العدد 691 - الثلثاء 27 يوليو 2004م الموافق 09 جمادى الآخرة 1425هـ

إعادة اختراع مصر الديمقراطية!

بين الثورة والإصلاح

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

إعادة اختراع مصر الديمقراطية الحديثة، عبارة تبدو غريبة، ولكنها فكرة ضرورية هذه الأيام، فقد أثارت ذكرى مرور اثنين وخمسين عاما على ثورة يوليو/ تموز 1952، ضمن ما أثارت، أسئلة كثيرة، ربما كان أبرزها: ماذا بقي من ثورة يوليو، من مبادئها ومن إنجازاتها، وماذا علينا أن نفعل الآن؟

والحقيقة السافرة أن مصر الراهنة، بظروفها وأزماتها ومشكلاتها، بتوجهاتها واختياراتها السياسية والاقتصادية الاجتماعية، غير مصر قبل نصف قرن، سواء فيما يتعلق بالسياسات المجتمعية الداخلية، أو فيما يتعلق بالسياسات الخارجية والعلاقات الدولية، وهو - كما لابد أن ندرك - حال لا تختلف كثيرا عما هو سائد في دول أخرى عدة، ومن بينها الدول العربية.

ندرك أن المتغيرات الدولية قد ألقت بظلالها الكثيفة وتأثيراتها الكبرى علينا، وندرك أن العالم الذي كان محكوما بقطبين كبيرين، أو أكثر، صار محكوما بقطب امبراطوري واحد، وأن ساحات المناورة التي صنعتها سياسة الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، قد ضاقت حول رقاب الدول الصغيرة مثلنا حتى الاختناق، وندرك أيضا أن السقوط الهائل للشيوعية والاشتراكية - نظرية وتطبيقا - قد أسقط معه المقلدين والمحاكين، فإذا صرعة «السوق الحرة» والرأسمالية الأميركية «الوحشية»، والديمقراطية الأميركية أحادية النظرة، هي الهاجمة على الجميع.

وسط هذه المتغيرات الدراماتيكية أصبحنا، وكان علينا أن نتعامل معها، وهذا منطقي ومقبول، بشرط أن تملك بيدك أدوات صالحة للتعامل، لا أن نكتفي بأن تلقي نفسك ومالك وولدك، ماضيك وحاضرك ومستقبلك، في دوامة النهر وتستسلم لأمواج البحر، كما يقول «المتأمركون العرب»، وتيار النهر سيدفعك إلى النهاية وموج البحر سيقودك إلى الرخاء! طالما أن كل الماء أميركي!

والحقيقة أن مصر ليست وحدها في هذه الدوامة التاريخية، فعشرات من الدول في مثل وضعها، وربما أصعب، إلا أننا نتخذ من مصر تحديدا حالا للدراسة الناقدة، ليست لأنها ضعيفة يستقوي عليها من يريد، ولكن لأنها أولا «دولة» بالمعنى الحرفي، فيها من إمكانات البناء والتطور وقدرات النهوض واستشراف المستقبل، ما يؤهلها للتغيير نحو الأصلح، ولأنها ثانيا تطرح هذه الأيام - في مناسبة مرور اثنتين وخمسين سنة على ثورتها الوطنية والقومية الكبرى - مشروعا للإصلاح الديمقراطي والتحديث وإعادة البناء، ولأن فيها ثالثا هامشا من حرية الرأي يسمح لناقدي سياساتها الرسمية بأن يعلنوا رأيهم، من دون إصابات جسيمة!

وإذا كان من واجب كل مصري أن يساهم بإيجابية واضحة في مناقشة «مشروع الإصلاح الديمقراطي» المبشر به هذه الأيام، والذي لم تُعلن مبادؤه ولا فلسفته ولا تفاصيله الكاملة بعد، فإن من حق كل عربي أن يكون شريكا أساسيا في هذا الحوار من دون حساسية، لأن لكل عربي نصيبا في مصر لأسباب تاريخية وحضارية وإنسانية قديمة وحديثة، مع عدم الاعتذار لأصحاب الدعوات الشوفينية المغلقة!

ولعل مثل هذا الحوار «الوطني القومي» يكون نقطة البداية السليمة، للاتفاق على المبادئ الحاكمة لفلسفة الإصلاح الديمقراطي والمشروع التحديثي في مصر، الذي إن نجح يصبح نموذجا جيدا لدول عربية أخرى، طالما استلهمت من مصر، مبادئ النهضة والتحديث، عناصر الثقافة والفكر، مواقف السياسة والوطنية، تشريعات القانون والدستور، أدوار المسئولية والقيادة في منطقة عاصفة بالصراعات حافلة بالصدامات.

وحين نبدأ البدايات السليمة، نصل حتما إلى النتائج السليمة، وحين تبدأ مصر خطوات الإصلاح الديمقراطي الحقيقي، يشع نوره في المحيط العربي، تأثيرا وتأثرا في عملية تبادلية وحيوية، ولذلك نعول كثيرا على قدرة ووضوح المشروع الإصلاحي المصري، أولا لإقناع المواطن المصري، وثانيا لإقناع المواطن العربي في مشارق الوطن الكبير ومغاربه، مع التقدير الكامل لاجتهاد كل مجتمع عربي في إنتاج مشروعه الوطني الخاص.

ولقد ذكرنا في المقال السابق، أن البداية السليمة لأي إصلاح حقيقي تكمن في تحديد فلسفة الحكم ورؤيته السياسية الاجتماعية الفكرية، وفي خلق البيئة المجتمعية المنفتحة القادرة على تشجيع الحوار بين القوى المختلفة، وصولا إلى الاتفاق على رؤية محددة، لها برامج وأهداف مختلفة، تعيد بناء الوطن مجتمعا ودولة، بعد أن تهالك وتراجع، بسبب فشل السياسات الحكومية على مدى العقود الماضية، في التعرف على طبيعة أزماته الاقتصادية الاجتماعية، وحل احتقاناته السياسية الفكرية، بأساليب جريئة وجذرية.

وأزعم أن ثورة يوليو مثلا، كانت تمتلك في فترة من الفترات، مشروعا للإصلاح والتحديث، صبته في برامج تنفيذية عدة، نجحت في بعضها وفشلت في الأخرى، لعقبات داخلية، ولضغوط خارجية، لكن أهمية ثورة يوليو ترتكز أساسا على مبادئ مشروعها الإصلاحي، وخصوصا التحرر الوطني والقومي العربي، وإعادة تركيب المجتمع من الداخل بإعادة توزيع الثروة الوطنية وفق قدر من العدل الاجتماعي، وتحديدا الانتقال من احتكار نصف في المئة من المجتمع للثروة، إلى الإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي، وتمصير وتأميم الاحتكارات، واستعادة قناة السويس وبناء السد العالي وشبكة الضمان الاجتماعي والصحي، ومجانية التعليم... إلخ.

ومن الطبيعي أن يقابل مثل هذا المشروع الإصلاحي الراديكالي، بمعارضة عارمة من أصحاب المصالح في الداخل والخارج، لكن من غير الطبيعي أن ينقلب عليه أصحابه والمستفيدون الأوائل منه، والمستغلون لإنجازاته وثماره... هذا ما حدث!

اليوم، لم يبقَ من إنجازات ثورة يوليو، مصريا وعربيا، سوى «شرعية الحكم» وهي شرعية مستمدة فقط من هذه الثورة، ومن مؤسستها الوطنية التي انطلق منها قادة الثورة في 23 يوليو 1952، وما عدا ذلك بددته السياسات والتوجهات المتغيرة، التي وقعت في إغراءات أو تحت ضغوط من هنا وهناك...

ولعل ذلك يجيب على الأسئلة المطروحة بقوة، سواء: لماذا وقعت مصر في أزمتها الاقتصادية الاجتماعية الراهنة؟ ولماذا هذا الاحتقان السياسي الفكري الذي تعانيه؟ أو: لماذا الإلحاح الجاري على ضرورة إنجاز مصر لمشروع إصلاحي ديمقراطي حقيقي؟

مصر تشكو الآن من اتساع مساحة الفقر، الذي يطول أكثر من نصف المجتمع، بعد أن وصل عدد مواطنيها إلى 70 مليونا، تضربهم البطالة بنسبة 18 في المئة أو 20 في المئة طبقا للتقارير الدولية، وتشكو ضعف الإمكانات والعجز بعد أن خصخصت مئات الشركات والمصانع، ويتحدث بعض مسئوليها علنا عن إلغاء مجانية التعليم ومجانية العلاج الصحي، أو على الأقل الالتفاف عليهما، وتشكو - وهذا هو الأخطر - من العودة إلى تركيز الثروة في أيدي قلة القلة من كبار رجال الأعمال والتجار والمضاربين والمهربين الفاسدين...

فأين يصب إذن ما جاءت به ثورة يوليو من مبادئ العدل الاجتماعي وتوزيع الثروة ومحاربة الابتكار؟... وبالمقابل أين نتائج سياسات الانفتاح الاقتصادي والخصخصة والسوق الحرة والاستثمار الأجنبي، التي تمارسها مصر على مدى الثلاثين عاما الأخيرة، بعد أن غيّرت توجهاتها على أيدي الرئيس الراحل أنور السادات؟

فإذا أضفنا إلى ذلك كله ضياع مبدأ التحرر والاستقلال الوطني في مهب الريح، بعد أن عاد الاستعمار الغربي، والأميركي تحديدا، بوجوده الثقيل وسياساته الآمرة الناهية، ونفوذه الاقتصادي الاحتكاري، وانظر حولك على امتداد الخريطة العربية كلها، وبعد أن توحشت «إسرائيل» وصار تحرير فلسطين حلما يبدده ضعفنا وتخاذلنا، وبعد أن صار حلف الأطلنطي «حليفا» يشاركنا الأرض والسماء والماء والهواء...

ثم إذا أضفنا واقع أن الحريات العامة وفق أي مفهوم ديمقراطي حقيقي، ظلت أسيرة القيود وضحية للانتهاكات الفظة والتشريعات الاستثنائية والأحكام العرفية (مثل قانون الطوارئ)، منذ أن أهملت ثورة يوليو في بداياتها وتحت حكم الزعيم جمال عبدالناصر، مبدأها السادس وهو «إقامة حياة ديمقراطية سليمة»، وحتى اليوم، الذي يعاني فيه الجميع احتقانا سياسيا لا ينكره إلا كل مغالط...

إذ أضفنا هذا إلى ذاك، لعرفنا لماذا مصر في أزمة خانقة دفعتها دفعا إلى الضعف من الداخل، والضعف في الخارج، وبالتالي لأدركنا كم أن مصر في حاجة ماسة وملحة إلى إصلاح ديمقراطي حقيقي وجذري وعاجل، ينقذها من سيناريو المصير الأسوأ، الذي يراه البعض قريبا، وربما أراه بعيدا...

في مواجهة هذه الأزمة، يغلي المجتمع الحيوي بالغضب، مثلما يغلي بالسعي الجاد نحو الإصلاح، وبقدر ما في مصر من فقراء محبطين يعانون مرارة العيش وبؤس المعيشة، بقدر ما فيها من عقول وأفكار تطرح رؤى مستنيرة للإصلاح الحقيقي، بجانبيه السياسي الفكري، والاقتصادي الاجتماعي، ومسئولية النخبة الحاكمة هنا هي إدارة حركة الصراع - الحوار الإيجابي، سواء بين المحبطين وبين المبادرين، أو بين التيارات السياسية الفكرية المختلفة التي تطرح مشروعاتها للإصلاح المأمول.

أما الإصلاح على طريقة تحالف المتأمركين العرب، الذين يرون ويكتبون أن الطريق الوحيد لنجاة مصر من أزمتها، هو الإسراع ببيع ما تبقى من القطاع العام وخصخصة كل ثروة مصر، وفتح كل الأبواب أمام الشركات الاحتكارية متعددة الجنسية، وتصعيد رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال وحدهم إلى قمة السلطة ومراكز اتخاذ القرار، واتباع المنهج الأميركي وحده، بحجة اللحاق بالقطار الأميركي والاندماج في العولمة «حتى من دون أن تملك أدوات الاندماج في العولمة»، ومن دون أخذ طبيعة الأوضاع الداخلية في الاعتبار... فهذا هو بالضبط الشذوذ الفكري والسياسي الذي لا يقبله أحد هنا أو هناك!

أخيرا... أراني في مواجهة كل ذلك، أسير نظرية «إعادة اختراع مصر» الحديثة والديمقراطية القادرة على بناء ذاتها واستعادة دورها، المتفاعلة بإيجابية مع محيطها القومي العربي، ومحيطها الدولي، من دون ادعاء تفوق، ومن دون تبعية ملتحقة بالتوازي...

إعادة اختراع مصر، تكررت كثيرا عبر تاريخها الطويل، فنهضت ونهض معها كثيرون، ولم يكن المشروع الإصلاحي لثورة يوليو، بكل سلبياته وإيجابياته، إلا خطوة في هذا الطريق... لكن

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 691 - الثلثاء 27 يوليو 2004م الموافق 09 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً