العدد 925 - الجمعة 18 مارس 2005م الموافق 07 صفر 1426هـ

حيوية جديدة علينا

خليل الأسود khalil.Alaswad [at] alwasatnews.com

لماذا نذهب إلى الندوات والمحاضرات؟ يمكن إحصاء عدد من الإجابات لدوافع محتملة، لكن في مجتمع مازال مثقفوه يبدون شغفا مبالغا فيه بالألقاب ويصرون على وضعها قبل أسمائهم، لن يكون الاستماع دافعا ملموسا. وفيما تصر فاطمة المرنيسي التي انتظرنا قدومها عامين على أن الحدود زالت وانهارت، فإن جمهورها الذي احتشد للقائها بشكل غير مسبوق مازال مسكونا بالحدود والفواصل.

جاءت المرنيسي إلى مركز الشيخ إبراهيم الثقافي في المحرق تقود قافلة أطلق عليها أصحابها "القافلة المدنية". مغاربة من الجنسين لكل واحد منهم تجربة شخصية مع الثقافة والفنون والنشر والنضال المدني. صاحبة مكتبة آثرت بيع الكتب للفقراء، حائكتي سجاد تحولتا إلى فنانات تشكيليات، سجين سابق ينشط في لجنة المصالحة والإنصاف، ناشط في منظمات محلية لحل النزاعات في المناطق النائية والفقيرة، أكاديمية ومناضلة مدنية صلبة آتية من قلب فقراء مراكش، شاعر ألغت شبكة الانترنت من أمامه كل الحدود فأصدر مجلة مع أناس لم يلتقهم. مع هؤلاء متطوعون من نوع آخر، مصرفي مغربي سابق وزوجته، تحول إلى ناشر واختار مرافقة هذه القافلة، ثلاث نساء ألمانيات إحداهن وكيلة نشر، الثانية صاحبة مجلة، الثالثة تطوعت لتصميم موقع على الانترنت للقافلة وألماني آخر منظم أنشطة ثقافية. ما الذي يجمع كل هؤلاء؟

ما يجمع هؤلاء بدا مبهما قليلا لجمهور اعتاد على أن يخف مسرعا للقاء النجوم. فاطمة المرنيسي "وإن كرهت ذلك" نجمة أخرى واسم مدو لكن لقاءها الأول بهذا الجمهور حمل شيئا من معاني الصدمة.

صفقوا لها طويلا وبحرارة "وهي تستحق ذلك" لكن أيديهم بدت مترددة ولم تتحرك للتصفيق لحائكة سجاد تلفعت بعباءة مغربية. ترددوا أكثر في أن يصفقوا لبقية أفراد القافلة فيما المرنيسي تصر على تقديمهم واحدا إثر الآخر. ترددوا في التصفيق لحائكة السجاد وهي تنطق بجملتين بدتا غير مفهومتين. رداءة الميكروفونات لا تلغي موجبات التحية، وأن تتحول امرأة لم تتمكن من دفع إيجار منزلها لأربعة شهور من حائكة سجاد إلى فنانة تشكيلية أمر لا يدفع هذا الجمهور للتوقف إن لم نقل للتحية أقله على الإصرار.

الجواب مازال مبهما هنا فيما يجمع فاطمة المرنيسي بكل هؤلاء، الباحثة التي اعادت قراءة تراثنا بمثابرة ولغة متفجرة بالحيوية المستمدة من حيوية الجدل الذي تخوضه وهؤلاء الآتين من تجارب مختلفة تماما لكن الأهم لا تسبقهم الهالات من أي نوع.

كل شيء يتعلق بالحدود طبعا والحدود والقواعد لدينا مرسومة بجدارة، ولأنها كذلك فإن اللقاء حمل معاني الصدمة عندما لم نتمكن من فهم ما يجمع هؤلاء كلهم بعيدا عن نجومية فاطمة المرنيسي التي كانت هي الأخرى تطمسها بإصرارها على تقديم أفراد القافلة والإفاضة في الحديث عنهم كلما سنحت الفرصة. كانت تكسر الحدود والقواعد بإحالتها المايكروفون لهم وبمداخلاتها في أيام أخرى. لكن الجمهور المولع بالرصانة البالغة حد التخشب، بدا مشوشا وهو يرى قواعد التلقي التي اعتادها تتكسر أمامه بحيوية جديدة عليه. وفي أحيان أخرى كانت رداءة المايكروفونات تضغط على أعصابه.

يمكن لوم المايكروفونات قليلا ويمكن الإشارة إلى آذاننا التي لم تألف الدارجة المغربية بعد وشيء من الصعوبة في التعبير لدى المرنيسي أيضا. لكن هذا يقترح علينا استنتاجا آخر: المرنيسي قد لا تجيد إلقاء المحاضرات قدر إجادتها خوض جدل حيوي في كتاباتها، إنها تكتب أفضل من أن تتحدث. لكن فيما خصنا في الصميم لا يمكن أن نشيح عن نفاذ الصبر. نفاذ الصبر المقابل الأول لخاصيتنا الأثيرة: لا نعرف الإصغاء.

هذه الحيوية جديدة علينا وعندما يلفنا الشغف بالألقاب الأكاديمية ومقدمات التعريف، فإن أدوات الاستشعار لدينا ستبقى معطلة ولن يكون بمقدورها أن تلتقط أي مدلول خارج الألقاب والهالات والأسماء المدوية. فمن لم يستوقفه سجين سابق ينذر نفسه لتعافي مجتمع من ماضيه المظلم بعيدا عن دوافع الانتقام بل لتكريس التسامي الأخلاقي، أو شاب يقضي عمره في منطقة نائية يحل نزاعات الأهالي بشأن المياه، أو حائكتي سجاد تتحولان إلى فنانات تشكيليات، هو نفسه الذي لا تستوقفه أية حركة أو جهد هنا في بلاده ومجتمعه بعيدا عن الهالات ودوي الأسماء.

ما يجمع هؤلاء كلهم هو الرغبة في الحوار وأول شروط الحوار وأدواته هو الإصغاء. ولأننا غير معتادين على الإصغاء، فإننا لا نطرح الأسئلة بل الشروحات ومقدمات التعريف المطولة يحدونا دافع غير معلن لأن نقول لمن أمامنا: نحن نعرف عن ماذا تتحدثون، لقد ذهبت إلى تلك البلاد وشاهدت ذلك، لقد قرأت ذلك منذ زمن بعيد. ذلك النوع من المقدمات وبطاقات التعريف المدفوع بتأكيد ندية من نوع ما، علامة خفية على رغبة في درء شبهة مستقرة في أذهاننا بالخواء والضحالة. ومع دوافع كهذه يبدو السؤال دوما رديفا للجهل، وعليه يمكن أن نفهم لماذا تقل الأسئلة في ندواتنا وتكثر مداخلات من هذا النوع خصوصا أمام الآخر القادم إلينا من مكان بعيد.

مهذبون ولطفاء نحن ومضيافون؟ أوه بكل تأكيد وقراء مواظبون أيضا، لكن هذا ليس كافيا بحد ذاته لكي يصنع مجتمعا حيويا أو نخبة مثقفة تتمتع بالحيوية والأهم بالتواضع الذي يمكن أن يدفع بها بعيدا عن أنماط التلقي التي اعتادتها. في قاعات مغلقة إلى فضاء مجتمع يمور بكل أشكال التغيير وإرهاصاته. أن تحسن قدرتها على التقاط علامات التغيير وإرهاصاته في مجتمعها وأن تستمع جيدا لصخب الأجيال الجديدة بعيدا عن المؤسسات والسلطة وضجيج مكنات الدعاية والإعلام. ولأن إخفاقها هذا أصيل هنا، فهي أخفقت أيضا في امتحان صغير في أن تلتقط رسالة القافلة المدنية: التغيير والدمقرطة يبدأ من القاع لا من القمة. أو لا قيمة للنخبة ما لم تتسم بالحيوية، الحصيلة المعرفية بلا معنى ما لم تكن لها قيمة عملية أو الأهم من دون تضحيات من نوع ما

إقرأ أيضا لـ "خليل الأسود"

العدد 925 - الجمعة 18 مارس 2005م الموافق 07 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً