العدد 876 - الجمعة 28 يناير 2005م الموافق 17 ذي الحجة 1425هـ

"دزرجنيسكي" حي يرزق

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

هل سمعتم بهذا الاسم: بول جوزيف غوبلز؟ لم اقرأ احدا استشهد به على جاري عادتنا عندما نريد اضفاء اهمية لما نقول، على رغم انه واحد من اولئك الذين تركوا تأثيرا واضحا على عالمنا حتى اليوم لا على الحكومات والاحزاب فقط، بل على كل من دخل غمار السياسة حتى اليوم.

كان وزير الدعاية النازي والخليفة المعين من قبل هتلر في وصيته المكتوبة، لكنه انتحر مثل زعيمه هو وزوجته واطفاله الستة.

وسواء تعلق الامر بالغرب او الشرق، فان المبادئ التي ارساها غوبلز في الدعاية لاتزال حية ويجري العمل بها وكأنها تقليد وقاعدة لا غنى عنها في أصول الدعاية وترويج المواقف. شاهدوا فقط فيلم "فهرنهايت 9/11" لمايكل مور لتتلمسوا الاثر العظيم لمبادئ غوبلز في الدعاية في بلد مثل الولايات المتحدة مثلا.

وقبل ان ننسى، فان اكثر عباراته شهرة في هذا المجال: "كلما كبرت الكذبة، كلما سهل تصديقها" و"الدعاية الناجحة يجب ان تحتوي على نقاط قليلة من الحقيقة وتعتمد التكرار". هذه المقولة الاخيرة تترجم احيانا: "لابد من شيء من الحقيقة لكي يسهل تصديق الكذبة" أو "لابد من قول ربع الحقيقة لكي يصدقك الناس".

يستوقفني في هذا ان هناك رجالا تركوا اثرا واضحا على العالم حتى اليوم لكنهم منسيون تماما، وفي الغالب وجدت ان السبب يعود الى انهم ينتمون الى المعسكر الخطأ او الى معسكر الاعداء أوالمهزومين.

ثمة رجل آخر لا يتذكره احد، لكن ارسى واحدا من اهم واخطر ادوات الصراع السياسي في القرن العشرين، اسمه "فيلكس دزرجنيسكي".

كان بولنديا يناضل في صفوف البلاشفة الروس وهو من ذلك النوع من الشخصيات التي ينقسم حولها الناس الى نقيضين: مبجل الى أقصى الحدود وملعون ومكروه الى أقصى الحدود. مأثرته الاولى انه حمى زعيم البلاشفة فلاديمير لينين من رصاصات استهدفته وهو في قطار العودة لروسيا قبل الثورة. اما مأثرته الاهم فليست تأسيس جهاز المخابرات الروسي الشهير "الكي. جي. بي" بل هزيمة اعداء الثورة.

بقية القصة معروفة، فبعد ان تسلم البلاشفة الحكم بعد سقوط القيصر من حكومة كيرنسكي المؤقتة، دخلت روسيا في حرب اهلية طويلة استمرت نحو أربع سنوات. وكان على البلاشفة - وهم قلة - ان يواجهوا نصف الجيش القيصري وجيوش اربع دول اجنبية اخرى.

وفيما كان الجيش الاحمر يقاتل الجيش الابيض "الموالي للقيصر" تحت امرة وزير الدفاع ليون تروتسكي في كل انحاء روسيا، راح هذا الثعلب البولندي يخوض حربه بطريقته الخاصة. اسس العشرات من المنظمات المعادية للثورة واستقطب كل اعدائها في هذه المنظمات وزرع رجاله في عشرات المنظمات الاخرى داخل روسيا وخارجها. حرب السيف لم تكن لتأتي بالنصر للبلاشفة فيما روسيا تنهبها المجاعة لكن دزرجنيسكي وحده هو الذي قدم الانتصار الحقيقي. دمر كل هذه المنظمات من داخلها عندما اخترقها بذكاء ودمرها من الداخل.

من يتذكر غوبلز اليوم أو دزرجنيسكي؟ لا احد على رغم اننا مازلنا نتعايش مع ما ارسياه من قواعد في الدعاية والصراع السياسي بصور واشكال شتى. سواء تعلق الامر بالسياسات العالمية او في السياسات المحلية، لاتزال الدعاية وفق قواعد غوبلز والاختراق وفق قواعد دزرجنيسكي قائمة ومستمرة.

وما ان ذكرنا دزرجنيسكي، لا مناص من ان نتذكر قبله ذلك الاسطوري الذي يدعى "حسن الصباح" مؤسس وزعيم الحشاشين. فهو كان استاذا في التلون والاختراق لكن أقصى غايته ان يزرع احد فدائييه خنجرا في قلب عدو له. ولعل هذا اضاف الى المبدأ لمسة خاصة به: كلما كان الاغتيال علنيا كلما زاد نطاق الخوف، لذلك كان يعمد دوما لاغتيال خصومه اما في الصلوات في المساجد او في اماكن الاحتفالات العامة.

وما ان ذكرنا الصباح، سيقفز دون شك اسم آخر منسي: عمر الخيام. اعظم فلكي وضع تقويما شمسيا فارق الخطأ فيه ثوان معدوده في الالفية الاولى للميلاد، لكن المتهم في ايمانه بسبب اشعار كان يكتبها لنفسه. واذا سألتموني اين اقف انا من كل هذه الاسماء؟ فانا ودون تردد مثل عمر الخيام: احاذر الاتقياء المزيفين، او بلغة ايامنا هذه الثوريين المزيفين... اولئك الذين لا يفعلون سوى ان يقودوننا الى اليأس والعدم ولا شيء سواه

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 876 - الجمعة 28 يناير 2005م الموافق 17 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً