العدد 900 - الإثنين 21 فبراير 2005م الموافق 12 محرم 1426هـ

إبراهيم فخرو... فداحة النسيان

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

برحيل المرحوم ابراهيم فخرو آخر اعضاء هيئة الاتحاد الوطني أمس الاول، تطوى صفحة أخرى من تاريخ البحرين المعاصر وتتسع ثقوب الذاكرة الوطنية التي كان لفخرو ورفاقه السبعة الآخرين فيها حيز كبير.

عدا المرحوم عبدالرحمن الباكر سكرتير عام الهيئة، لم يتح المجال لاي من اعضاء هيئة الاتحاد الوطني تسجيل روايتهم لتلك الأيام التي كانوا فيها على رأس انجح حركة سياسية في تاريخ البحرين الحديث. ليست الرواية هي المطلوبة بحد ذاتها، بل التاريخ.

ومع ادراكنا المسبق بان كتابة التاريخ تبقى مرهونة دوما بدرجة التسامح السائدة في المجتمع خصوصا اذا ما تعلق الامر بالرواية غير الرسمية، فإن هذا لا يعفي من مسئولية تسجيل روايات قادة الهيئة لان التوثيق يبقى ضروريا كاداة اساسية لا غنى عنها لكتابة التاريخ ربما في وقت لاحق. ليست هناك من رواية مسجلة لحوادث الخمسينات والهيئة سوى رواية الباكر. اما السبعة الآخرون، فقد غيب الموت بعضهم وغيب الصمت بعضهم الآخر ولم تكن الحصيلة في النهاية سوى "قطيعة" بين اجيال من البحرينيين وحقبة مهمة واستثنائية من تاريخهم.

المفارقة ان فخرو الذي عاتب عبدالرحمن الباكر بشيء من المرارة بان البحرينيين سينسون قادة الهيئة، آثر هو نفسه الصمت والعيش في ظلال الذاكرة. لكن هذه المفارقة جديرة بالتوقف لان فيها مناقب شخص يؤثر التواضع على ان يعتاش من تاريخه الشخصي.

في مجلس عزائه، أبلغني ابنه الدكتور عبدالرحمن فخرو أن والده كان يروي لهم بعض القصص أحيانا لكنه كان يطلب منهم التزام الصمت وعدم الحديث بها لآخرين. أيا كان الغرض، يؤكد هذا الحرص في جانب منه خصلة التواضع في شخص الراحل الكريم وهي خصلة اراها قاسما مشتركا مع رفاقه الآخرين والكثير ممن شاركوا في العمل الوطني في تلك الحقبة. فالكثيرون لم يعرفوا مثلا تفاصيل دور المرحوم محمد حسن المحروس في الهيئة وخصوصا في الامانة المالية الا بعد وفاته. ومثل المحروس هناك كثيرون ايضا رحل بعضهم ومازال البعض الآخر منهم احياء وخصوصا المؤسسون الذين اجتمعوا في مأتم بن خميس في السنابس وفي مصلى العيد في المحرق.

يذكرني هذا كله بالكتاب المرجعي المهم عن العراق الذي انجزه الراحل الدكتور حنا بطاطو. كان بطاطو استاذ العلوم السياسية في الجامعة الاميركية في بيروت لفترة طويلة واحدا ممن عاشوا في الظل بعيدا عن صخب الشهرة والاضواء، لكن كتابه هذا الذي صدر بعد 26 عاما من البحث والتقصي اثمر ثلاثة اجزاء جعلته كتابا مرجعيا لا غنى عنه لاي باحث عن العراق.

ففي العام 1958 مع انقلاب عبدالكريم قاسم، ومع رسائل توصية من صديقه الزعيم العراقي كامل الجادرجي بدأ بطاطو بحثه الاولي عن الكتاب انطلاقا من وثائق الامن العام العراقي ايام الملكية. لكن هاجس الموضوعية لديه دفعه على مدى السنوات اللاحقة للالتقاء شخصيا بالمئات من القادة السياسيين والزعماء والافراد العاديين ايضا الذين قابل بعضهم وهم مكبلون بالاغلال في السجن. ليس هذا فحسب، بل راح ينقب في ركام هائل من الأوراق والوثائق والدوريات الصادرة عن الوزارات العراقية ايام الحكم الملكي ووثائق وبيانات الاحزاب ودراساتها ورسائل متبادلة بين الزعماء السياسيين وان يبحث وينقب في السيرة الشخصية للزعماء والقادة السياسيين فضلا عن الوثائق البريطانية واية وثيقة ذات صلة بموضوع كتابه. الابعد من هذا هو الجهد التحليلي الذي قام به هو نفسه في كتاب مليء بالجداول والاحصاءات التي وصلت في دقتها الى حد ايراد احصائية لاستهلاك سكان بغداد من الشاي حسب الانتماء العرقي.

بعد 26 عاما أصبح لدى القارئ العربي كتاب مرجعي مهم عن العراق يحمل عنوان "العراق - الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني وحتى قيام الجمهورية". هذا المثال عندما يتداعى في ذهني امام ثقوب الذاكرة المتسعة لا يترك لي من تشبيه يرتسم في الذهن لعلاقتنا نحن بتاريخنا سوى اننا نبدو وكأننا نقود حركة شعب وبلد ونحن نستلهم تاريخا من المرويات الشفوية، لهذا نبدو دوما وكأننا في كل مرحلة نبدأ من جديد وكل مرحلة تمثل قطيعة مع ما قبلها.

رحم الله ابراهيم فخرو ورفاقه السبعة الآخرين، كانوا من التواضع بحيث انهم قادوا انجح حركة سياسية في تاريخنا المعاصر، لكنهم لزموا الصمت وكأنه احتجاج. يكفيهم ان مثال حركتهم مازال هو اداة القياس التي نستلهمها من حين لآخر كلما عصفت بنا رياح الهويات الصغيرة التي مازالت عاجزة عن صوغ هوية وطنية جامعة لكل البحرينيين. لكن حقبتهم تلك ومثالهم ذاك مازال في ظلال الذاكرة والنسيان. كم يبدو فخرو صادقا عندما قال ان شعب البحرين سينسانا، لا يبدو انه كان يقصد النسيان بمعناها الابسط، بل بمعناه الاشمل لكن الموجع والأكثر فداحة: غياب التأريخ

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 900 - الإثنين 21 فبراير 2005م الموافق 12 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً