العدد 822 - الأحد 05 ديسمبر 2004م الموافق 22 شوال 1425هـ

أنساق تتناسل لا أول لها ولا آخر

الطائفية في البحرين

غسان الشهابي comments [at] alwasatnews.com

على رغم أننا نعيش في داخلها، ولا يمكننا الفكاك منها أو الإشاحة بوجوهنا عنها، إلا أنني اعترف أنه من الصعوبة بمكان إيجاد المدخل المناسب للكتابة أو الحديث عنها... من أين بدأت وكيف تصاعدت وتيرتها، إنها الطائفية.

لقد تميزت السنوات القليلة الماضية بارتفاع وتيرة الحديث عن الطائفية، أو الحديث الطائفي أساساً، وصار لكل طائفة من الطائفتين المذهبيتين الرئيسيتين مفاتيح في الكلام وحجج معلومة، وليس من الصعوبة أن يفهم أي متتبع منطلق ما يقرأ أو يسمع حتى قبل أن يعرف من الذي قال أو كتب هذا الكلام أو ذاك.

يمكن أن نلحظ أن التأسيس الطائفي قد أخذ في التماسك حديثاً وبشكل منطقي، في الفترة التي بدأت فيها موجة التدين تتغلغل في العالم ككل، فليس العالم الإسلامي ببعيد عن هذه الرجعة إلى الدين بعد عدة عقود من الإسراف فيما أسمي بالتحرر والحركات الداعية إلى التحرر من كل قيد اجتماعي أو ديني أو ثقافي، فكان رد الفعل بمقدار الفعل، ومضاد في الاتجاه، فالصراعات العرقية والدينية في يوغسلافيا السابقة، وألبانيا وما حولها من دول في بداية التسعينات لم تأت من فراغ، بل من شحن متأصل استمر ينمو على مر العقود حتى حانت اللحظة المناسبة للإفراج عن هذه الشحنة فأخذت تقتل وتعمل على ما يعرف بجرائم الإبادة.

الأمر لدينا ليس بهذا السوء، وليس مرشحاً ربما إلى الآن أن يتدهور إلى حتى أقل من هذا الحد ولكنه بالفعل ينم عن مشكلة حقيقية في القدرة على التعايش مع «الآخر».

شخصياً، لا أميل إلى تحميل طرف من أطراف المعادلة كل المسئولية، ولا حتى الجانب الأكبر منها فيما نحن عليه اليوم، لأن الجميع يتحملون ما آل إليه الوضع، والمشكلة الأكبر أن الأطراف المتورطة في هذا الأمر قد وجدت نفسها اليوم في منتصف الطريق، وربما الأسهل عليها أن تقطع النصف الباقي أياً كانت الخسائر مفضلة ذلك على الرجوع عما أسست نفسها من أجله.

لقد تمكنت القوى البحرينية في مفاصل مختلفة من تاريخنا المعاصر من الاقتراب والاتفاق على أجندات محددة تحاكي المصلحة الوطنية، وتستهدف هذه المصلحة، ولا يمكننا اليوم القول بأن الماضي كان نقياً ووردياً، ولكنه بحسب ما يصل إلينا وما يتناقله الشهود كان مستقراً على ثوابت لا تحيد، وهي في حدودها الدنيا ترى أن مصلحة هذا القارب أن يجدف بمجدافين اثنين، لا أن يرمي أحدهما الآخر في عرض البحر، ولكن مع امتداد الموجة الدينية، صار كل طرف يرى في ما يؤمن به أنه الأصح على الإطلاق، وإلا لما آمن به واتبعه وصار ينبش في قديم الكتب وجديدها ما يثبّت من وجهة نظره ويعززها.

المشكل الأساسي في هذا التوجه الجديد أنه لا يقوم إلا على إلغاء الآخر، لا على التفاهم معه والتعايش، على اعتبار أن الدين لله خالصاً، والوطن لمواطنيه خالصاً، فلقد اختلطت المفاهيم بعضها ببعض، وصار الدين والمواطنة في أحيان متعددة وجهين لعملة واحدة، وليسا عملتين مختلفتين.

ففي الدول العلمانية، لا يتقبل الفرد هناك أن يُسأل عن دينه، ناهيك عن مذهبه، لأن هذا السؤال يستتبع تساؤلاً: «لماذا يا ترى أسأل هذا السؤال؟ هل سيتخذ السائل موقفاً مني بسبب ديني؟ أو مذهبي؟».

تأكدت الهويات المذهبية في البحرين في بداية الثمانينات، خصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وقلب نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري، فشعر الشيعة في البحرين أن لهم امتداداً طال انتظاره في الجمهورية الجديدة، واليوم عندما تسمع أحدهم يقول: «ذهبت إلى الجمهورية» أو «سمعت في الجمهورية»، فمن المستقبح أن تسأل «أي جمهورية هذه من بين الجمهوريات؟»، فلا ينصرف القول إلا إلى «جمهورية» واحدة لا غير.

في المقابل، أسهمت البعثات التعليمية للدراسات الجامعية في استقطاب نفر ليس بالقليل من أبناء السنة إلى مدينة الرياض في المملكة العربية السعودية لتلقي أنواع مختلفة من العلوم، ولانجذاب طبيعي بين أبناء البلد الواحد لبعضهم بعضاً صارت عملية الاستقطاب سهلة، وتوافرت لعدد من هؤلاء الطلبة حصة جيدة من التعاليم المتشددة تجاه «الآخر»، فكلا الطرفين يرى في الآخر أنه مارق، أو حفيد مارقين، والعِرق دساس، وبالتالي لا يمكن لأي منهما الوثوق في الآخر والاطمئنان إلى حسن نواياه وتصرفاته، بل وحتى ما يخرج من بين شفتي طرف لا بد وأن يُمرر على ألف مصفاة وأداة تحليل وتركيب في ذهنية الطرف الآخر ليعرف ما المقصود الحقيقي مما قيل... الطريف في الأمر أن من ذهب إلى السعودية وتتلمذ على أيدي مشايخ القصيم لا يكتفي بحمل الفكر إلينا، بل يعود أيضاً بلسان صحراوي... كما تخرج لدينا بعض المسيرات التي تندد بأميركا بلسان إيراني مضحك في نطق كلمة أميركا ذاتها... فالتوحد بالمحبوب يذهب إلى مداه في الملبس واللسان بعد أن يكون قد هيمن على العقل وطرائق التفكير، إنه نهج المقلدين غير المبدعين، وهم في الغالب الأشد منافحة عما حفظوه لعدم قدرتهم على اجتراح نظريات جديدة، فعندما يتم التشكيك في المحفوظات، تتوه بوصلة الحافظ، ولذلك فعليه التشدد في التمسك بالنظرية التي تعلمها والدفاع عنها تأكيداً لهويته.

انعكس هذا التباعد جلياً على أمور حياتية شتى، من الانضمام إلى الأندية الرياضية أو تأييدها، مروراً بتشكيل الصناديق الخيرية التي كانت المتنفس الأبرز للتجمعات في ظل قانون أمن الدولة، فصار لا ينشأ صندوق خيري في منطقة مشتركة إلا ونشأ إلى جانبه صندوق آخر لـ «العمل» الخيري، وصولاً إلى الأسماء، فنلاحظ أنه في السنوات العشرين الماضية، خرجت علينا جملة من الأسماء التي لم تكن مطروقة كثيراً ذي قبل، ولكنها تبعاً للحال الراهنة التي نعيشها صارت تعبر عن مرتكزات أصحابها وأفكارهم، وكأنهم يودون أن يفرزوا أنفسهم من خلالها... انتهاء إلى ما آل إليه مجلس النواب في الآونة الأخيرة.

وتفصيلاً، للأمر، فقد دخل العقل الجمعي الطائفي في الكثير من المؤسسات ومنها ما كانت فكرته الأساسية تذويب الفروقات وصهر الناس ببعضهم بعضاً ضمن فرق رياضية تنتمي إلى ناد، وأكثر النوادي قدرة على هذا المشروع تلك التي لا تنتمي تسمية أو تاريخاً لمنطقة بعينها، ومع ذلك أصبح ما يشبه تكملة للانتماء المذهبي أن ينتمي الإنسان قلباً أو قالباً أو بالاثنين معاً إلى نادٍ يفرز نفسه على أنه يمثل طائفة معينة، ولا تخفى علينا الأسماء ولا الأندية، ولا تخفى أيضاً صيحات المشجعين العفوية التي لا تكتم ما تكنه القلوب التي في الصدور حين الفوز أو الخسارة من طرف يمثل النقيض الطائفي، وفي الجعبة من الأمثلة ما يندى له الجبين.

وفي الصناديق الخيرية التي يجب أن تتوجه إلى الفقراء من الناس وضعاف الحال، تبرز الفتاوى أو أشباه الفتاوى بأن هل يجوز أو لا يجوز أن يهب الإنسان مالاً قد يذهب جزءٌ منه إلى الطرف الآخر، وبالتالي، أخذت كل طائفة بمبدأ الأحوط بأن تعلم من أين تأتي أموالها وإلى أين تذهب، فصار للفقر مذهب، وللعوز ملة، ومن هنا كان لزاماً أن ينشأ في المنطقة الواحدة صندوقان خيريان باسمين متقاربين كل يخدم أبناء مذهبه، والمشكلة تبدت عندما طرحت فكرة اتحاد الصناديق الخيرية، إذ لاتزال هذه الخطوة متعثرة، والأسباب المعلنة لا تشي إلا بما وراءها من أسباب يستحون المجاهرة بها.

الوضع الشبابي المؤسف

ولا شك في أن الكثير منكم تصله رسائل منقولة من مواقع حوارية أو منتديات، ولا أشد على القلب من العدد الأكبر من هذه المنتديات التي تفوح بالطائفية في أبشع صورها وأكثرها شراسة، وخصوصاً أن أكثر كتابها، وربما جميعهم يتمترسون وراء أسماء وهمية، تمنح أصحابها الطمأنينة لإفراغ المكنون من عوالق طائفية، بإرسال ما لا يقبل التأويل في الانتماء والمبالغة فيه، وكأن المبالغة هي الطريق إلى الجنة، ويبدأ الجميع في إرسال الرسائل ذات المعاني المبالغة كثيراً في تسفيه، تكفير، نفي وإلغاء الآخر. في إشارة إلى أن انتماء «الآخر» إلى مذهب مخالف لا يدل إلا على قصور في عقله، وخلل في نفسه. بعض الرسائل تهاجم الطرف الآخر، وبعضها الأقل عنفاً والأكثر تلطفاً تشفق على أهل المذهب الآخر لجهلهم، وتدعو لهم بالهداية.

أكثر هذه المشاركات تدور حول شخصيات تاريخية، سواء كانت من المحسوبين على آل بيت رسول الله، أو صحابة الرسول وأزواجه، وتدور الحوارات بين صحة ما قالوه أو قيل عنهم، وبين التشكيك في نقاء دينهم وصفاء عقيدتهم، ويمضي الجدال إلى ما هو أبعد من هذا حين يبدأ الفريقان بالتنابز وتحقير رموز الطرفين وتجريحهم، انتهاء إلى ما لا يقال علناً في مكان محترم كهذا، من سباب بذيء يترفع عن تلفظه صاحب كل لسان عفيف.

وما يؤسف له، أن السواد الأعظم من المشاركين في المنتديات الإلكترونية، هم من المراهقين والشباب، وهذه خطورة أخرى نواجهها، لأن هذه الفئة هي الأكثر حضوراً في المجتمع، وبالتالي إن ضُربت هذه الفئة بفيروس الطائفية، فالخلل سيصبح عظيماً، ويتسع الخرق على الراقعين، وما أقل الراقعين في نهر التدافع الطائفي.

وهذا الأمر ليس ببعيد عما جرى في أحد الكيانات الشبابية، إذ جلستُ ذات مرة إلى من كانوا ينافحون عن مسألة إنشاء اتحاد، وكان الجالسون من الطائفتين، بعضهم لايزال على إصراره في إنشاء الاتحاد، والبعض الآخر قد تخلى عنه، وأرجو تأمل هذا الحوار... كان الجو متوتراً شيئاً ما، وصرنا نشجع الطرفين على الحوار، الطرف الباقي والطرف المنسحب، فقال الطرف الباقي: أنتم انسحبتم وتركتمونا لوحدنا حتى يصطبغ مطلبنا بصبغة طائفية.

فرد عليه الطرف الآخر: وماذا تريدون منا، فلقد اجتمعتم سراً، ورتبتم الأمور مع قياداتكم العليا، وجئتمونا بعد أن انتهيتم فقط لنزين المشهد ونصبح ملتحقين لا مؤسسين.

هل سيكون من العسير عليكم وأنتم لم تشهدوا المتحاورين أن تدركوا أن كل طرف من الطرفين كان يمثل طائفة لوحده؟ وأن ليس من المنسحبين أحد من طائفة الباقين، ولا من الباقين أحد من طائفة المنسحبين؟

وربما لا حظتم في السنتين الأخيرتين بعض الظواهر المضحكة حقاً، حينما تدخل قناة «المنار» مثلاً إلى دائرة الصراع في مستشفى السلمانية، فهذا يعتبرها مكملة لمظاهر الانتماء، وذاك يعتبرها قادحة في مذهبه.

وفي أكثر مناطق البحرين تتوزع لوحات معدنية تعلق على أعمدة الإنارة وغيرها، تدعو إلى الاستغفار أو تسبح الخالق وتعظم شأنه، فجاءت إحدى الجمعيات الشيعية فوضعت لافتة تقول «اللهم صلي على محمد وآل محمد»... فما كان من جمعية سنية إلا أن علت هذه اللوحة بلوحة أخرى كتب عليه «الله أكبر»، وكأنها تقول: وإن عدتم عدنا... فالمؤسسات الدينية ورموزها غير أبرياء من تأجيج هذا الحس المتفاقم، بل وتُتهم في الكثير من الحالات بأنها تسهم في تجذير هذا الوضع، ليس من خلال ما يقال في المجالس المغلقة وحسب، وليس في ما يذاع من خطب وحسب، بل وحتى فيما يكتب ويُنشر أيضاً من مجلات وبيانات لا تخلو من تلميحٍ أوضح من التصريح في تسمية الطرف الآخر بما لا يحب من صفات ونعوت.

ممثلو الشعب

حال مجلس النواب ليس خافياً على أحد، ويمكن للراصد والمتتبع ملاحظة أي القضايا التي يقف لها النواب الشيعة وأي القضايا التي يحجمون عن تأييدها ومناصرتها، وأي القضايا التي يتحمس لها النواب السنة وأي القضايا التي لا يقومون لها، وإن قاموا قاموا كسالى... الأنكى من ذلك، تسابق الطرفين على إحباط المقترحات التي يُشم منها إمكان أن يحتسب في صالح هذا الاتجاه وما يمثله من طائفة أو ذاك... إنها لعبة المكايدات التي لا تنتهي والتي ستجعل المجلس يراوح إلى ما شاء الله على خطوط أفقية لا يتقدم في مسيرته إلى الأمام في المجال الزمني المتاح له.

لم تعد المسألة مسألة حق وباطل، بل السؤال أولاَ عن من هو مقدم الاقتراح، فإن كان «منّا، ناصرناه»، وإن كان «منهم» فليذهب هو ومقترحه إلى الجحيم. ما حدث وسيحدث مستقبلاً في مجلس النواب سوف لن يخذل هذه الملاحظة كثيراً حتى وإن تجمّل النواب وتحلوا بالسياسة التي تشترط الدبلوماسية وليس إظهار ما يبطنه السياسي في فن الممكن، فالغالبية منهم، إن لم نقل جميعهم، طارئون على العمل السياسي، وبالتالي فما في قلوبهم يقفز بسرعة إلى ألسنتهم. ويخطئ من يقول إنهم لا يمثلون الشعب، بل هم الممثلون الحقيقيون الأنقياء لهذا الشعب، هم الممثلون لشرائحه المبتلاة بسوسة الفكر الطائفي، فهم ليسوا ساسة يراوغون ويتحذلقون ويتحالفون وتتداخل دوائرهم في دوائر لا تتداخل طبيعياً بغية الوصول إلى قرار أو قانون برغبة... الرغبة هنا مختلفة تنحو إلى تسجيل النقاط، لأنهم يدركون جميعاً ألا قدرة لأيٍ منهم على الفوز بالضربة القاضية على الطرف الآخر، فليس أقل من التخميش.

السياسة ودورها

في البداية قلت إنني لست أميل إلى تحميل أي طرف مسئولية ما نحن عليه اليوم من مشكل حقيقي، ولذلك تدخل السياسة من هذا الباب أيضاً، إذ لها نصيب في الأمر، ولكنني لا أود أن أبالغ في إسباغ الطهر على الأطراف الأخرى الداخلة في اللعبة.

فبعد أن تخلصت الحكومة هنا من خصومها السابقين من تيارات يسارية وقومية، وأصبحت قواعدهم تتناقص إما بسبب الخوف والملاحقة أو اليأس أو التحول أو الانشغال بأمور الحياة اليومية وكسب العيش إضافة إلى الاتجاه العالمي أيضاً إلى الدين وهو ما عمل على تجفيف قواعد تلك التيارات من تدفق دماء جديدة وسخية إليها؛ كان المد الديني هو الأكثر بروزاً.

لا تخطئ العين ولا العقل كيف توزعت الوزارات منذ النصف الثاني من السبعينات، وتجذر هذا التوزيع في مطلع الثمانينات مع الإعلان عن المحاولات الانقلابية المتلاحقة والتي ارتبطت بالمذهب الشيعي على وجه التحديد الذي كان مصحوباً بنشوة شعبية شيعية بانتصار الثورة الإسلامية في إيران، وتوجس عالي التوتر رسمياً من هذا القادم الذي لا يعرفون من أين مداخله.

ساعد على ذلك التصريحات التي انطلقت من طهران مهددة عروش الخليج بالزلزلة.

قامت الحكومة حينها بحركة لا تنم إلا عن ذكاء، إذ كرست أوضاعاً ملائمة لكلا الطائفتين لاقتسام عدد لا بأس به من الوزارات، كل وزارة عليها أن تعمل بطاقتها القصوى حتى تنجح وتقول إنها أحق بهذه القطعة من كعكعة المحاصصة غير المعلنة، وتجعل من هذا الأمر متراساً لأبناء الطائفة، ولكنها في المحصلة النهائية تخدم الحكومة في تسيير أعمالها... فكانت الداخلية والدفاع والتربية والخارجية والمالية خالصة تقريباً لوجه السنة، فيما خلا وجه الصحة والكهرباء والعمل والمواصلات والتجارة تقريباً للشيعة، فإن قال شيعي «الدفاع؟» قال له السني: «والصحة...؟»، وإن قال السني: «الكهرباء؟» رد عليه الشيعي: «والمالية...؟»، وهكذا ترسخ في الوعي الشعبي أن كل طرف مغبون لأن الطرف الآخر مستول على ما ليس من حقه أن يستولي عليه ويحتكره... في التسعينات إبان ما اصطلح عليه بفترة الحوادث، جرت عملية إعادة توزيع أخرى، وعلى أساس طائفي أيضاً بين هذه الوزارات.

وإن قيل إن طلب التقديم في وزارة الدفاع يستوجب معرفة مذهب المتقدم وهذا ما لم يتأكد لديّ إلى الآن فإن الحكومة، أو سياسة الحكومة لم تقم بقصر الوظائف المدنية على طائفة من دون أخرى، ولكنها استطاعت أن توفر البيئة المناسبة لنمو الطائفية في التوظيف وتكاثر أبناء طائفة ما في وزارة ما أو في دائرة محددة من دوائر إحدى الوزارات، وهذا الأمر حفز الطائفة الثانية للإكثار من جنودها في المقابل في وزارة أخرى ودائرة أخرى، وهكذا ظل التسابق بين الطائفتين في الفوز بالمواقع المتاحة، بينما العمل والإنتاجية تسير في صالح الحكومة لم يتضررا جراء هذا التكالب الطائفي الأهلي وشبه الرسمي.

الأمر نفسه انسحب وسرى على الطاقم الوزاري الذي يجب أن يتمثل فيه كذا وزير من كل طائفة، مع مراعاة بعض من الأسر المعروف ولاؤها تاريخياً للحكم، وعلى هذا التوازن ألا يختل، فإن خلا منصب مسئول شيعي يجب أن يحل محله مسئول شيعي آخر، وإن توفي مسئول سني أو أعفي عن منصبه، فكرسيه محجوز لسني آخر، رئيس مجلس الشورى شيعي والأمين العام سني، حتى إن توفي أحد الأعضاء المعينين، فإن مقعده سيظل في انتظار أحد أفراد طائفته لا غير...

هذا الأمر، وما تقدم بشأن التوظيف الداعم للمحاصصة، عمل على ترسيخ مبادئ لا علاقة لها بالكفاءة أو تكافؤ الفرص والتنافس المفتوح بين المواطنين جميعاً، بل رسخ تقاليد تدعو إلى الاتكالية، واللجوء إلى الطائفة في نهاية المطاف وإن كان على حساب المعايير الواجب توافرها في الأعمال المختلفة.

العرائض وتداعياتها

دعونا الآن من الماضي الذهبي الخمسيني، فإنه قبل عقد ونيّف من الزمان حدث أمر جدير بالتأمل. فلاشك أنه في العامين 1992 و1994، لاحت بوادر أولية باجتماع ممثلين عن القوى الليبرالية والدينية من جميع الاتجاهات، لتوقيع العريضتين اللتين أسميت الأولى بالنخبوية، والثانية بالشعبية، وكان الأمر في أبهى صوره وأجملها، وتذكرون ولا شك هذا الجو المتفائل الذي عاشته الأطياف جميعاً حين اجتمعت بعد طول فراق على هدف وطني واحد، وهو تفعيل الدستور وعودة الحياة النيابية من جديد، وذلك في أعقاب ما قيل عن تشكيل مجلس الشورى في ذلك الوقت، ولكن سرعان ما استطاعت قوى الأمن ضرب هذه الوحدة ودق إسفين فيما بين الكتل جميعها، واصطبغت العملية بصبغة واحدة زادت من جو الشكوك والمناكفات بين الأطراف، وخصوصاً بين الطائفتين الرئيسيتين، فهذه تتهم تلك بالاستفراد بالأمر، والثانية تتهمها بالتخلي عنها في منتصف الطريق... هذا كله وبذور الاتفاق الأولية لم يأن لها أن تتبرعم، ولم تتمكن من أن تمتد إلى المجتمع المتنوع.

وبعد

كل ما تقدم من أمور تعرفونها حق المعرفة، وتعرفون أكثر من ذلك، وما فاتني من الظواهر ربما أكثر مما أوردت، وربما كنت متشائماً فيما ذهبت إليه، وكل أمنيتي أن تثبت لي الأيام أنني كنت مخطئاً ومبالغاً، ولكن المؤسف أن الفريقين اللذين يؤمنان بإله واحد، ونبي واحد، وأساس خلافهما يرتكز على الدين، يغضان الطرف عن قول الرسول (ص): «الدينُ المعاملة»، هذا الإيجاز الرائع لمعنى الدين، وهذا الإطلاق في كلمة المعاملة، لهما من الدلالات الشيء الكثير، يختصر في النهاية بأن المعتقدات أمور شخصية، ولكن جوهر هذا الدين الذي يتناحر فيه المتناحرون، وبه يُخرج الناسُ بعضهم بعضاً من الجنة وهم لايزالون على الأرض، وكأن الجنة مصعد لا يسع إلا قلة من الناس ليس إلا كيفية تعاملنا مع بعضنا بعضاً، تعامل البشر مع البشر، هكذا بإطلاق وليس بشرط أو تقييد.

إن كانت الدول اليوم تفاخر بغناها الناجم عن تنوعها العرقي والثقافي والديني والحضاري، وتمازج هذه المعطيات في وطن واحد، فإننا حتماً سنصل إلى يوم شبيه نفاخر فيه باختلافنا وتعايشنا مع هذه الاختلافات... لقد قال الشيخ علي سلمان ذات لقاء: «إن الوطن طائر لا يمكنه أن يحلق إلا بجناحين قويين»... وأضيفُ عليه، وبفكر نيّر، وبوصلة وطنية واضحة، وقلب سليم

إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"

العدد 822 - الأحد 05 ديسمبر 2004م الموافق 22 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً