العدد 75 - الثلثاء 19 نوفمبر 2002م الموافق 14 رمضان 1423هـ

برنامج إصلاح دستوري في السنوات المقبلة

تونس: قراءة استشفافية في خطاب رئاسي

سمير صبح comments [at] alwasatnews.com

.

في الخطاب الذي ألقاه في مناسبة الذكرى الـ 15 لتحول السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، ركز الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي، على مفهوم «جمهورية الغد». فإذا كانت الثوابت الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تعززت خلال اكثر من عقد، فإنه يبقى الكثير مما يتوجب عمله، خصوصا في ظل الاوضاع العالمية الصعبة والدقيقة السائدة حاليا. الامر الذي دفعه إلى إعلان خطوات استباقية لمواجهة التحديات الخارجية المفروضة من جهة، ومن جهة أخرى، دعوته إلى مواكبة المتغيرات النوعية الحاصلة على صعيد المجتمع التي تتطلب إدخال اصلاحات دستورية ضرورية.

في هذا الاطار يرى المراقبون المشهود لهم بموضوعيتهم، بمن فيهم المنتقدون للتجربة التونسية، أن السياسات المرحلية التي اعتمدتها الدولة طوال السنوات الخمسة عشرة الماضية، أعطت على ما يبدو ثمارها. ذلك لأن خطوات الاصلاح المتكاملة التي انتهجتها الدولة، لم تأت لصالح قطاع معين على حساب قطاعات اخرى، بل جاءت متجانسة من حيث احجامها قدر الامكان. ما ادى إلى تحقيق نوع من التوازن والترابط العضوي بين الجوانب الاقتصادية - الاجتماعية والسياسية وحتى الثقافية.

لقد هدف الرئيس التونسي في خطابه الذي اشار فيه إلى الخطوات التي تم القيام بها حتى الآن، إلى تحميل الجميع، من دون استثناء، المسئولية في الفترة المقبلة. بمعنى انه اراد تحسيس التونسيين بأبعاد ما يمكن ان ينتظرهم ومصالحهم في حال شنت الولايات المتحدة وبريطانيا هجوما على العراق. فحرب الخليج الثانية وانعكاسات حوادث سبتمبر/ ايلول 2001 على الاقتصاد التونسي، كانت كافية لاجبار الحكومة والقطاع الخاص على السواء، على زيادة الحيطة والحذر، ومضاعفة المبادرات لاحتواء السلبيات. لأنه من دون هذه العملية الاستثنائية، في ظل بيئة عالمية وإقليمية غير مستقرة، فإن تونس - هذا البلد المغاربي الصغير الذي لا يملك على غرار جارتيه، الجزائر وليبيا، لا النفط ولا الغاز - لن تتمكن، والحال هذه، من التأقلم مع المستجدات، ومواجهة العاتيات بأشكالها كافة، ومن تحقيق الأهداف التي حددتها في خطتها الخمسية الاخيرة بالسرعة المتوخاة، كذلك تجاوز تبعات المنافسة التي فرضها عليها اتفاق الشراكة اليورو - متوسطية، علما بأن تونس كانت الاولى بين الدول العربية التي وقعته - فمن هنا ينبغي الاشارة إلى ان تونس قد حررت حتى نهاية اكتوبر/ تشرين الاول أكثر من 42 في المئة من وارداتها القادمة من دول الاتحاد الاوروبي.

مؤشرات الاستباق

مع اعترافه بالآثار السلبية التي خلفتها سنوات الجفاف الاخيرة، إضافة إلى انكماش الاقتصاد العالمي ومن ضمنه الاوروبي - تشكل مبادلات تونس التجارية مع الاتحاد الاوروبي ما نسبته 70 في المئة - على بعض مكونات الاقتصاد التونسي، اظهر بن علي من خلال بعض الاحصاءات أن هذه القطاعات قد استعادت حديثا حيزا ملموسا من حيويتها. فبعيدا عن اي ادعاء في هذا المجال، دعا جميع الاطراف إلى سلوك طريق المتابعة الهادئة والحذرة، لأن صعوبات الظروف الدولية، بحسب قوله، لاتزال في بداياتها. لذلك، فمن اجل استباق هذا الواقع الدقيق، قامت الدولة بالدور الواجب عليها عبر ترشيد النفقات العامة من دون ان تتراجع عن الخيارات والاولويات، ومتابعة تحسين البنيات التحتية الاقتصادية والسيطرة على الدين العام وخدمته، كذلك على معدلات التضخم. في هذا السياق، كشف عن جولات المفاوضات الاجتماعية الجارية منذ فترة وجيزة بين الشركاء المعنيين في البلاد، اي جمعية ارباب العمل و«الاتحاد العام التونسي للشغل»، وممثلين عن الادارة ومؤسسات القطاع العام، والتي بحسب ما اورده، يجب ان تستمر بانتظام طوال الاشهر القادمة. لأن الهدف من وراء ذلك بالدرجة الاولى، ينحصر في تعزيز القدرة الشرائية للمواطنين بصورة دائمة وحماية المكتسبات الاجتماعية، بحيث تتآلف مع مصلحة البلاد العليا. مهمة صعبة في مرحلة صعبة، لكنها مع ذلك تبقى غير مستحيلة. هذا ما يؤكده على الاقل مستشارو الرئيس التونسي.

في التوجيهات عينها، طلب من رجال الاعمال التونسيين قبل مطالبة الاجانب بتفعيل الاستثمار الداخلي الخاص، كذلك العمل على زيادة الصادرات واحداث اختراقات جدية داخل الاسواق العالمية، خارج الدائرة الاوروبية. ويتعلق الامر هنا، بشكل خاص، بتسريع وتيرة إنشاء شركات جديدة، لأن ذلك من شأنه ان يشكل رهانا اساسيا وحافزا استراتيجيا لانجاز الاهداف على صعيد خلق فرص العمل والتنمية، وتحسين مستويات المعيشة. كما ظهر من خلال خطابه هذا، بأنه يعطي اهمية استثنائية لمشروع الشراكة اليورو - متوسطية، على رغم بعض العقبات الذاتية والموضوعية، وتباطؤ لجان بروكسيل، سواء بصرف مخصصات مشروع «ميدا 1» و«ميدا 2». وتمثل هذا الاهتمام بحث الدوائر الاقتصادية التونسية على إيجاد الادوات الكفيلة بتأمين عناصر المنافسة المتكافئة. هنا، يذكر مستشارو الرئيس بن علي، انه يتابع عن كثب وبجدية، توسيع رقعة الاتحاد الاوروبي الذي سيضم من الآن وصاعدا دولا منافسة لتونس تجاريا. كذلك للدول المغاربية الاخرى الموقعة اتفاقات الشراكة اليورو - متوسطية، تحديدا المغرب والجزائر.

ويضيف هؤلاء بأن الرئيس التونسي كان قد لعب مرارا دورا في اقناع شركائه داخل اتحاد دول المغرب العربي بتوحيد موقفهم ومطالبهم، والتحدث بلغة واحدة وبصوت واحد خلال مفاوضاتهم الثنائية مع خبراء بروكسيل.

ومن ضمن مؤشرات الاستباق الاخرى، قررت الحكومة التونسية إحداث تخفيضات جديدة بنسبة 50 في المئة على تعرفات ربط شبكات الاتصال والمعلومات العائدة إلى الشركات، كذلك زيادة قدرة شبكة الهاتف الرقمي بمعدل مليون خط اضافي خلال العام 2003. هذا اضافة إلى انجاز عدة اوتوسترادات تربط المدن الكبرى بعضها بعضا، وايضا، الشروع في بناء عدد من السدود للاستفادة من تجمع المياه في السنوات التي يكثر فيها المطر.

الاستثمار في رأس المال البشري

بشكل مواز كان تشجيع الاستثمار على الصعيد الجهوي وفي الرأس المال البشري، من المحاور الرئيسية في خطاب بن علي. فحرصا على ضمان تأطير افضل للمستثمرين عموما، وللشباب اصحاب المشاريع خصوصا، وتذليلا للعقبات التي يمكن ان يصادفونها في مسيرتهم، دعا الرئيس التونسي مكاتب التنمية في المناطق إلى دعم الاستثمار الخاص عبر احتضان المقاولين وتقديم المساعدة الميدانية لهم بهدف إعداد الدراسات اللازمة والحصول على وسائل التمويل المناسبة. بناء عليه عمدت الدولة إلى مضاعفة رأسمال شركات الاستثمار في المناطق الشمالية - الغربية وفي الوسط - الغربي، والجنوب. وذهبت ابعد من ذلك في مبادرة لا سابق لها، بحيث وفرت لجميع الذين تخضع مشاريعهم للمقاييس القانونية وحساب المردودية في مناطق التنمية الجهوية، نصف رواتبهم طوال فترة تنفيذ المشاريع التي اضطلعوا بها.

اما بالنسبة إلى الاستثمار في الرأس المال البشري، الذي يعد خيارا استراتيجيا بالنسبة إلى رئيس الدولة، فقد تم تعزيزه بشكل ملفت خلال السنوات القليلة الماضية، بحيث اصبح حقيقة لا يمكن القفز فوقها في توجهات «جمهورية الغد». انطلاقا من هذه الاساسية، يمكن تفسير النداء الذي وجهه إلى الشركات الخاصة كي تبذل جهودا إضافية لصالح ترويج العمل ورفع معدلات التأهيل. وتجدر الملاحظة في هذا المجال، إلى ان تونس قد سجلت قفزة نوعية ومادية في ميدان التكنولوجيا. ما وضع نظامها التعليمي في مصاف الانظمة التعليمية في بعض الدول الغربية من ناحية المستوى والفعالية. فقد تضاعف عدد طلاب الجامعات اكثر من سبع مرات منذ العام 1988، في حين تضاعف عدد المعاهد الجامعية مرتين في مختلف المناطق كما انتقل عدد كليات الاختصاص من 200 إلى 400، طبقا للتطور الحاصل ولتنويع احتياجات الاقتصاد الجديد. تحول سريع فرض على الدولة ايجاد الشروط الملائمة للسكن الجامعي، كذلك تأمين وسائل النقل. بنتيجته تعهدت الحكومة تخصيص المستلزمات خلال السنة الجارية. في المقابل، شجعت الدولة المقاولين الذين دخلوا مضمار بناء المساكن للجامعيين، المتوقع ان يصل عددهم في العام 2004 إلى نحو 350 ألف وإلى نصف مليون في نهاية العقد.

التضامن والمشروع المجتمعي

على رغم تراجع دور القطاع العام لحساب القطاع الخاص وهجمة الفكر النيو - ليبرالي بكل اشكاله، السلبية والايجابية على اقتصادات العالم، بما فيها اقتصادات العالم العربي، بقيت السياسة الاجتماعية في تونس بمنأى عن هذه الموجة. هذا ما أكده مجددا الرئيس التونسي في خطابه الاخير، من خلال إعادة التركيز على اهمية فكرة «التضامن الاجتماعي»، المدعومة بطبقة تشكل، حسبما ذكر، ثلاثة ارباع المجتمع التونسي، والتي باتت في صلب استراتيجية الحكومات المتعاقبة، التي حاولت ايجاد قواسم مشتركة بين ضرورات التنمية واحتياجات شرائح المجتمع التونسي الاكثر حرمانا. واشار إلى ان هذا البعد الانساني وجد ترجمته الاكثر تعبيرا من خلال ثلاث ادوات فاعلة على مستوى التحويل والمساندة الاجتماعية، تتلخص الاولى في «صندوق التضامن الوطني» المعروف بتسمية 26/26، الذي انشئ العام 1993 والثانية في «البنك التونسي للتضامن»، المتخصص في القروض الصغيرة اي «المايكرو - كريديت» الذي دخل إطار العمل ابتداء من مارس/ اذار 1988، والثالثة في «الصندوق الوطني للتوظيف» الذي رأى النور في مطلع سنة 2000.

ومن اجل مواجهة الفقر والبطالة التي لم يتجاهل بن علي مخاطرها المستقبلية في حال لم تحارب عمليا وليس لفظيا، والتي تجاوز معدلها في بعض المحافظات 20 في المئة، اعتبر انه يعد الامر يتعلق فقط بمساعدة الطبقات المسحوقة على العيش عبر توزيع المساعدات الغذائية أو من خلال حملات موسمية محدودة تحمل عناوين مختلفة ولا باختراع آمال تقوم على فكرة تعميم الاجور، لأن هذا النوع من المبادرات لا يمكن ان يؤمن العيش الكريم للجميع. فالهدف اليوم يتلخص في المساعدة على خلق فرص العمل في إطار مشروع تضامني يكل مزيجا من الكرامة الانسانية والفعالية في آن. وفي هذا الاطار جاء المشروع التضامني التونسي الذي يستهدف في الدرجة الاولى توفير ضرورات التكامل بين الجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي. في السياق نفسه، يمكن القول، إن تونس دفعت ثمن بند «التضامن الاجتماعي» الذي بات جزءا أساسيا في جميع الخطط الخمسية المعتمدة. إذ كلفها عدم التحرير الكامل والمتسرع لاقتصادها ولسعر صرف عملتها، وكذلك التأني في فتح ابواب سوقها المالية وبورصتها مشرعة امام المضاربين، وتنويع شراكاتها حفاظا على استقلالية القرار الاقتصادي، تلقي الحملات الاعلامية المنسقة من بعض الجهات الاوروبية التي تعمدت خلط السياسة الاقتصادية بالثقافة بهدف زعزعة استقرارها. لكن مستوى التضامن الاجتماعي، كان العائق الرئيسي امام نجاح الحملات في تحقيق مبتغاها حتى هذه اللحظة. ويبقى الحديث هنا عن الجهود المبذولة على صعيد التحولات الاجتماعية وموازناتها التي ارتفعت لتقترب من نسبة الـ 21 في المئة من اجمالي ناتج الدخل القومي. كذلك، عن التقرير الصادر عن الامم المتحدة عن التنمية للعام 2001، الذي ذكر ان تونس كانت بين الدول العشر الاولى التي تمكنت من تحقيق النتائج الاكثر فعالية على الصعيد مكافحة الفقر. ويظهر التقرير نفسه بأن هذا التراجع المسجل، ترافق مع تحسين شروط العيش، كذلك مستوى المؤشرات المتعلقة بالرفاه الاجتماعي.

وفي الخطاب عينه، عاود بن علي التذكير بأربعة محاور: الاستقرار، البعد عن التطرف، التضامن والطبقة الوسطى. وأشار إلى ان الخيارات المعتمدة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، سمحت بفرض مفهوم المجتمع الوسطي، البعيد عن الانحياز لطبقة محددة. وحول موضوع التضامن، بين الدول والشعوب، الذي يعتبره عنصرا اساسيا للحد من الفوارق التي ادت إلى اهتزاز الاستقرار والأمن في العالم. لذلك وجه الرئيس التونسي من على منبر الامم المتحدة نداء لقادة العالم وللمؤسسات الاممية والدولية لانشاء «صندوق عالمي للتضامن»، يتولى جمع التبرعات والمساهمات الخيرية لتوظيفها في مقاومة الفقر والنهوض بالمناطق الاكثر بؤسا. مبادرة لقيت تجاوبا كاملا، كما من المتوقع ان يعتمد هذا المشروع رسميا وقريبا جدا من قبل الامم المتحدة.

فمن اجل السير قدما بخطوات تحقيق «جمهورية الغد»، اعلن بن علي في خطابه برنامجا اصلاحيا دستوريا يتناول جميع الجوانب من دون استثناء. بناء عليه، من المتوقع ان يكون العامين 2003 و2004 من المحطات التاريخية في التحول على الطريقة التونسية

العدد 75 - الثلثاء 19 نوفمبر 2002م الموافق 14 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً