العدد 757 - الجمعة 01 أكتوبر 2004م الموافق 16 شعبان 1425هـ

هل من بقية عقل؟

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

هل تعرفون ما هو مكسبنا الأهم والجوهري منذ تدشين الإصلاحات؟... «حرية التعبير».

بات بإمكان كل منا أن يعلن رأيه صراحة من دون أن يخشى أية عواقب، أو على حد التعبير الشائع: من دون أن يخشى طرقة الباب في الليل. هذا أولى علامات الصحة النفسية، فعندما يشعر الناس بالثقة يصبحون أقل توتراً وأكثر ميلاً إلى التفاؤل لأن عنصراً مهمّاً في علاقتهم بالسلطة قد اختفى: زال الخوف.

بات الناس يتحدثون بحرية في المنتديات والصحف والديوانيات وأصبح للمجالس التقليدية دور جديد تلعبه كمنتديات حوار أيضاً. اتجه الجميع للاستفادة من شبكة الانترنت فانطلقت المنتديات الإلكترونية وظهر العشرات منها.

من هذا التطور الأخير يمكننا أن نبدأ قصة ذات عناوين كثيرة: التحولات، الإحساس بالمسئولية، العقلانية، حدود التسامح، هل وصلنا خاتمة المطاف، كيفية التعامل مع مرحلة انتقالية، أساليب التغيير، التدرج ام الطفرات. هذه العناوين المختلطة مثلما هو جدلنا الذي لا يوصلنا إلى أي مكان، لاتزال مطروحة بقوة والمؤسف أن يتوصل المرء إلى الاستنتاج بأن السنوات الثلاث الماضية لم نر فيها سوى «الكثير من الألسن التي تتحدث والقليل من الآذان التي تصغي».

انطلقت المنتديات الإلكترونية في تلك الأيام التي كنا نتنفس فيها أولى نسائم الحرية، وعدا الكثير الذي يقال عن تلك المنتديات والمواقع، فقد شاهدنا وقرأنا مواقع غاية في الرصانة، جريدة «المنامة الإلكترونية» و«مجموعة أوال» ومواقع أخرى كثيرة تمتعت بإحساس عال بالمسئولية. لكن ما جرى هو بالضبط درسنا الذي ننساه دوماً.

انزلقت بعض هذه المواقع الى ما كنا نخشاه: السباب والشتائم والتطاول على الشخصيات العامة بالاسم. واجه الكثيرون شيئاً من الحيرة في التصدي لهذا الانزلاق لأن العناوين التي تتحدث عنها هذه الأقلام عناوين كبرى، فهي تتحدث عن القضايا والهموم نفسها التي يطرحها الآخرون من نشطاء سياسيين وحقوقيين وكتّاب وصحافيين وشخصيات برصانة وضمن حدود اللياقة والكياسة لكن بمثابرة أيضاً. الدستور، ضحايا التعذيب، الفساد، الأوضاع المعيشية، كل هذه القضايا كانت مطروحة، لكن تلك المنتديات الإلكترونية القليلة اختطفت تلك العناوين وذهبت بها الى حدود قصوى من التطرف والعنف اللغوي، راحت تتعاطى معها بأسلوب السباب والتطاول ولم يتوقف الكثيرون أمام سؤال مهم: طالما ان بالإمكان التعبير عن هذه المشكلات علانية بكل الوسائل المتاحة بشكل عقلاني، فلماذا يظهر صوت نشاز يتحدث عن القضايا نفسها لكن بذلك الأسلوب؟ وأين؟ في شبكة الانترنت التي تبدو مثل عالم أشباح إذ لا يعرف أحد من المتداخل ومن هو الذي يشتم ومن هو الذي يرد بكياسة ومن هو الذي يتطاول؟

«انها حرية تعبير» لم يكن جواباً موفقاً ولن يكون، لكن المؤسف أن البعض نطق به دفاعاً عن ذلك الانزلاق. وطالما ان الحكم على صحة أو صواب الرأي مرهون بالنتائج على الأرض، اليكم النتائج:

- تم إغلاق جميع المواقع الإلكترونية بما فيها تلك الرصينة التي حافظت على عقلانية حرية التعبير وعلى كياسة الطرح والتعاطي، لأنها أخذت بجريرة قلة قدمت استعراضاً فجّاً لانعدام الإحساس بالمسئولية.

- عزز ذلك الانزلاق غير المسئول ما ذهب إليه قانون الصحافة الذي يعرف «الموقع الإلكتروني» ضمن تعريف الصحيفة ويسكت عنه تماماً في بقية أبواب القانون. هذا يجعل كل الشروط المتعلقة بالتأسيس ورأس المال والرقابة التي تنطبق على الصحف التقليدية (الورقية) تنطبق حكماً على الموقع الإلكتروني.

- تعززت وجهة النظر التي تقول اننا «لا نستحق الحرية» وان «الحرية لا تعني الفوضى».

- عودة لأجواء الفرز الطائفي لأن الانزلاق للأسف كان يتم باختيار مقصود لأسماء لا تخطئ في تحديد هوية صاحبها ولا في توصيل إيحاء مقصود بأن المتطاول من هذه الطائفة أو تلك.

- كالعادة، شكل إغلاق المواقع الإلكترونية مناسبة للاحتجاج (لا تنسوا انه تعبير عن اليأس أيضاً) وجاءت الأصداء من الخارج: البلد تتراجع على صعيد الحريات.

أمعنوا النظر فيما يجري اليوم ولتنشط ذاكرتكم واستقرأوا بعناية كل ما جرى خلال عامين على الأقل ستكتشفوا مدى التشابه فيما جرى بالأمس وما يجري اليوم. اليكم النتائج:

- ناشط حقوقي في السجن.

- إغلاق جمعية حقوقية.

- إغلاق ناد ثقافي عريق ظل مفتوحاً منذ 65 عاماً.

- عودة لأجواء الفرز والاستقطاب الطائفي.

- من جديد، تتعزز مقولة اننا «لا نستحق الحرية».

- الأصداء تأتي من الخارج: البلد تتراجع في الحريات.

- حجج إضافية لدى أولئك الذين يسعون إلى تقييد الحريات العامة ويحركهم هاجس الرقابة. هذه المرة مع قانون للجمعيات معروض على البرلمان بل انني اتوقع ان يمتد هذا إلى ما هو أبعد بحيث يقوى هذا الاتجاه الذي يسعى إلى تقييد الحريات والانتقاص منها.

هذه بعض النتائج الظاهرة ولكم ان تدخلوا في لعبة التكهنات. خسرنا المنتديات الإلكترونية، فهل أبلغكم انني أخشى من إجراءات جديدة مقيدة للندوات العامة واشتراطات مقيدة جديدة، أم إن في العقل بقية من تفكير وقليل من حس المبادرة لوقف كل هذا التداعي؟ أي بعبارة أخرى: بتنا نخشى على المكسب الوحيد الذي تحقق لنا بشكل ملموس

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 757 - الجمعة 01 أكتوبر 2004م الموافق 16 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً