العدد 83 - الأربعاء 27 نوفمبر 2002م الموافق 22 رمضان 1423هـ

الدلالات المهمة لعملية الخليل... والعجز الإسرائيلي عن هزيمة المقاومة الفلسطينية

بشير موسى نافع comments [at] alwasatnews.com

.

تحمل العملية المحكمة التي نفذتها مجموعة المقاتلين (الشهداء) الثلاثة من حركة الجهاد الاسلامي في مدينة الخليل قبل اسبوعين دلالات لطرفي الصراع. من ناحية، اثبتت العملية، التي سبقها تخطيط بارع ورصد دقيق لساحة المواجهة، ان القوى الفلسطينية المقاومة قادرة على الارتفاع بمستوى الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي إلى مستويات جديدة.

فقد ساد الاعتقاد منذ فترة، حتى في الاوساط العربية والاسلامية، ان قوى المقاومة الفلسطينية اعتمدت مهاجمة المدنيين الاسرائيليين من خلال عمليات تفجير إستشهادية لان هذا النمط من العمليات سهل التخطيط والتنفيذ، واصبح من الصعب على الفلسطينيين مواجهة آلة الحرب الاسرائيلية ذاتها، اما بسبب القوة الاسرائيلية الطاغية أو لان الجانب الفلسطيني يفتقد خبرة حرب المدن وحرب العصابات، أوكلا السببين.

عملية الخليل، التي جاءت بعد عامين كاملين من الاعتقالات الاسرائيلية الواسعة النطاق في الجانب الفلسطيني، إلى جانب عمليات الاغتيال والتي طالت الآلاف من الناشطين الفلسطينيين من التوجهات والمستويات كافة، تثبت بما لايدع مجالا للشك ان الفلسطينيين ان ارادوا، «قادرون» فعلا على انتهاج استراتيجيات عمل مختلفة، وقادرون بشكل خاص على مواجهة الجيش الاسرائيلي وجها لوجه وايقاع خسائر فادحة في صفوفه.

تحمل العملية من ناحية اخرى دلالات لا تقل اهمية بالنسبة لقوى المقاومة الفلسطينية واستراتيجيات عملها. فالسلطة. التي تسارع عادة إلى التنديد بالعمليات التي تستهدف المدنيين الاسرائيليين، امتنعت هذه المرة عن إصدار بيان الشجب الروتيني، معتبرة أن العملية هي نشاط مقاوم شرعي تماما. وجد هذا الموقف صداه في مقالات الصحف الاسرائيلية التي سخر كتّابها ومعلقوها من ادعاءات الناطقين الرسميين للدولة العبرية بأن العملية كانت «مجزرة سبت» جديدة يرتكبها الفلسطينيون. لاحظ المعلقون الاسرائيليون، كما الرأي العام الاسرائيلي ككل، أن مجموعة مقاتلي الجهاد تفادت ايقاع إصابات في المستوطنين اليهود، على رغم ان وجود المستوطنين في الخليل هو غير شرعي وان مستوطني الخليل هم اسوأ اصناف المستوطنين على الاطلاق. حتى على المستوى الدولي، وعلى رغم التنديد السريع الذي اطلقه الامين العام للأمم المتحدة بالعملية سارع الناطقون باسمه في اليوم التالي، وبعد ان تكشفت تفاصيل الاشتباك، إلى تقديم سلسلة من الاعتذارات الملتوية التي أوحت بأن الامين العام لم يكن يعرف حين اصدر تنديده بأن المهاجمين الفلسطينيين استهدفوا عناصر جيش الاحتلال فقط. ما يعنيه هذا الموقف، للأمين العام ان الشعب الفلسطيني قد نجح بشكل واضح وقاطع في اجبار العالم على الاعتراف بحقه في مقاومة الاحتلال، وان العالم الذي ساوم طويلا على توصيف الاحتلال الاسرائيلي قد عاد اخيرا إلى رؤية الاحتلال باعتباره احتلالا، وإلى الاقرار بأن مقاومة هذا الاحتلال هي أمر مسوغ وشرعي.

يستدعي هذا التطور اهمية مراجعة المقاومة الفلسطينية لأساليبها في العمل، والكف عن اعتماد العمليات الاستشهادية الموجهة إلى اهداف ومواقع «مدنية» اسرائيلية كاستراتيجية ثابتة. ليس ذلك لان على المقاومة الفلسطينية الاعتراف بشرعية الدولة العبرية، ولا الايحاء بأن هناك فرقا بين مستوطني الخليل وقوات الاحتلال او بين وحدات الجيش التي تعيث فسادا في نابلس وجنين والجنود الاسرائيليين الجالسين على مقاهي تل ابيب في ايام اجازاتهم. بل اصلا لأن العمل المقاوم هو عمل سياسي، عمل يأخذ في اعتباره حسابات الربح والخسارة السياسية إقليميا ودوليا. إضافة إلى ذلك، ان ليس هناك من مقاومة في التاريخ يمكن فصلها عن القيم التي تحدد سلوك ورؤية الشعوب التي تفرزها، وقيم العرب والمسلمين، كما رؤيتهم للعالم، لا تسمح باستهداف النساء والاطفال مهما بلغت شراسة الخصم وانحطت قيمة.

بات من الضروي ان تعود العمليات الاستشهادية التي تستهدف المدنيين والاهداف المدنية إلى موقعها وهدفها المحدد: انها عمليات استثنائية إلى حد كبير يلجأ اليها المقاومون بشكل نادر من اجل ردع العدو عن استهداف المدنيين الفلسطينيين واقناع رأية العام بضرورة محاسبة قيادته وجيشه في كل مرة يستباح فيها دم الشعب الفلسطيني الاعزل.

بيد ان اهم دلالات العملية تتعلق بالاطار العام للصراع على فلسطين في هذه المرحلة من تاريخه الطويل. لقد مضى على انطلاق الانتفاضة الفلسطينية اليوم اكثر من عامين بقليل. طوال هذين العامين، بنت الدولة العبرية، ممثلة بحكومة باراك او حكومة شارون، سياستها تجاه الشعب الفلسطيني على اساس ان هزيمة الانتفاضة هي الشرط الاولي لاحياء التفاوض حول التوصل إلى حل سياسي ما للصراع. طوال العامين الماضيين، استخدمت الدولة العبرية كل وسائل القمع الممكنة لتحقيق الانتصار على الفلسطينيين، بدءا من نشر القوة العسكرية الغاشمة للجيش الاسرائيلي ضد التظاهرات والاضرابات الشعبية في مراحل الانتفاضة الاولى، مرورا بما يسمى الاستهداف المحدد (أي الاغتيال غير القانوني) لقادة قوى المقاومة وكوادرها، إلى شن حملات الاعتقال واسعة النطاق لكل من يعتقد بأن له علاقة ما بقوى المقاومة الفلسطينية. دمرت قوات الاحتلال خلال العامين الماضيين آلاف المنازل لشعب محدود الوسائل والامكانات مطلقة بذلك حركة تهجير داخلي واسعة، وقامت قوات الاحتلال، بالتعاون مع المستوطنين، بتدمير آلاف الدونمات من الحقول والاراضي الزراعية الفلسطينية. ثمة آلاف من الجرحى الفلسطينيين، اصيب بعضهم بعاهات دائمة، واكثر من ثلاثة آلاف من الشهداء. وقد تسببت عمليات الاحتلال الطويلة للمدن والقرى والمخيمات في الضفة الغربية، وفرض انظمة منع التجوال لايام متعاقبة والحصار العسكري على مناطق جغرافية واسعة، في تقويض الحياة التجارية، ايصال النشاط الاقتصادي إلى ادنى مستوياته منذ انفجار الانتفاضة الاولى، وإلى تقويض العملية التعليمية بجميع مستوياتها لشعب اعتبر التعليم دائما احدى اهم وسائل بقائه.

هذه الحرب الشاملة على الحياة الفلسطينية لم تكسر ارادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني. على العكس، كلما تصاعدت مستويات القمع كلما وجد الفلسطينيون وسيلة ونمطا وطريقة اخرى للرد على الغزاة. كلما سقط شهيد برزت اعداد اخرى من مشاريع الشهادة، كلما اعتقل عنصر فاعل برز الكثير من العناصر الفاعلة الاخرى التي لا تنقصها الخبرة أو التصميم او الايمان بالحق.

في اعقاب الهزيمة الاسرائيلية في لبنان وانسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوبه، علق رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق اسحاق شامير (احد ابرز الصقور العنصريين من قادة الدولة العبرية) قائلا بأن حزب الله قد اثبت طوال سنوات الحرب في الجنوب انه قادر على الارتفاع إلى مستوى المواجهة. اليوم، ان كان ثمة من صواب قد تبقى لدى قادة الدولة العبرية وحلفائهم الخلص في واشنطن واوروبا الغربية فعليهم الاعتراف بأن الشعب الفلسطيني قد ارتفع إلى مستوى المواجهة، وان هزيمة الفلسطينيين وكسر ارادتهم هي وهم مستحيل التحقيق. بعد اكثر من عامين على الانتفاضة لم يتبق امام شارون في الحقيقة إلا خيارات محدودة إلى حد كبير.

الخيار الاول: هو المضي في اتمام الجدار الفاصل بين الضفة الغربية وفلسطين المحتلة منذ 1948، بكل ما يحمله هذا الخيار من دلالات سياسية على وجود حدود فعلية بين الضفة الغربية والدولة العبرية. هذا الخيار، حتى الان على الاقل، قد فشل في ايقاف العمليات داخل «الخط الاخضر» ولم يكن له تأثير ما على المقاومة من نمط عملية الخليل.

الخيار الثاني: هو الاستباحة العسكرية الشاملة لقطاع غزة كما هو الحال في الضفة الغربية منذ نهاية مارس/ آذار. في هذه الحال، ستواجه القوات الاسرائيلية معركة شرسة، جنين اخرى على نطاق اوسع بكثير ولفترة زمنية اطول. ان نجحت القوات الاسرائيلية في احتلال قطاع غزة في النهاية. احد اكثر المناطق كثافة سكانية في العالم. فإن الصدام اليومي سيتواصل على الاصعدة كافة، وسيصبح على الدولة العبرية دفع تكاليف احتلالين بدلا من احتلال واحد.

الخيار الثالث: هو طرد الرئيس الفلسطيني وتدمير سلطة الحكم الذاتي نهائيا، وهو الخيار الذي ينادي به قطاع واسع من اليمين الاسرائيلي ويداعب مخيلة رئيس الوزراء شارون بين وقت وآخر. هذا بالطبع خيار سياسي دراماتيكي، ستتردد اصداؤه في المنطقة والعالم، وسيعزز من توجه الرئيس الفلسطيني المطرود نحو مقاومة الاحتلال والانحياز لقوى المقاومة. ولكن هذا الخيار في النهاية سيضع الاحتلال الاسرائيلي وجها لوجه مع الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة. حقيقة الامر، ان وجود سلطة الحكم الذاتي قد لعب حتى الان دورا كابحا للمقاومة، امنيا وسياسيا، ووضع سقفا لها، وازالة السلطة لن تؤدي إلى كسر هذا السقف فحسب بل ستحرم الدولة العبرية للمرة الاولى منذ مطلع التسعينات من الطرف الفلسطيني الوحيد القادر فعلا على التوصل إلى تسوية سياسية ما للصراع معها.

الخيار الرابع: الذي يروّج اسرائيليا بين الوقت والاخر باعتباره الاداة التي ستوقع كسرا نهائيا لإرادة الشعب الفلسطيني ومقاومته، وهو خيار التطهير العرقي، اي طرد مليون أو اكثر من فلسطينيي الضفة الغربية إلى الاردن. بذلك، تتصور بعض الدوائر الاسرائيلية سيصبح من السهل التحكم في امن الضفة الغربية، تعزيز المستوطنات اليهودية، كما ستؤدي الكارثة إلى تحطيم الروح المعنوية الفلسطينية مرة وإلى الابد. مثل هذا السيناريو ليس اكثر من وهم آخر من اوهام العقل الجمعي الاسرائيلي. فضلا عن الابعاد السياسية الهائلة لمثل هذه الخطوة في زمن اصبحت فيه لدى العالم حساسية بالغة تجاه عمليات التطهير العرقي، فإن دفع مليون فلسطيني جديد إلى الاردن ستكون له نتائج بالغة وطويلة المدى على الصراع العربي - الاسرائيلي. ستؤدي هذه الخطوة، باختصار، إلى انهيار النظام في الاردن، أو على الاقل إلى خلل بالغ في توازن القوة بين الحكم والقوى الشعبية في الاردن وفي المنطقة ككل. كما نهاية الستينات، يتحول الاردن إلى قاعدة. لحشد قوى المقاومة ذات الطابع الاسلامي الغالب، وإلى مركز جذب لعشرات الآلاف من الشبان العرب والمسلمين الراغبين في مواجهة الدولة العبرية. وليس من المستبعد في ظل هذا التحول ان تقود الجبهة اللبنانية إلى الاشتعال، ويصبح على الدولة العبرية ان تحارب على عدة جبهات في وقت واحد، من الضفة والقطاع إلى لبنان والاردن، ليس انظمة وحكومات عرضة للضغوط الدولية بل قوى شعبية لا يحركها الا دافع وضع نهاية لهذا الصراع مهما تكن الكلفة، مسلحة بمميزات العقدين الماضيين، وواعية دروس المقاومة الفلسطينية في الاردن ولبنان في نهاية الستينات والسبعينات، ومرتكزة إلى حال غضب عربي واسلامي متزايد، فإن المقاومة الفلسطينية للدولة العبرية ستتحول فعلا إلى مقاومة عربية - اسلامية واسعة ومختلفة الابعاد. فهل هذا هو السيناريو الذي ترسمه واشنطن لمستقبل الشرق الاوسط؟

العدد 83 - الأربعاء 27 نوفمبر 2002م الموافق 22 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً