العدد 752 - الأحد 26 سبتمبر 2004م الموافق 11 شعبان 1425هـ

بدايات أمين معلوف... الهجرة والجذور

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

«غيري قد يتحدث عن «الجذور»... تلك ليست مفرداتي، فأنا لا أحب كلمة «جذور»، وأقله صورتها. فالجذور تتوارى في التربة، تتلوى في الوحل، تنمو في الظلمات، تبُقي الشجرة أسيرة، منذ ولادتها، وتغذيها لقاء ابتزاز: «لو تحرَّرتِ، تموتين!» ترضخ الأشجار لأنها بحاجة إلى جذورها بعكس البشر. إننا نتنفس النور ونطمح بالسماء، ومتى غصنا في التربة، فلنتعفنَّ ولا يصعد نسغ الأرض عبر أقدامنا إلى رأسنا، وأقدامنا إنما تصلح للسير. لا تهمنا سوى الدروب. هي تسيِّرنا - من الفقر إلى الغنى، أو إلى فقر آخر، من العبودية إلى الحرية أو إلى الموت العنيف. تعدنا، تحملنا، تقذفنا، ثم تتخلى عنا. فننفقُ، كما ولدنا، على حافة طريق لم نخترها أصلاً».

بهذه الكلمات المفعمة بالحميمية والشاعرية، الوجودية يكتب «أمين معلوف» مقدمته لسيرة أسلافه «بدايات» الحائزة على جائزة المتوسط، وقد أمعن في كتابتها متنقلاً بين زمانه وأمكنته وأزمنة وأماكن شخصيات الرواية، ما بين باريس وبيروت وهافانا وكيرميرسيس، حتى انتهى من طي آخر صفحاتها في سبتمبر/ أيلول 2000.

باستطراد يكمل «خلافاً للأشجار، لا تنبثق الدروب من التربة على هوى البذار. مثلنا، لها أصل. أصل وهمي، فالطريق ليست لها بداية حقاً، قبل المنعطف الأول، هناك في الخلف، ثمة منعطف آخر، ثم آخر، أصل هارباً لأن كل تقاطع انضمت إليه دروب أخرى آتية من بدايات أخرى. ولو تطلب الأمر أن نحتسب كل هذه الروافد، لدرنا حول الأرض مئة مرة!».

قلق الهوية

على متن النص، يعبر المؤلف مراراً وتكراراً عبر سرديته لتاريخ أسرته وخصوصاً جده «بطرس» المعلم، عن هواجسه بشأن الهوية، فيذكر بثقة لا يراودها التوجس أو الخوف أنه ما شعر في حياته قط بانتماء ديني حقيقي أو انتماءات، لا يتصالح أحدها مع الآخر، ولم يحس بانتساب كامل إلى أمة من الأمم، لذلك فهو يتماهى مع مغامرات أسرته الكبيرة تحت كل السماوات استناداً إلى أسطورة إغريقية ميثولوجية يجدها زائفة ولكنه يجلها وكأنها تختزن الحقيقة.

وبإصرار الباحث في سيرة أسلافه، يتتبع منهجية سردية تحليلية نقدية، تتوافر على الروح العلمية، التي يبقى مسافة لضرورات الحقيقة الموضوعية، يتفحص بفضول ويعاين من خلالها كل ما توافر بين يديه، على رغم الدفق العاطفي والشحنات الشاعرية الحزينة التي يبديها تجاه حبه وانتمائه لجده ولعائلته، ذلك أنه فتح أبواب الاحتمالات على مصراعيها للتأكد من صدق الروايات التي استشفها من مصادر متعددة وعاين حوادثها واستنطقها مباشرة سواء من خلال الأحياء أو سجلات الأموات، وتحسر يقول: «كم من الأشعار والقصص، من صميم الواقع أو من بنات الخيال، طواها النسيان لأنها لم تدوّن! ماذا بقى لنا أصلاً من الماضي، ماضي أهلنا وماضي البشرية جمعا؟...».

وتبرز استدلالاته التحليلية والنقدية حينما يسرد كيف أن الفرع الأرثوذكسي من عائلته موالٍ إلى الروس، والكاثوليكي كان يتمنى هزيمة القيصر وانتصار اليابان في حربها مع الروس ما بين الأعوام (1904-1905)، حتى يستنتج أن جده يحكم موقفه من هذه الحوادث من خلال المبادئ الكونية لا وفقاً للانتماءات الخاصة. ويؤسس لهذه الفرضيات من خلال المراسلات والخطب التي كتبها وألقاها جده في المحافل والمناسبات. ولعلنا نجده يبالغ في سياق النص على تطويع قناعاته ومماهاتها مع قناعات أسلافه: «في ذهن أجدادي، دولتهم، تركيا ولغتهم هي العربية، وولايتهم سورية، ووطنهم جبل لبنان...».

الحكاية فقرة من التاريخ

عند تصفّح الصفحات الأولى من الكتاب ستقع عيوننا على قائمة محتويات مغايرة للتقليد، تبرز عناوين الفصول بكلمات ذات معانٍ تعبيرية لها دلالة عميقة لمضمون حكاية كل فصل من فصول الوقائع مثل (تلمسات، مسارات، استنارات، صراعات، مقرات، عداوات، معضلات، نهايات،...) وتنتهي بالبدايات التي ألمح إنه لربما يأتي الوقت لكتابتها في أعمال قادمة يخصصها لشخصيات أخرى من عائلته.

يبدأ «أمين معلوف»، باستعراض مشهد وفاة والده «رشدي»، وينتهي بإعادة سرد الحكاية ذاتها، في الفصل الأخير بتقنية تعيد القارئ من شتات الماضي وتلملم تشرذمه إلى الحاضر. تشاركه جدته «نظيرة» والدة أباه لحظة الفقد الحزينة، تلك الجدة التي أهداها الكتاب إضافة إلى عمته «كمال» وزوجها «شارل أبو شعر» وإلى «لوريس صادر أبوشديد»، بلوعة الفقد يقول (... سرعان ما غرقنا في الصمت، ملاذنا..) هذا الصمت الذي يكون مدخلاً آخر لبدء تفاصيل حكايات عائلته.

وكما ذكرت، ان تاريخ الأوطان غالباً ما تجتزأ وقائعه بطرق أو أخرى، أو تطمس أو تشوه صورها، فقد نلاحظ أن المؤلف أخذ على عاتقه بقصد أو من دونه، البحث والكتابة والتحليل لسيرة جده «بطرس» المعلم والشاعر وصاحب ومؤسس «المدرسة العمومية» في الضيعة، التي أدارها مع جدته «نظيرة»، وقد برز ذلك في سياق سردي لم يهدف منه إبراز الدلالات الشخصية لغاية وطموحات ذات أفق ضيق، إنما كان سيرها متناغماً على أبعاد خطوط متوازية عالقة بتاريخ الجبل اللبناني وعلاقته مع الدولة العثمانية وما تعاقب عليه من احتلالات أجنبية، منذ القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر.

وإن توغلنا في النص، فسوف نلمح التقاء المؤلف مع الرؤية التي ترى إن إعادة كتابة التاريخ لا تختزل عند ملف فتح أو قفل قضية ما بأمر من هذا المسئول أو ذاك، وهو ليس مبارزة بين المعارضة والحكم، إنما هو التعايش بين صيغ مختلفة لتاريخ كيان معين. ولأن تاريخ لبنان يرتكز على التنوع والتعدد، فقد أضاء المؤلف الزوايا التي تبرز ذلك التنوع والصراع والتعايش معه، خصوصاً العلاقة المتداخلة بالتناقضات ومحاور التلاقي عبر التزاوج والصراع الخفي والبارز من حين إلى آخر بين العائلتين اللتين ينتسب إليهما أمين معلوف من جهة الأم والأب، وهو لا يتوانى عن التأكيد أن ذاكراته التاريخية قد تحرّرت بدورها من أدوات التحجر والانصياع.

وإذ يعتبر أحد الباحثين في شئون التاريخ: أن توافر البنية التحتية الوطنية المتراكمة تدريجياً وباستمرار، من مثل المتحف الوطني المتخصص والتماثيل والنصب التذكارية في المناطق والميادين والقرى والساحات والشوارع كمنبهات تنشط فضول الناس، فضلاً عن القلق على المستقبل والعلاقة القوية بين النقيضين (الماضي والحاضر)، فهي كلها متطلبات لكتابة التاريخ.

نقول إنه وفقاً لذلك نستطيع احتساب سردية «معلوف» كجزء متراكم من فصول التاريخ اللبناني، خصوصاً إنه اعتمد على أهم الأدوات السردية ومنها الرسائل التي احتفظ بها جده «بطرس» سواء التي أرسلها أو تسلمها، إذ قام بتحليلها وربط مضامينها وتواريخها، وتعرف على حال ضيعته في سنوات الحرب والمجاعة والتأثر بثورة التنوير والحداثة التركية بقيادة كمال أتاتورك، والحرب العالمية الأولى والثانية. أيضاً استند على ما توافر له من صور أو حصل عليها من أقاربه، حدّق فيها بنظرة تحليلية نافذة واستنبط الحال النفسية والاجتماعية التي عاشها جده وأفراد أسرته، إضافة إلى الشواهد وزيارة الآثار والأماكن التي تراوحت ما بين لبنان «البيت الجبلي» و«المدرسة العمومية»، وفي كوبا «مقبرة كريستوف كولومبوس» ومقر «محفل الجمعية الماسونية الأكبر ومتحفه ومكتبته» والقصر الذي اشتراه عمه والحي الذي سكن فيه.

بين الهجرة والبقاء

يعالج معلوف حكاية الجد «بطرس»، وشقيقه «جبرايل»، بأدوات تشويقية وتفاصيل تبحث في شئون الاغتراب والهجرة والبقاء التي بدأها شقيق الجد إلى «كوبا»، والتي شرعت له الأبواب لتنمو أعماله وثروته هناك، فالثروة يراها البعض عاملاً يبرر الهجرة. «جبرايل» يكبر «بطرس الجد» بتسع سنوات، تزوّج من «أليس» شقيقة «نظيرة» التي تفقد زوجها في حادث سيارة في كوبا. الجد «بطرس» متمرد حاول في فترة ما اللحاق بشقيقه والهجرة إلى كوبا ولم يستطع، على رغم تمرّده وتنقله وعدم استقراره ما بين بيروت والضيعة. فحسب أسطورة عائلته التي سمعها بشأن حقيقة عبور «بطرس» الأطلسي لإنقاذ شقيقه في محنته، يكتشف على نقيضها، أنه أبحر لأنه نفسه يعاني من محنة، ويحلل ويتوصل إلى أن جده لا يصلح للهجرة في نهاية المطاف، فالمهاجر في نظره عليه الاستعداد لتجرع الحصة اليومية من المنغصات، وأفاد أنه مضطر للاستنتاج، أن رحلة بطرس إلى كوبا التي ظلت محفورة في ذاكرة أحفاده على أنها مأثرة من الآثار البطولية، كانت بالنسبة إليه مجرد مغامرة عاثرة ومؤسفة. وعن أسباب الهجرة، ينفي معلوف وبشكل قاطع أن المجاعة الكبرى في العام 1915 هي التي سببت موجة الهجرة، ويرى انها بدأت أصلاً نحو مصر والديار الأميركية واستراليا منذ عشرات السنين وتعاظمت بسبب أهوال المجاعة وفي وقت متقدم بسبب الحروب.

بيد أن معلوف يرمي للقارئ بصندوق مليء بالأسئلة المحرجة الدائرة حول تعدد الهويات والانتماء للوطن النهائي الذي يتأرجح ما بين وطن البقاء والهجرة، وهي بالطبع من أصعب وأعسر الأسئلة التي تصطدم بالواقع، وبروح الرغبة والمغامرة والتمرد على الكائن والمألوف، ولأن ما حصده حتى ذلك الحين الذي كتب فيه نصه كما يقول، متشرذماً ما بين الطموح والوهم، يكتشف أن الماضي بالضرورة متشرذم، ومستعاد ومبتدع من جديد، لا يحصد فيه المرء حقائق اليوم، فلو كان حاضرنا كما يقول ابن الماضي فما جنينا ابن الحاضر والغد حاصد لتهجيناتنا. بيد اننا لفهم ثقافة الحاضر قد نحتاج إلى تفسير سيرورة الماضي، أليس كذلك؟

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 752 - الأحد 26 سبتمبر 2004م الموافق 11 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً