العدد 842 - السبت 25 ديسمبر 2004م الموافق 13 ذي القعدة 1425هـ

جزيرة جدا... أمنا وحلمنا

أحمد البوسطة comments [at] alwasatnews.com

يقال، أن شاعراً بحرينياً مرّ ذات مرة على أطراف جزيرة جدا في رحلة بحرية حملته إلى هناك فوقعت عيناه على سجناء يقطعون الأحجار من صخورها الشهيرة التي توجد بصمتها في بناء وتشييد القلاع والمساجد والمباني التاريخية الشامخة؛ وعلى إثر ذلك تألم لمنظر معاناتهم وأصيب بغصة وغثة كمن يغص بالماء، فكانت له عدة أبيات منها هذا البيت الذي يحمل أكثر من دلالة:

«لو كان بالسيف تشان قطعت الأعادي وصل

لكن انه في جزيرة ودار ما داري بحر».

وجزيرة جدا هذه كانت في حقب زمنية متعاقبة من تاريخ الذاكرة البحرينية يطلق عليها اسم «سجن جدا» أو «السجن الرهيب» الذي تساوى فيه سجناء الضمير مع مساجين القضايا الجنائية الكبرى في مفارقة عجيبة ربما جسدت واقعياً في «البريء» الذي قام ببطولته الفنان المصري الكبير أحمد زكي.

وجزيرة جدا هذه أيضاً، تم اختيارها بدقة على ما يبدو، لتكون مكاناً لـ «عقاب» متعدد الوجوه، فهي في آن «للإبعاد والنفي» وموقعاً للعزل عن المحيط الخارجي، ثم مكاناً لتغييب المعتقلين والسجناء السياسيين وغير السياسيين، إذ يعتقد أنهم بحسب التفكير الحاكم، يشكلون خطورة على المجتمع.

والغريب، حين يتحدث رواد هذا السجن من السياسيين الذين مرّوا على تراب هذه الجزيرة، دائماً ما تستفز ذاكرتهم لسرد حكاياتهم وذكرياتهم الأليمة في تنشيط متعمد للذاكرة، فتجدهم على غير العادة يميلون إلى الحديث بنوع من «المتعة» الممزوجة بالمرارة وحرارة الأوضاع، تتخللها مغامراتهم ومشاغباتهم ومماحكاتهم وحواراتهم ومناكفاتهم، وأيضاً علاقاتهم الإنسانية الحميمة حتى مع سجانيهم... يغمرهم نوع من الفرح عندما يتحدثون عن ابتكاراتهم وإبداعاتهم في تبادل الرسائل من السجن داخل الجزيرة إلى السجون الأخرى خارجها، وتنجح مساعيهم للإعلان عن إضراب عن الطعام في وقت محدد للمطالبة بتحسين الأوضاع، فيما رجال الأمن يصابون بالهستيريا لمعرفة كيف تم الاتفاق بين جميع المعتقلين وبالطريقة التي تم فيها ذلك خارج عيون الرقيب؟!

لا هذا وحسب، بل الأكثر من ذلك، ما تحسه من «نشوة النصر» في أحاديثهم حين يأتي الحديث عن «تهريب الممنوعات» من كتب وراديوهات وما إلى ذلك من أدوات للكتابة والقراءة، أو ممارسات لـ «سرقات نظيفة» لأقلام وأوراق الشرطة والضباط والأطباء للاستفادة منها في تدوين المخطوطات الأدبية والسياسية والموسيقية وإعادة تهريبها إلى الخارج لتكون مادة دسمة عن أدب السجون وإبداعات المعتقلين.

قال أحدهم: «قرأت أجمل الكتب على هذه الجزيرة بفضل ابتكارات المعتقلين في تهريب الممنوعات، لقد هرّبنا كل شيء لم يخطر على البال، غير اننا نأسف لشيء واحد، وهو اننا لم نفكر في تهريب كاميرا لتوثيق الجزيرة وروادها، ومعالم سجنها وكل زاوية من زوايا زناينها أو شواطئها الجميلة، أو أمواج البحر المحيط بها عندما ترتطم بصخورها لتعانق الحياة، ولكن لا بأس: فذاكرتنا تختزن أشياء لا تنسى عن كل صغيرة وكبيرة في جزيرة جدا؛ كل شيء مدوّن في الذاكرة... وها قد جاء اليوم الذي بدأنا فيه ننشر في حدود المتاح عن ذكرياتنا «الحلوة والمرة».

لماذا لا يفكر المسئولون أن يجعلوا من هذه الجزيرة منتجعاً سياحياً للبحرينيين والسياح الأجانب، ويكون سجنها بمعالمه وزنازينه «مطعماً سياحياً» على غرار ما يوجد في هونغ كونغ، وتنظم رحلات دورية لهذه الجزيرة لتتعرف الأجيال على تاريخ رجالاتها، ورد الاعتبار بتكريم رواد هذه الجزيرة من السياسيين وسجناء الضمير بتخصيص «بطاقة مناضل» أو «بطاقة مقاوم» ضد المستعمر، تكون شاهداً من شواهد هذا الشعب الحي وتاريخه النضالي البطولي، خصوصاً ونحن في طريقنا لقلب صفحة الماضي الكريه؟!. سيكون حلماً كبيراً قد تحقق لو استيقظنا ذات صباح ومانشيتات صحفنا المحلية مكتوبة بالبنط الكبير وعلى ثمانية أعمدة تبشرنا: «جزيرة جدا... من السجن الرهيب إلى منتجع سياحي» (رفيع) يليه: «حلم المناضلين البحرينيين... قد تحقق» (رئيسي)

العدد 842 - السبت 25 ديسمبر 2004م الموافق 13 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً