العدد 921 - الإثنين 14 مارس 2005م الموافق 03 صفر 1426هـ

عالم افتراضي

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

أبرز فضائل الديمقراطية وحرية التعبير ان كل شيء يظهر الى العلن، لكن هذا ليس نهاية المطاف اذا ما تعلق الامر بالحقيقة. وان يظهر كل شيء للعلن انتصار اول للحقيقة، لكنها لن تكون جاهزة ونهائية وملك اليد. فهل يكفي ان يعلن كل منا آراءه لكي نطمئن الى اننا ظفرنا بالحقيقة؟

ان يظهر كل شيء للعلن قد يكون اول شروط الصحة النفسية، ألا ينصحنا النفسانيون بأن نفضفض ما في نفوسنا لكي نرتاح ونستعيد توازننا النفسي؟

لكن هذا ليس كل شيء وسنعود للاستدراك بأن الامر يتوقف أيضا على ما في نفوسنا عندما نخرجه الى العلن. فهل كل ما سيخرج من نفوسنا او من الآخرين هو بالضرورة حقيقة ستجعلنا مطمئنين اننا امتلكنا ناصية الحقيقة؟

ان يقول كل منا رأيه، معناه اننا نملك الحق في "التدقيق" و"التمحيص" و"المجادلة"، أي بعبارة أخرى ان ندخل في مناظرة مفتوحة للوصول الى الحقيقة، الحقيقة ليست كائنا جاهزا بل هي متحركة ونسبية في غالب الاحيان.

أخلص من هذه الاستعادة الضرورية للمفاهيم الى ان الظفر بالحقيقة والاطمئنان لها يتوقف علينا في النهاية، فالافكار والآراء والدوافع مطروحة أمامنا، أما الباقي فهو طريقنا للوصول الى الحقيقة او المعرفة. أي كل الملكات الذهنية التي حبانا الله اياها: المقارنة، التدقيق، التأمل، التحليل والقياس. لا تخيفكم هذه الكلمات، فهي بقدر ما تبدو استعادة لدرس اكاديمي فهي خصال موجودة فينا لكننا نحن الذين نقرر استخدامها بدرجات تتفاوت من شخص الى آخر. من اولئك الشغوفين بالجدل والكلمات المنمقة الى البسطاء من الناس. كل لديه عقله وملكاته والامر عائد له في النهاية، اما ان يستخدمها بنفسه أو يجعل الآخرين يفكرون بالنيابة عنه. هل اتحدث عن "الاهواء"؟ اي بعبارة اخرى كل الانحيازات الاخرى من اي نوع؟ ايديولوجية كانت ام سياسية ام طائفية ام عرقية أو تلك التي تقف وراءها المصالح الذاتية من كل نوع؟

تشغلني صحتنا النفسية بالتأكيد، لكن ما يقلقني اكثر هو ان المناظرات كأداة مثلى ملازمة لحرية التعبير مازالت تقليدا مفقودا بجدارة. وهذه يمكن أن ترد أيضا إلى فقدان لغة الحوار او بالاصح الايمان بالحوار. حسبنا ان كلا يعلن موقفه ورأيه ليبدأ بعدها التراشق من بعيد دون تماس من أي نوع. اما الاداة المفضلة والوحيدة فهي "الصحف".

اقرأوا العناوين لكي تروا البون الذي يفصل الجميع وهو يتخندق في موقعه ويطلق السهام والصيحات من كل نوع. لكن إذا ما تعلق الامر بالصحف، فإن لكل واحدة "حقيقتها" الخاصة بها لأن الصحف وكحقيقة ليست مدعاة للانزعاج، انما تعبر عن مصلحة من نوع ما. والمصلحة المجردة ليست عيبا، لكن الامر سيتوقف بالنهاية على طريقة تعاملنا مع الحقائق واكثر انواع الاذى التي يمكن ان تلحق بنا هنا هو ان يصبح الحدث الواحد ذا روايات متعددة. أترفق طبعا لأن الفارق يصل أحيانا إلى حد الادعاء ونثر الاكاذيب.

تفكروا جيدا في هذا التقليد المستحدث: الصراخ. أن ينزل الاهالي الى الشارع لشكاوى ومظالم هي من صميم اختصاص الاجهزة والتسيير اليومي للخدمات.

اذا اراد الناشطون إسماعنا صوتهم، فليس من سبيل سوى الصحف. اما الحكومة فإن الصحف أداتها المثلى. تغمرنا بالآمال وتتواصل مع مجتمع بأسره عبر الصحف. مخاوفها، تحذيراتها، سياساتها، بشاراتها، وعودها وانجازاتها كل هذا عبر الصحف. اما ممثلو الشعب المنتخبون في المجالس البلدية والبرلمان الذين راحوا في الايام الاخيرة يجأرون بالشكوى من عدم تعاون الحكومة فقد أسمعونا صوتهم عبر الصحف أيضا. الوحدة الوطنية، معلقة أخرى لا نقرأها الا في الصحف، اما على الأرض فشيء آخر.

هكذا تحولت حياتنا الى واقع افتراضي نتداولة عبر الصحف، هل يفسر هذا ذلك الميل الذي بات متأصلا لإصدار البيانات مثلا؟ رغبة ملحة تتأصل لاسماع صوت غائب او لم يجد طريقه؟ ما الحاجة الى ذلك لولا ان المسار الطبيعي المفترض لتسيير حياتنا اليومية بكل ما فيها يعتريه خلل كبير: ان أحدا لا يسمع وان القدرة على التسيير والتواصل معدومة رغم كل البلاغة. صورة أخرى للمراوحة.

هل تعرفون شيئا عما يجري بعيدا عن الصحف؟ لا أتحدث عن الصحف كأداة لحق الناس الثابت في المعرفة، الصورة مخاتلة، فعوضا عن الحصول على المعرفة، راحت الصحف تحيل حياتنا وواقعنا إلى عالم افتراضي فيه كل شيء: المواقف، الآراء، المصالح والانحيازات، الاتهامات، نتف الحقائق، الأوهام والأكاذيب أيضا.

ليست الصحف هي المذنبة بل ان الخلل واضح: لا أحد يريد أن يتحاور. وهذه تعني ان أحدا لا يريد ان يتقدم بخطوة سعيا للحقيقة أو يبحث عن حقيقة لأنه مكتف بما لديه من حقائق وأوهام أيضا

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 921 - الإثنين 14 مارس 2005م الموافق 03 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً