العدد 743 - الجمعة 17 سبتمبر 2004م الموافق 02 شعبان 1425هـ

من أم ماذا؟

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

جاري العادة اننا عندما نسمع النقد نتساءل: من هو الكاتب؟ ردة فعل متأصلة فينا تقدم الشخص على الفكرة. الفكرة لا يتم التعامل معها الا مربوطة بشخص كاتبها. نخلص دوما للاستنتاج: «انظر من يتحدث» وليس «ماذا يقول».

الكتابة وليدة زمنها دوماً، من قال هذا؟ لا أذكر، لكن الذي أعرفه جيداً ان الزمن هو الذي يملي الاسلوب في الكثير من الاحيان. وفيما مضى من السنوات، كان الكتاب يكتبون وفي ذهنهم تنشط الضوابط والاستدراكات. عندما تزيد قائمة الاستدراكات لن نحتاج إلى بلاغة لكي نصف الخوف في اجل صورة.

هذا أفضى إلى أسلوب رائج في الكتابة ابسط ادواته: مقدمات اثبات حسن النية. فقرات متتالية واستهلال ينزع دوما لاثبات حسن نية الكاتب فيما سيطرحه بعد قليل كي لا يساء فهمه. الافكار يتم التعبير عنها بأكثر صور المواربة خشية من القولبة والنمذجة في ذهن القارئ. القارئ هنا لا يدخل في جدل مع الفكرة نفسها، بل يقفز الى نماذج جاهزة في ذهنه يقيس عليها ما يقرأ. الامثلة التي يمكن ان ترد في المقال يجري التعامل معها بحذر شديد وتحتاج لاستدراك دوما، لان المثال من ادوات القياس الراسخة في اذهان القراء للحكم على ميول الكاتب وليس على فكرته.

ما من شخص موضع انتقاد كقانون عام، لكن اذا اقتضى الامر ذلك ستقرأ اسمه أو الاشارة إلى منصبة مسبوقة دوما بصيغ المخاطبة الرائجة: الاستاذ، الاخوة الكرام في الادارة، مسئولي القسم المكرمين. وفي حالات اخرى، يمكن اللجوء الى تقديم عرض ايجابي للجهة موضع النقد ومن ثم الولوج الى النقد مسبوقا باداة الاستدراك: لكن.

جرعة التهذيب هذه في صيغة المخاطبة اداة اضافية لتأكيد حسن النية، لكن بعد سطور عدة سيتضح انها بلا معنى لانها ستؤثر في جوهر الفكرة نفسها، أو بالأصح في مضمون النقد نفسه. فهو اما سيبدو مخففا إلى حد بعيد لان امتداح الشخص ومن ثم نقده سيبدو نوعاً من الخفة او النفاق والمضي في نقد لاذع سيظهر ان صيغ المخاطبة المهذبة استخدمت للسخرية. السخرية؟ هذه كانت من المحرمات.

تتبين مشقة الحكم على الفكرة بعيدا عن الشخص في ملمح آخر. تحديدا لدى مسئولي الصحف الذين يملكون نموذجا جاهزا لقراءة مقالات الكتاب قبل اجازتها للنشر. فالقانون السائد في القراءة لديهم هو ألا يكون للعبارة اي معنى مستتر او موراب. الذهن هنا مشغول دوما بالفكرة مربوطة على نحو مرضي بشخص كاتبها والهم الاساسي هو ان لا تكون العبارات (من وجهة نظرهم) حمالة اوجه.

هل أسهبت كثيراً وأصبحت أجاري نقاد الأدب؟. ترفقوا قليلاً لأن ما يدفعني هو محاولة رصد أي تغيير قد طرأ مع تغير الأزمنة. اصلاح وانفتاح وشفافية، لكن لغتنا لاتزال تزخر بالاستدراكات التي تفصح بجلاء عن ان أنماط ونماذج القراءة، لاتزال محكومة لدينا بذلك القانون: «انظر من يتحدث». ومازلنا نقرأ مستعينين بالنماذج الجاهزة للحكم على الشخص من دون التعاطي مع الفكرة.

حكومة وجمهور عريض، ناشطون ونواب وشخصيات عامة واناس عاديون تجمعهم ادوات القياس نفسها: لقد كتب ذلك لأن ميوله كذا. سمعتها من كثيرين، بعضهم كان ينتقد زملاء لي انتقدوا جهة ينشط فيها هؤلاء فخلصوا الى انه انتقدهم لأن ميوله كذا. لم يناقشوا الفكرة ابدا. وقبل ايام، عاتبني شخص أحترمه على مقالات كتبتها، لكنه أقر بأنه لم يقرأها بل نقلت اليه انطباعات سلبية من آخرين. لم أجد مناصا من إبلاغه بأنني سأضع المقالات بين يديه وأنا راضٍ بحكمه.

فيما مضى، كان الكتاب يقولون «الأستاذ» فلان، اما اليوم فيقولون «الطائفتين الكريمتين» كي لا يحسبوا على فكرة مسبقة ان كتبوا: «السنة والشيعة». السنة والشيعة كحقيقة مجردة لا تحتاج إلى اثبات حسن نية من أي نوع. يقولون «النواب الكرام» كي لا يبدو ان هناك جرعة استخفاف اذا كتبوا: النواب.

واذ تراجع الخوف وظهرت الوان من الكتابة بدلاً من لون واحد، فإن أدوات القياس لم تتغير: من الكاتب؟. محسوب على من؟ من أية جمعية؟ إلى أي تيار ينتمي؟ ماهي ميوله؟ فلا أحد يناقش الفكرة ولا تستوقفه، بعيداً عن شخص كاتبها.

محمد فاضل

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 743 - الجمعة 17 سبتمبر 2004م الموافق 02 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً