العدد 708 - الجمعة 13 أغسطس 2004م الموافق 26 جمادى الآخرة 1425هـ

ابدأوا بالتفاصيل

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

الاسبوع الماضي، انقطعت الكهرباء مجددا بشكل جزئي عن منازل منطقتنا. هاتفت طوارئ الكهرباء فجاء الفنيون والحق يقال بأسرع مما توقعت. ترجل اثنان من السيارة وقاما بفحص مفتاح الكهرباء الرئيسي في المنزل. بحرينيون مهذبون ولطفاء وما ان انتهوا من الفحص سألني أحدهم: «اللخو ما تعرف وين المحطة الفرعية لمنطقتكم؟».

هذا السؤال يتلا علينا في كل مرة يأتي فيها الفنيون لمعالجة انقطاع الكهرباء. كم مرة؟ ثلاث أو أربع؟ لم اعد اذكر. وفي كل مرة يستغرق الأمر منهم ساعة ولربما اكثر للعثور على هذه المحطة الفرعية. في المرة الاولى وكانت في شهر يونيو/ حزيران الماضي، دخلت والجيران معهم في لعبة التخمين. ربما تلك التي بقرب المدرسة، يعودون بعد نصف ساعة: كلا ليست هي. ربما تلك التي بقرب المركز الصحي، كلا ليست هي. وهكذا تمضي ساعات أخرى قبل ان يعثر المساكين على المحطة المطلوبة ويعالجوا الخلل.

عندما سمعت السؤال في المرة الاخيرة، قفزت الى ذهني صورة متخيلة لقسم طوارىء الكهرباء لحظة تلقيه بلاغا عن انقطاع التيار: الفنيون في الطوارىء او في قسم آخر يضغطون أزرار حاسوب لكي تظهر التفاصيل على الشاشة، عنوان المواطن صاحب البلاغ وضوء أحمر ينطلق مشيرا الى المحطة التي تغذي المنطقة. او في صورة اخرى أقل طموحا: الفنيون يستخرجون خرائط ويحددون المحطة تبعا للعنوان. ربما تكون هذه صورة من فيلم سينمائي، لكن اليس هذا هو الذي يمليه المنطق؟

من يعرف المحطة الفرعية؟ نحن المواطنون ام وزارة الكهرباء التي انشأتها ومدت التيار منها الى منازلنا؟.

تداعت الصور، تذكرت انني عندما تقدمت إلى البلدية بطلب رخصة بناء غرفتين في دور ثان، طلبوا مني ان ازودهم بخريطة البناء الاصلية المختومة من قبلهم. سألتهم: وأين نسختكم؟ ردوا: في مخزن مهمل، أكوام من دون فهرسة ولا تبويب ونقوم بالتخلص من القديم منها تباعا.

عمال شركات الغاز عندما يأتون لاستبدال اسطوانات الغاز الفارغة، لن يجدوا مناصا من دحرجة الاسطوانات على الارض، ولن تجد أنت مناصا من الخضوع لطقس الدحرجة هذا: رنين هائل يصم الآذان. وهل لك ان تشكو؟. انهم يعملون بايديهم العارية فقط، وعضلاتهم لن تسعفهم لحمل الاسطوانات طيلة النهار لان ارباب عملهم وبعد عقود طويلة من عملهم في تزويد المستهلكين بالغاز، مازالوا ينعمون بخيال فقير. مازالوا يحصون الكلفة والارباح بالطريقة نفسها، بعقلية الدكان.

واذا جاءك عمال شركات الاثاث، سيسألك احدهم: «حجي عندكم سكين؟» وسيمزق الورق المقوى وينزع الدبابيس النحاسية بالسكين. ومن فرط تعبه لن ينتبه للخدوش التي ستحدثها يده في القطعة التي اشتريتها من رب عمله، لأن رب عمله هذا بلغ به البخل مبلغا ألا يزود عماله بادوات بسيطة: مفكات وادوات بسيطة يمكن ان يشتريها من سوق «المقاصيص».

استعيد هذه الصور وفي ذهني صورة أخرى نقلها احدهم من اليابان. يأتي العمال وهم مجهزون بكل شيء: كل انواع الادوات وباحجام مختلفة. يمدون بساطا فوق الارض قبل ان يبدأوا عملهم كي لا تترك احذيتهم أي أثر أو لا يترك عملهم اية مخلفات، وشركات تزويد الغاز لدينا مازالت تحافظ على التقاليد. لم يفكر أي منهم في ان يزود عماله بعربة صغيرة لحمل الاسطوانات تسهم في خفض الضوضاء وستكسبه احترام زبائنه وزبائن جدد لان العمل المتقن مطلب المستهلك.

صورة حواسيب وزارة الكهرباء قد تكون مستمدة من افلام السينما، وملاحظاتنا الصغيرة عن مستثمرينا وخيالهم الفقير قد تبدو عرضية وهامشية بنظر البعض وهذه هي المشكلة.

يقال في اكثر من وزارة اننا نريد الاقتداء بتجربة اليابان، لماذا لا يبدأون في تعلم هذه التفاصيل الصغيرة من اليابانيين لكي يعرفوا الفرق بين العمل بالحد الادنى من المهارة والجهد والعمل بالحد الاقصى من المهارة والجهد؟

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 708 - الجمعة 13 أغسطس 2004م الموافق 26 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً