العدد 8 - الجمعة 13 سبتمبر 2002م الموافق 06 رجب 1423هـ

هاملتون وفوكوياما: مقالات في الديمقراطية الأميركية

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

يبدو أن جدلا فكريا بدأ يشتعل لإعادة رسم خريطة الغرب، هذا الجدل برز واضحا من خلال مقالين نشرا في صحيفتي «الاندبندنت» و«الهيرالد تربيون» يوم 9/8/2002، الأول كان للكاتب ادريان هاملتون بعنوان «نعم نحتاج تغييرا في نظام الدولة المارقة» أقر فيها الكاتب أن أميركا صارت منعزلة عن المدركات الديمقراطية حتى إنه يطالب بوضع نظامها تحت وصاية ديمقراطية حقيقية لمدة خمس أو عشر سنوات على غرار ما حدث لليابان بعد الحرب العالمية الثانية ولحين تبني نظام انتخابي يقوم على الغالبية المطلقة وبما يمكّن الولايات المتحدة من أن تأخذ مكانها بين الدول المحبة للسلام. وكتب مقال «الهيرالد تربيون» فرانسيس فوكوياما، الذي أقر أن التصدع البارز في علاقة الولايات المتحدة بأوروبا بات يثير أسئلة عن معنى الغرب، بعد أن بدا واضحا أن الفصل قائم حقا ليس بين الغرب وبقية العالم وإنما بين الولايات المتحدة وباقي العالم.

ويقول صاحب أطروحة «نهاية التاريخ» في طبعتها المستحدثة إن تصدع العلاقات الأوروبية الأميركية ليس مشكلة عابرة تعكس أسلوب الإدارة أو الوضع الدولي بعد حوادث سبتمبر/ أيلول الماضي، إنما في جوهره يعكس التصارع في الرؤى على موضع الشرعية الديمقراطية داخل الحضارة الغربية على ضفتي الأطلسي. فالفزع استبد بالأوروبيين ليس نتيجة انسحاب أميركا من «بروتوكول كيوتو» أو استمرارها في السعي لتنفيذ الدرع الصاروخية أو معارضتها للحظر على الألغام ومعاملتها لسجناء «القاعدة» في غوانتانامو أو معارضتها للبنود المزمع إدخالها على اتفاق الأسلحة البيولوجية وتاليا معارضتها للمحكمة الجنائية الدولية، وإنما هذا الفزع استنبت بعد إعلان عقيدة بوش بشأن متى وأين تستخدم القوة تحت تأثير مبدأ «السيادة الديمقراطية». فالأوروبيون باتوا على قناعة أن العنف الذي طبع تجربتهم خلال النصف الأول من القرن العشرين كان مصدره الرؤية الأحادية للسيادة الوطنية وإقران الشرعية الديمقراطية بسيادة الدولة القومية على الأساس الدستوري، وهو ما باتت تتجه إليه أميركا من خلال إدراج العراق وإيران وكوريا الشمالية فيما عرف باسم «محور الشر» ومن ثم الإعلان عن النية لتغيير النظام في العراق في إطار تطبيق بوش لشن الحروب بنقل المعركة المفتعلة إلى أرض العدو المفتعل، فيما الأوروبيون يرون أن مصدر الشرعية الديمقراطية ينبع من التعددية وليس من النظام الدستوري الأحادي؛ وتوجهاتهم نحو الاتحاد الأوروبي إنما هدفها تجاوز سياسات القوة التي تحث عليها السيادة من منطلقاتها القومية بعيدا عن القيم المشتركة المقيدة لمبدأ السيادة القومية.

وما لم يبدُ واضحا لدى فوكوياما برز أكثر شفافية لدى هاملتون، فأميركا التي تتشبث بدستورها إلى حد التصور أنه النموذج الذي يقاس على أساسه سلوك الدول المختلفة على الصعيدين الخارجي والداخلي، حتى رفضت التعامل مع رئيسين ليس هناك شكوك في أنهما بلغا السلطة عبر صناديق الانتخابات الديمقراطية وهما الرئيس ياسر عرفات والرئيس الإيراني محمد خاتمي. وتنسى الحكومة الأميركية التي تعلن نواياها في تغيير حكومات بدعوى نشر الديمقراطية أنها جاءت إلى السلطة عبر حكم قضائي من دون شرعية الغالبية الديمقراطية. وفي حديثها عن امتلاك خصومها لأسلحة الدمار الشامل ومخاطر هذا الامتلاك تتناسى أنها الحكومة الأكثر إنفاقا على تطوير هذه الأسلحة، بل إن التاريخ يذكر أنها الدولة الأكثر استخداما لها.

صناعة الإجماع

على أي حال، الواضح أن هذا الجدل الآخذ في السخونة الآن ليس جديدا. تحدث الكثير من المفكرين الأميركيين عن التهتك الذي يكتنف الديمقراطية الأميركية وتقلص شرعيتها. فـ «آموري رينكور» تنبأ منذ وقت مبكر (في ستينات القرن الماضي) عن جرثومة القيصرية الإمبراطورية التي ستصيب أميركا كنتيجة لتطور طبيعي للنظام السياسي المتجمد منذ القرن الثامن عشر الذي أضحى يشير بشكل متواصل إلى تراجع ملحوظ في وظيفة المؤسسات التشريعية المنتخبة والتهميش المستمر لصلاحياتها والتزايد المفرط لدور الحكومات وتضخيم صلاحيتها وإمكاناتها، وهذا ما يعجل ولوج أميركا إلى عصر القيصرية، الذي توقع له رينكور أن يتجه إلى التحول نحو الحقبة الإمبراطورية وعلى غرار ما حدث للإمبراطورية الرومانية حال تحكمها بالقوة والطغيان في العالم.

وتحدث نعوم تشومسكي منذ عقد عن الازدواجية التي تحفل بها الديمقراطية إلى حد وصمها وبالدليل القاطع بالنفاق، ومظهر النفاق بارز في السلوك الدولي لأميركا عبر مظهرين: تمجيد النظم الملائمة لسياستها مهما كانت هذه النظم، وقمعها للنظم المختلفة معها من دون الاهتمام بمحتوى السلطة في هذه النظم.

سبق للرئيس رونالد ريغان كما الرئيس بوش الأب أن وصفا ديكتاتور الفلبين (ماركوس) بأنه نذر نفسه للديمقراطية، ووصف (كلينتون) الرئيس الروسي يلتسين بأنه الضمان لانتصار الديمقراطية حتى وإن كانت هذا الانتصار يمر عبر قصف مجلس الدوما بالدبابات. أما الرئيس الفلسطيني فيجب إزاحته حتى وإن كان شعبه يريده ويرغب في إعادة انتخابه. فمعيار الديمقراطية هو مدى خدمة التوجهات الأميركية. وطبعا أن إعاقة الديمقراطية وفق هذا المنهج على المستوى الدولي ما هي إلا انعكاس لإعاقتها على المستوى الداخلي المتأتية عبر ما يسميه الفن توفلر بـ «فائض النظام»، فمهما كان عدد المتنافسين في الانتخابات والأحزاب التي يمثلونها فإن الفائز الوحيد في كل الانتخابات وبمستوياتها المختلفة هو حزب البيروقراطية ومن يمثلون المصالح فيه. ويبدو أن هذا تحصيل حاصل فإذا كانت العضوية في الكونغرس بحاجة إلى صرف عدة ملايين الدولارات على حملة الانتخابات الواحدة، فكيف يمكن لمن يريد أن يحصل على هذه العضوية أن يسلك مسلكا وطنيا؟ أوليس من المنطقي أن يعوض ممولي حملته الانتخابية وأن يمارس مهماته تحت بواعث الربح والثراء والصفقات؟

ومن المنطقي أن تعمل اعتداءات سبتمبر على تعزيز النزعات الاستبدادية الموجودة أصلا في السياسة الأميركية على النطاقين الداخلي والخارجي، ولاسيما أن صناعة الإجماع في الرأي العام الأميركي بدأت تنصرف عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تلك الاعتداءات، واعتبرت مبررات حدوثها تكمن في العدائية القائمة في الشرق الأوسط، تلك العدائية التي تذكيها حسب صناعة الإجماع نجاحات الديمقراطية الأميركية. وهذا في إطار التحليلات التي يسوقها صناع الإجماع فإن الإرهاب نتاج حصري من المسلمين يترتب على الغرب أن يقضي عليه بواسطة الحروب العسكرية والضغوط الاقتصادية والسياسية. ولأجل القضاء على الإرهاب وردعه لابد من البرهنة على أن أميركا ليست «نمرا من الورق». وقد تكلف هذه البرهنة استخدام عدد من الصواريخ النووية. ولكي تنجح صناعة الإجماع في تحقيق أهدافها، فإن أي محاولة لفهم ما حدث باتت تواجه بتهمة التضامن مع منفذي الاعتداءات. والنتيجة تعليق العمل السياسي الداخلي وإلحاق الأذى بالحريات المدنية بما فيها حرية التعبير؛ بغية إخراج الطبيعة الحقيقية للإرهاب ومصادر نشوئه وازدهاره عن دائرة النقاش بما في ذلك توظيف أميركا للأصولية الإسلامية ولأسامة بن لادن نفسه في إطار سياستها إبان الحرب الباردة.

يبدو أن تسويق الحكم في أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون مذنبة وليست مسئولة عن شيء، وأي تصريح معاكس يعني الانحياز إلى جانب الأعداء، قد لقي قبولا لدى الأميركيين من دون أن يلقى نجاحا في الضفة الأخرى على الأطلسي. وتعثر الوصول بهذا الحكم إلى الضفة الثانية من الأطلسي سيؤدي بالنتيجة إلى تقليص تسويقه داخل أميركا نفسها ولاسيما أن المؤشرات تزداد بأن العدائية لأميركا في تزايد ليس في العالم الإسلامي وحده، ولكن في العالم بأسره.

وعن هذا الأمر تنتج أمور كثيرة في مقدمتها إما أن تنصرف أميركا إلى إبراز ديكتاتوريتها أكثر على الصعيدين الداخلي والخارجي وبالتالي تبلور معنى جديدا للغرب تصبح فيه أميركا والغرب لا تعني الشيء نفسه، وإما أن تعود أميركا إلى منهج التعدد والديمقراطية وبالتالي تقلص من تدخلاتها الخارجية بما يعيد الشرعية الديمقراطية والدولية. وهو أمر وفق المعطيات الراهنة بعيد الحصول؛ لأنه يتطلب تغييرا جذريا في النظام الأميركي نفسه

العدد 8 - الجمعة 13 سبتمبر 2002م الموافق 06 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً