العدد 804 - الأربعاء 17 نوفمبر 2004م الموافق 04 شوال 1425هـ

عودة إلى أبي الطيب

حسين السماهيجي comments [at] alwasatnews.com

قال أبوالطيب في لحظةٍ من أخطر لحظات تجليه الشعرية:

ما بقومي شرفْتُ بل شرفوا بي

وبنفسيْ فخرتُ لا بجدودي

هذا البيتُ وسواه من أبيات المتنبي السائرة على ألسن أبناء العربية إنما يلامس شغاف قلب العربي لأسباب كثيرة ومعقدة، وليس من السّهل أبدًا التنطع بتحديد الجوانب التي من خلالها تحصّل شاعر العربية الأكبر على مكانته في قلوب الناس بصورة جازمة؛ فهو قادر على تلبية الحاجات النفسية لمختلف الطبقات، وقادر على التعبير عن فئات اجتماعية شتّى. وهو، بشخصيته التراجيدية، وبأحلامه وآماله التي لم تجد طريقًا للتحقق، سلوةٌ لكل عربي كان أو سيكون ممّن تحطّمت آماله وأحلامه.

هذا المتنبي، أيضًا، هو المثير للجدل بمعارضته للسلطات مهما كانت، وبعدم إقراره إلا بسلطة واحدة هي سلطة الذات المبدعة في قبال تسيُّد رهيب لسلطة الحاكم الذي لا يني يسخّر الشاعر في سبيل دعم سلطته المطلقة. ومن هنا يمكن لنا أن نفهم ونستوعب تلك اللعبة الخطرة التي مارسها المتنبي مع الحكّام، إذ ذهب في السخرية منهم ما لم يذهب إليه سواه، سواء في مقام الإلقاء أم في مقام التنبه لمتاهة اللغة وانفتاح دلالاتها على التناقضات لتغدو في الوقت نفسه «مع» و«ضد»، و«مديحًا» و«هجاء»، وليتكرس التنازع بين الأنا والآخر بشأن باطن النص... وليطرح السؤال الشائك عن: من هو الممدوح ومن هو المهجوّ؟

ثم يتنازع هذا المتنبي مع أسياد اللغة والنحو، ويكرّس وجودًا خاصًّا لم يتكرر إلا في أحوال قليلة لسلطة الشاعر المتفوقة على سلطة فقيه اللغة، ولنا أن نعيد قراءة علاقة المتنبي بأبي الفتح عثمان بن جني فقيه اللغة والنحو الأكبر في عصره، لنرى كيف أنه - أي المتنبي - متبوع والآخر هو التابع. ويتجاوز شاعرنا ذلك كلّه إلى بعد آخر، تمثل في انتصار أشعاره لسلطة «الكوفة» لغة ونحوًا، في قبال المدن والأقاليم الأخرى... والكوفة بما تحمله من مداليل رمزية لتاريخ غير مستقر، شحنت شعره - إضافة إلى قوانينينها المنفتحة على لغات العرب - بتمرد مضاعف ورفض لكل السلطات القامعة لوجود الإنسان العربي.

هذا المتنبي، وهو الشاعر المهاجر/ المهجَّر... وللصفتين أن تنطبقا عليه... حمل معه «كوفتَه» التي ورثها من تاريخ مليء بالغضب، ليمزجها بروحه القلقة، وليجابه التسلط والقمع، بل والتخلف والجهل العام... أوليس هو القائل:

بكلِّ أرضٍ وطئتُها أُمَمٌ

ترعى بعبدٍ كأنها غنمُ

هذا المتنبي المهاجر/ المهجَّر يحقّ لنا أن نعود إلى قراءته حينًا بعد حين، ولكنْ، بعين بصيرة ترى إلى الشيء وظلاله، وتتمعّن فيما يختبئ خلفه. على أنه من السهل إطلاق الأحكام الجاهزة، وتحميل أشعاره وسيرته ما لا تحتملانه... وهل لنا أن ننسى، في هذا المقام، تلك التناقضات الفادحة عنه، منذ لحظة ولادته ونسبه، مرورًا بتشكل ذاته الشعرية وعلاقته بممدوحيه، وانتهاء بمصرعه على أبواب «كوفته» التي تشرّبها وكانت حلمَه الذي لم يتحقق.

سيبقى أبوالطيب المتنبي، كما كان في حياته، العلامةَ الكبرى على كونٍ شعريٍّ تمّت محاربته وجوبه بشتى محاولات الإقصاء، ووجّهت له تهمة تخريب الذات العربية مع سبق الإصرار والترصد، إلا أنه بقي طيلة هذه القرون صوتَ الإنسان العربي الذي يعي مأساته، ويسعى إليها معمّدًا بدمه... وهو القائل:

وسوى الرُّوْمِ خلفَ ظَهْرِكَ رومٌ

فعلى أيِّ جانبَيْكَ تـمـيـل

العدد 804 - الأربعاء 17 نوفمبر 2004م الموافق 04 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً