العدد 65 - السبت 09 نوفمبر 2002م الموافق 04 رمضان 1423هـ

صحافيون... برسم المحاكمة

الصحافة كانت القناة الوحيدة المتاحة بين الحكومة وعموم المجتمع

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

منذ اكثر من عشرين عاما، لم تمس الصحافة المحلية رأس الدولة ولم تمس الشرعية السياسية او النظام بأي شكل ولم ينتهك أي صحافي قدسية الدين او العقائد. لم تنشر الصحافة اي مقال او موضوع يمس الامن الوطني للبلاد او سيادتها او وحدة ترابها الوطني. ولم يتعرض الصحافيون في يوم لوزير او مسئول حتى من رتبة مدير او موظف في الحكومة بنقد يمكن ان يصل الى حد التشكيك في كفاءته للمنصب او اتهامه بتلقي الرشا مثلا.

لا يتعلق الامر بكفاءة القائمين على الصحافة او كفاءة محرريها بقدر ما يرتبط بالاجواء العامة والقواعد التي حكمت عمل الصحافة البحرينية طيلة العقود الماضية. كان النقد ممكنا لكن بأكثر الصياغات التواء وبأكثر العبارات التي تسعى إلى تأكيد حسن النية وغالبا ما تنتهي الديباجات التي تؤكد حسن نية الكاتب الى ان ينتقد امرا ثانويا بكل المقاييس على طريقة «حبذا لو تكرم المعنيون».

اما الاستثناءات التي يمكن الاشارة إليها فقد لقي اصحابها عقوبات معنوية ومادية وصل بعضها الى المحاكم والغرامات. لكنها تبقى استثناءات قليلة جدا تؤكد القاعدة الاصل.

ففي الثمانينات، عوقب احد الصحافيين البحرينيين بالوقف عن الكتابة بعد ان كتب مقالا في مجلة اسبوعية ينتقد فيه زيادة رسوم الكهرباء صوّر فيه بأسلوب ساخر مؤتمرا صحافيا لوزير اسماه «وزير الهواء». لنلحظ اليوم ان احدى المكرمات الاساسية من قبل عظمة الملك والحكومة للتخفيف من اعباء المعيشة على المواطنين اتجهت نحو تخفيض تعرفة الكهرباء.

وفي الثمانينات ايضا ومطلع التسعينات، تعرض كتاب آخرون للزجر (وهي صيغة مهذبة نستخدمها عوضا عن مفردة التهديد) من قبل وزير الاعلام بسبب مقالات تنتقد تلفزيون البحرين. وتعرض كاتب للتوقيف اكثر من مرة بسبب مقالات كتبها تضمنت نقدا لشخصيات عامة تدير مرافق ومؤسسات عامة.

كان التوقيف يتم بشكل بسيط جدا، حيث يتلقى القائمون على الصحيفة مكالمة هاتفية تبلغهم بأن عليهم ان يوقفوا فلانا عن الكتابة لأجل غير مسمى.

لكن هذه تبقى استثناءات، فالصحافة المحلية ظلت طيلة العقود الماضية الوسيلة الاساسية والقناة الوحيدة المتاحة بين الحكومة وعموم المجتمع، ولعبت الاجواء السياسية السائدة طيلة ربع القرن الماضي وغياب التسامح والتشدد حيال النقد والرأي الآخر الى ان تصبح الصحافة عاجزة عن ممارسة دور مستقل سواء على صعيد التعبير او النقد او على صعيد تقديم خدمة صحافية احترافية عالية الجودة إلى الناس.

في كل الاحوال، كانت الصحافة سندا للحكومة في كل سياساتها على الاصعدة كافة. فعلى الصعيد السياسي مثلا، خاض الصحافيون والكتاب البحرينيون معارك الدفاع عن سيادة البلد ووحدة ترابه الوطني. لكن هذا الدور مارسه الصحافيون البحرينيون بدوافع وطنية لا يرقى إليها الشك، وفي المراحل المصيرية برهن الصحافيون والكتّاب البحرينيون على مشاعرهم تجاه بلدهم بطريقة لا تحتاج الى اثبات. وظلت الصحافة ملتزمة ايضا بالسياسات الخارجية للدولة وكل الحساسيات المرتبطة بها، فلا نقد لبلد صديق او زعيم عربي حتى في اكثر الصيغ تهذيبا.

وعلى صعيد السياسات الداخلية، ظلت الصحافة البحرينية تلعب دورا اساسيا في الدفاع عن سياسات الحكومة على الاصعدة كافة، الاقتصادية والاجتماعية بل انها كانت احيانا الاداة الوحيدة لإقناع الناس بهذه السياسات في ظل غياب اي قنوات اخرى للحوار بين الحكومة والمواطنين.

لم تشذ الصحافة المحلية عن دورها هذا طيلة هذه العقود، فما الذي يمكن ان يثير التوجس لدى الحكومة لكي تشرع لقانون جديد للصحافة مستنسخ من قانون المطبوعات القديم يبقي على التضييق على حرية النقد ولا يحمل اي ملامح تغيير تتماشى مع توجهات الإصلاح الشامل...؟ ويبقي على السجن عقابا للكلمة؟.

أظن انه الخوف من الحرية نفسها او مما قد يترتب عليها، الخوف من المستقبل.

لقد اختبرنا عاما ونصف العام من الحرية منذ اقرار ميثاق العمل الوطني، انعكست على الصحافة المحلية بجرعات من الحرية في تناول قضايا كانت حتى الامس القريب اشبه بالمحرمات. اتسعت مساحات التغطية إلى درجة شعر معها البحرينيون ان صحافتهم تسعى للاقتراب منهم ومن عالمهم وحياتهم اليومية بكل ما فيها الجمعيات والمساجد والمآتم والديوانيات ومصاعب الحياة اليومية وقضايا معلقة منذ سنوات وشخصيات ظلت حتى الامس القريب لا تجد الصحف سبيلا إلى نشر خبر واحد عنها. زادت جرعة النقد قليلا وراحت بعض الصحف تسترجع الماضي على شكل حوارات مع بعض رموزه من الزعماء السياسيين العائدين من المنافي، وهو ما جعلنا نشعر بأننا على الطريق للتعافي من آثار هذا الماضي. وبات زعماء المعارضة العائدون من المنافي ضيوفا في الصحف عبر مقالات يومية واخرى شبه يومية. ازدهرت الكتابات في الصحافة المحلية وتضاعف اعداد الكتاب وتعددت موضوعات الكتابة وتنوعت إلى حد كبير على رغم ان اغلبها يفتقد للاحتراف في الكتابة الصحافية. فهل حصيلة هذا العام ونصف العام هي التي يمكن ان توقظ مثل هذه الهواجس لدى الحكومة وتدفعها لسن قانون نرى فيه «دولة تضيق بالكلمة وبالتعبير وتعود بنا إلى عهد ما قبل الميثاق وتخل بالاصلاح الذي شق طريقه بقوة صاروخية»؟ مثلما تقول الكاتبة سوسن الشاعر (جريمة الكلمة - الايام 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2002)؟.

خلال فترة العام ونصف العام هذه، لم تشذ الصحافة المحلية عن دورها ومسارها الذي اختطته منذ اكثر من عقدين. لقد بات دعم المشروع الاصلاحي هو العنوان الاول والاخير لا لهذه الصحف بل للبلد بأكمله. وفيما يخص الصحف، يمكن من دون مشقة تسجيل ملاحظة اساسية بارزة.

بقيت الصحف مخلصة لدورها في مساندة المشروع الاصلاحي الذي ايقظ الاحلام التي كادت ان تنسى حول العمل في صحافة حرة وعلى قدر عال من الاحتراف. وبدا جليا ان هذه الصحف باتت تميل الى ان تلعب دورها المفترض كمنابر لحرية التعبير وحرية الرأي، لكن الطموح مازال في أوله. لم تنسَ الصحافة دورها القديم حين عادت لتلعبه من جديد ايضا خصوصا مع اقتراب الانتخابات النيابية، لكن الآمال في التطور الطبيعي للصحافة يبقى قائما ايضا، لان الصحافة لا تزدهر الا في اجواء الانفتاح والتسامح.

على هذا، كيف يمكن تبرير هذه الروح التي جاء بها قانون تنظيم الصحافة والنشر...؟ الروح التي ماتزال تنظر بعين الشك والريبة للصحافيين وتتعامل معهم وكأنهم ليسوا أهلا للثقة ولممارسة الحرية بأقصى درجات الاحساس بالمسئولية؟

ان للصورة وجها آخر. فالصحافة ليست هي الاداة الوحيدة لحرية التعبير والرأي وان كانت اهمها. فخلال العام ونصف العام هذا، ازدهرت وسائل التعبير الاخرى لمجتمع استعاد حيويته بعد فترة طويلة من الركود القسري. ازدهرت المنتديات من كل نوع، وبات التعبير عن الرأي يتم في اشكال شتى متنوعة بدءا من الندوات واللقاءات السياسية والمجالس والديوانيات وحتى النزول الى الشارع لإعلاء الصوت حول اي قضية وصولا الى فضاء شبكة الانترنت. وفي هذا الفضاء الواسع الذي لا يمكن ضبطه ظهرت مآخذ كثيرة على الطريقة والروح التي سادت في بعضها وبدا جليا ان ثمة مظاهر للشطط يتعين الوقوف عندها والتعامل معها بحكمة.

لكن المحصلة النهائية لعام ونصف العام من نسائم الحرية تؤكد امرا واحدا. فالاختلاف حول مدى الحرية ليس مدعاة لانعدام التسامح وما برهن عليه البحرينيون طيلة هذه الفترة هو بالضبط ما خلت منه روح القانون الجديد: الاحساس بالمسئولية. وفيما يخص الرأي والكلمة، فإن تجربتنا وتراث العالم بأسره وتجاربه تؤكد لنا ان التسامح وسعة الصدر هما اللذان يدفعان الناس إلى العقلانية والاعتدال على العكس من المنع والتضييق اللذين يدفعانهم نحو الغلو والتطرف.

أليس هذا هو الدرس الاول من عام ونصف العام منذ اقرار ميثاق العمل الوطني...؟ العبرة في التصويت الكثيف على الميثاق بإجماع شعبي قل نظيره...؟

لقد برهن البحرينيون أكان على مستوى النخب أم على مستوى المواطن الفرد على رغم الخلاف على قضايا مهمة وكبرى، برهنوا على احساس عال بالمسئولية بحيث تلاشت روح التصعيد نتيجة سعي متواصل لترسيخ العقلانية والحوار أسلوبا وحيدا في التعاطي مع قضايا البلد.

وفيما خص الصحافة، فإن فرجة الحرية التي عاشتها لم تؤكد الا مجددا على انها مازالت امينة لدورها الاول، فهل يعقل ان تكون المحصلة بالنهاية عودة للتعامل مع الصحافيين وكأنهم ليسوا اهلا لممارسة الحرية بشكل مسئول...؟ عودة تدفع آمالنا وطموحاتنا صعودا وهبوطا وعدم يقين ايضا من المستقبل، صعود وهبوط يدفعنا مرة اخرى للقلق حول مشروعنا الاصلاحي والآفاق التي يسير إليها

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 65 - السبت 09 نوفمبر 2002م الموافق 04 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً