فيها الشباب غالبا فتية وفتيات عن طورهم ليمارسوا درجة ما من درجات «الحرية» الاجتماعية تتفاوت من بلدة لبلدة ومدينة لمدينة وأحيانا من حي لحي أو شارع لشارع.

وعلاقة النار مع دين زرادشت معروفة للجميع هنا في إيران، وهي علاقة روحية ودينية توحيدية كما يقول اتباع زرادشت إذ انه يقول إنها ترمز إلى النور والضياء الرباني الأولي، على رغم كل ما يشاع عنها في البلاد العربية بأنها ترمز إلى عبادة «النار» بحد ذاتها، ما يجعلها عرضة لشبهة الشرك!

المهم في الموضوع ليس الجانب العقيدي، بقدر ما نحن بصدد التأمل فيه من الجانب السياسي والاجتماعي والثقافي. فان يعترف الإسلاميون محافظون واصلاحيون بأهمية هذا العيد ويقرون بضرورة العمل بمراسيمه كما قرر المجلس البلدي لطهران (محافظ) أو أن يذهب أحد رجالات الإصلاحيين ليقول بمناسبة مرور ثلاثة آلاف عام على ديانة زرادشت: «إنه لا يمكن أن يتصور إيران من دون زرادشت ولا زرادشت من دون إيران» كما ورد على لسان مساعد رئيس الجمهورية الإيرانية محمد علي أبطحي قبل أشهر فإن ذلك يؤكد مناسبة موضوعا في غاية الأهمية وهو أن مناسبة كمناسبة نوروز وثقافة من نوع ثقافة زرادشت ورموز وسلوكيات و«عقائد» وأعراف وتقاليد عدة أخرى لدى شعوب أخرى غالبا ما تبقى محفورة في ذاكرة الشعوب لا يمكن لأحد تجاوزها أو انكارها أو التطاول عليها تحت أية ذريعة كانت. لأنه مهما فعل وأيا كان الوقت الذي صرفه من أجل «تجميدها» لابد أن يأتي الوقت الذي سيضطر للاعتراف بها والإقرار بها. لذلك فإن الأفضل والأنجع هو الاعتراف بها كما هي أولا. ومن ثم العمل على تطويرها في حال وجود ما يتعارض فيها مع عقائد أو ديانات أو فلسفات أرقى أو أشمل أو أحسن أو أفضل منها.

وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى واحدة من أهم الميزات التي يمتاز بها الشعب الإيراني ألا وهي «استيعابه» الكفؤ والناجح بامتياز لكل ما يأتيه أو يرده من أفكار أو فلسفات أو أيديولوجيات أو عقائد وهضمه لها ووضعها في بوتقة «إيرانيته» القوية والراسخة من دون أن يضطر لخوض المعارك الكبرى لمقاومتها بطريقة الإقصاء أو النفي التام.

حتى فيما يتعلق بـ «نوروز» نفسه فقد حوله وبمرور الأيام والسنين إلى «عقيدة» ثابتة تتكيف مع الأعصار والأزمنة والأنظمة الدينية والسياسية الحاكمة من دون أن يغير من جوهر نوروز في شيء. فنوروز زرادشتي كما هو إسلامي كما هو سني قبل العهد الصفوي كما هو شيعي من بعده وهو محافظ كما هو إصلاحي، وهو ليبرالي كما هو ثوري. بل انه قادر على «تحويله» إلى نوروز «الشرق الأوسط الكبير» كله إن اضطر إلى ذلك، لكنه سيبقى هو إيرانيا ملتصقا بالأرض التي ولد عليها وإلى الطبيعة التي ينتمي إليها.

هذه الميزة العظيمة التي تمتلكها الكثير من الأمم والشعوب ولا أظن أنها مقتصرة على الشعب الإيراني بالمناسبة، أي ميزة «الواقعية» في التعامل مع السنن الكبرى وظواهر التاريخ وحقائق الجغرافيا الدامغة، انما تتجلى في كثير من مسلكيات شعوب الأرض ولكن بأشكال وبمظاهر وتبلورات مختلفة. إنما جوهرها القدرة على ممارسة قرار البقاء على رغم الأعاصير والطوفان، فالشعوب جميعا «كل يوم هي في شأن» وكل يوم من أيامها «نوروز» لا يستوعبه إلا «الراسخون في علم الشعوب والأمم» ليس من بينهم دعاة «الشرق الأوسط الكبير» على الطريقة الإسرائيلية الأميركية ولا حماة الشرق الأوسط القديم على طريقة صدام حسين وشركائه في الاستبداد والتبعية والطغيان

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 563 - الأحد 21 مارس 2004م الموافق 29 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً