العدد 844 - الإثنين 27 ديسمبر 2004م الموافق 15 ذي القعدة 1425هـ

سؤال الكم والكيف

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

في أحيان كثيرة، سنجد أنفسنا دوما أمام هذا السؤال: الكم أم الكيف؟ سيتعين علينا دوما أن نختار أو بالأصح أن نوازن بين تلبية ما يريده الكم أو الأعداد وما يفرضه الطموح بشأن الكيف (النوعية والجودة).

يلح هذا السؤال في ميادين عدة، التعليم، الصحة، الخدمات وحتى في العمل الأهلي التطوعي. هل أحتاج إلى أن أذكركم بكل المقترحات والأفكار التي تم تداولها في البحرين خلال عامين على الأقل؟ في المنتديات وفي البرلمان وفي الصحافة، سنجد أنفسنا دوما بعد كل وجهة نظر أو مقال أو طرح أو فكرة أو اقتراح برغبة نتساءل: الغاية، الوجهة، الجدوى، أي الأسئلة المتعلقة بما إذا كانت الفكرة أو الاقتراح يستجيب للكم أو الكيف.

النواب يسعون إلى خدمة الناس بأية طريقة وهذا متوقع منهم وسيبقى واجبهم، ولأن الوقت وقت انفتاح ومصارحات فإن علينا أن نكون مستعدين لسماع كل وجهات النظر وأحيانا ما لا يخطر على البال منها. لا يمكن لوم الناس كثيرا فيما ينشدون وما يقترحون، لكن يمكن التوقف أمام الطريقة التي نتعامل بها مع الأفكار والمطالب.

ليست هناك أية مشكلة في أن تملك آلاف المدارس بل إن ذلك سيبقى مطلوبا أمام تزايد السكان، ويوماً ما قال طه حسين إن التعليم والصحة مثل الماء والهواء بالنسبة إلى المواطن وكان محقاً في ذلك. مازال التعليم والصحة على الدرجة نفسها من الأهمية، لكن منذ الوقت الذي أطلق فيه طه حسين مقولته وحتى اليوم، لن يجادل أحد في أن الماء الذي نريد يجب أن يكون نقيا وعذبا وصحيا إلى أبعد حد كما أن الهواء الذي نريد أن نفتح له رئتنا يجب أن يكون نقيا وغير ملوث ومليئا بالأوكسجين.

إمعانا في المجاز، نقول إننا لن نشرب ماء غير صحي ولن نتنفس هواء غير نقي. ماذا تعني الجودة في المياه وفي الهواء وفق مثالنا هذا؟من دون شك: النوعية والجودة.

آخر الأمثلة هنا هي ما نشرته الصحف المحلية عن رغبة من بعض النواب بإعادة جميع المفصولين من جامعة البحرين ومن بينهم أولئك الذين فصلوا لأسباب تتعلق بمستوى تحصيلهم الدراسي. النية تبقى حسنة وطيبة، لكنني أعتقد أن سؤال الكم والكيف سيطل من جديد وبقوة. هناك الكثير من الملاحظات والانتقادات التي يمكن أن توجه إلى جامعة البحرين بشأن مستوى التحصيل فيها ومناهجها، لكنني أعتقد أن هذا لن يعطي المبرر من وجهة نظر أكاديمية للتغاضي عن شرط الجودة والنوعية. في وقت ما كان المطلوب أن تكون لدينا جامعة، وفيما بعد أصبح مطلوبا أن تستقطب أكبر عدد من خريجي الثانوية العامة، وبعد حين كانت هناك مطالبة برفع مستوى التحصيل الدراسي فيها. وإذا جئنا الآن في العام 2004 لنرتب أولوياتنا بالنسبة إلى الجامعة، فإنني لن أتردد في القول إن رفع مستوى التحصيل ورفع كفاءة المناهج وطرائق التدريس، أي بعبارة أخرى تطوير الجامعة أكاديميا هو الأولوية الأولى.

مازلت مؤمناً بقوة بضرورة أن يتاح التعليم لأوسع القطاعات من الطلاب ومن مختلف المستويات، أي أن يكون التعليم الجامعي شعبيا إلى أقصى حد، لكنني أؤمن بالدرجة نفسها من القوة بضرورة أن يكون هذا التعليم للأكفأ من بين الذين يتقدمون للانتساب إلى الجامعة.

الكفاءة في التعليم مقاييسها معروفة وواضحة وتقررها الامتحانات، وهذه الأخيرة يمكن أن تركز على استنطاق أكبر قدر ممكن من المعلومات أو استظهار القدرات الذهنية، لكن في كل الأحوال لا أعتقد أننا سنرضى بمقياس غيرها. عدا أن في الذاكرة استدراكا مهما يتعين علينا التوقف أمامه. هل نحن من النوع الذي يقبل بالجديد؟ هل نقبل بالتحديات التي يتطلبها رفع مستوى أدائنا وعملنا في أعمالنا وفي مناهجنا؟ «كفاءة الخدمة» في كل ميدان مطلب أساسي لنا، لكن تقبلنا للجديد أمر آخر.

في الثمانينات، قرر وزير الصحة السابق علي فخرو إدخال نظام الامتحانات للأطباء حديثي التخرج في مسعى يهدف إلى رفع مستوى الأطباء وبالتالي الخدمات الصحية. ثارت ثائرة الأطباء ورحنا نسمع من الاتهامات الشيء الكثير: محاباة للأجانب، انحياز ضد المواطنين ولم نسمع رأياً واحداً يتحدث عن مسألة المستوى والكفاءة. الأمر نفسه حدث في كلية الخليج للتكنولوجيا التي كانت نواة جامعة البحرين في الثمانينات أيضا. فقد قررت إدارة الكلية وقتذاك رفع مستويات النجاح المطلوبة وسمعنا الاتهامات نفسها: تطفيش للبحرينيين. اليوم طرح تحد آخر اسمه «إصلاح سوق العمل» وكان المطلوب أن يكون ذلك بداية لنقاش ومناظرات واسعة وطويلة ومعمقة على المستوى الوطني، لكن رد الفعل الأولى هي نفسها.

سؤال «الكم والكيف» هذا سيظل مطروحا ولعله أكبر تحد يواجه صناع القرار والناس في كل مكان. فبقدر ما نحتاج إلى الكم نحتاج إلى النوعية والجودة أيضا بالدرجة نفسها من الإلحاح، بل إن الحكم على الخدمات عموما أصبح مرهونا بجودتها أكثر من الأعداد التي تضمها أو تنتفع بها. لقد آن الأوان برأيي أن نلتفت عن ذلك النوع من التفكير الذي يركز على الأعداد الكبيرة والجموع وأن نسعى جدياً إلى التفكير من النوعية والمستوى. وإذا ما تعلق الأمر بالتعليم والصحة، فإن المسألة تحتاج إلى ذلك التوازن الدقيق بين أن تكون الخدمة شعبية وأن تكون متميزة في الوقت نفسه

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 844 - الإثنين 27 ديسمبر 2004م الموافق 15 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً