العدد 935 - الإثنين 28 مارس 2005م الموافق 17 صفر 1426هـ

اليوم خصومي وغدا أنا

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

البحرين في أيام: الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني خالد حدادة في البحرين للمشاركة في احتفالات الذكرى الخمسين لتأسيس جبهة التحرير الوطني، أول حزب يساري في الخليج ونصف قرن من العمل السري خرج للعلن الآن تحت اسم المنبر الديمقراطي التقدمي. ليلى خالد القيادية بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ايقونة من الزمن الملتهب تصل ضيفة على المؤتمر العام لجمعية العمل الوطني الديمقراطي. هل أذكركم بالاسم المرجعي: الجبهة الشعبية في البحرين.

فيما مضى كان مجرد ترديد هذه الاسماء والمسميات كافيا لكي يكون المرء في السجن، ماذا قلت؟ الجبهة الشعبية؟ جبهة التحرير؟ الحزب الشيوعي اللبناني؟ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؟ أولئك المرعبون من جماعة جورج حبش ووديع حداد؟ ولكم أن تعرفوا أن جورج حبش يرسل برقية تتلى في المؤتمر العام لجمعية العمل.

في الأيام نفسها، تمضي الاستعدادات قدما لإقامة سباق "الفورمولا 1" رياضة مجتمعات الغرب الصناعي التي تحولت إلى صناعة هائلة عابرة للقارات ويراد لها أن تحقن اقتصادنا بجرعات نمو. الشركات والمصارف توالي إعلان أرباحها وبرامجها المستقبلية. الحكومة تصدق على خطة لإصلاح الاقتصاد وسوق العمل والتعليم تمهيدا لعرضها على البرلمان. اقتصادنا لم يتغير فجأة إلى اقتصاد موجه، بل ظل اقتصادا مفتوحا ومن أكثر الاقتصادات تحررا في المنطقة.

هذه صورة مشرقة لبلد منفتح بلا حساسيات وبكل الثقة، لكن هذه الصورة بكل تنوعها الثري تبدو أحيانا فوق طاقة التصور. ففي هذه الأيام نفسها ندخل في اختبار قوة بين الحكومة وتيار سياسي في البحرين بسبب مسيرة. أما التداعيات فهي خطيرة لأنها تذكرنا بأسوأ الكوابيس: التلويح بإجراءات ضد جمعية الوفاق لا تستبعد الحل. فزعة من بعض خطباء الجمعة ضد المسيرة وإعلانات في الصحف لتنظيمات سياسية لا تعارض المسيرة فحسب بل تحمل طابع الإدانة أيضا. التداعيات تمضي إلى تذكيرنا بما نحاول دوما أن نتجاوزه: أن تصبح حرية التعبير في مهب الريح بسبب اختبار قوة بين الحكومة وتيار سياسي.

المؤشرات تصطدم ببعضها: هذا الانفتاح الواثق من نفسه الذي يفتح أبواب بلادنا لمن كان مجرد ذكر اسمه فيما مضى كافيا لكي يجد المرء نفسه بلا مستقبل بين القضبان، يبدو قابلا للتلاشي بسبب مسيرة جماهيرية سلمية.

أخطر ما يمكن أن يعيشه أي بلد هو أسلوب "اختبار القوة" وتبادل سياسة شفير الهاوية بين الحكومة والمعارضة، وكلا الطرفين يتحملان مسئولية في هذا، لكن مسئولية الحكومة أكبر بالتأكيد، لا لأنها الطرف القوي في المعادلة بل لأن اختبار القوة ليس سوى علامة تأزم يتعين عليها نزع أسبابه ولأنها أخطأت التصرف الآن مرة أخرى.

مسيرة الوفاق هي النموذج الذي بقينا نسعى إليه، مسيرة سلمية، هادئة منظمة تؤكد الولاء بسلميتها وأعلامها. أما الخلاف على موضوعها فذلك أمر يجب ألا يختلط تماما مع حق الوفاق في التعبير عن رأيها، أي بعبارة أخرى حق الجميع في التعبير. أي يجب ألا نخلط بين الموضوعات الخلافية وبين حق التعبير عن الرأي.

ومنذ تسلمه حقيبة الداخلية، برهن الوزير الشيخ راشد بن عبدالله على حسن التدبير وبعد النظر وجسد أرضية الثقة التي تستند إليها الاصلاحات التي نعيشها. فمنذ مايو/ أيار من العام الماضي لم يشاهد شرطي واحد بالقرب من أية مسيرة، وكانت الاستعدادات الأمنية قائمة لكنها غير منظورة. وهذه إذا ما تمت مقارنتها بالمظاهرات المحاطة برجال الشرطة في قلب أية مدينة أميركية أو أوروبية، فهي من حيث لا ندري تبرهن على حجم الثقة الذي ترسخ بين الطرفين: الشرطة والمحتجين أيضا.

لكن وزارة الداخلية هذه المرة ارتكبت خطأ بيروقراطيا، أولا: لم تعلن عدم استيفاء المسيرة للشروط مثلما أعلنت إلا قبل يوم واحد من موعد المسيرة. والتحقق من مطابقة الشروط أمر يمكن أن يتم في اللحظة نفسها التي يتم فيها تسلم الإخطار. لكن الانتظار على ما يبدو كان انتظارا لتوجيهات عليا. هنا تدخلت السياسة، لأن بيانات الداخلية تحدثت عن أمرين: الظروف الإقليمية والقنوات التي يتعين سلكها فيما يتعلق بالتعديلات الدستورية. الحجة الأولى ليست مقنعة كفاية لأن في أذهاننا سابقة أخرى تم إبلاغ مجموعة من النشطاء فيها بأن اسماءهم موجودة في قائمة أميركية، وتبين أن الأمر لم يكن أكثر من رسالة أرادوا توصيلها إليهم. وإذا كانت هناك مخاوف أمنية فعلى الحكومة أن تطلع مواطنيها على تفاصيلها ومؤشراتها لا أن تلوح بها فقط. أما الحديث عن القنوات الدستورية فهو لا صلة له بحق التعبير. وليس هناك أي معنى لحرية التعبير طالما منع صاحبها من التعبير عنها، لسبب وحيد، هو: اختلافنا معه في وجهة نظرنا أو حساسيتنا الشديدة من موضوع الخلاف. أما استلال النصوص من الأدراج فهو غير مقنع أيضا، طالما أننا لا نتذكر القوانين إلا في حالات كهذه ونغض الطرف عنه في حالات أخرى.

أما تلك الفزعة المضادة من بعض خطباء الجمعة فهي أخطر بكثير من نسيان الحكومة لدورها في صيانة الحريات ودخولها اختبارات القوة هذه. فهي ليست سوى مبادرة طوعية لطأفنة حياتنا السياسية وتصويرها بأنها خلاف دائم بين السنة والشيعة. ومبادرة طوعية للتضييق على حرية التعبير من باب المكايدة لتيار سياسي لا نتفق معه.

اختلفوا مع الوفاق ومع كل الجمعيات وكل الشخصيات ومع كل فكرة أو وجهة نظر لا تعجبكم، لكن لا تسلبوا حق الآخرين في التعبير، مكسبنا الوحيد والأهم. دافعوا عن حق كل منا في التعبير عن رأيه طالما كان سلميا. لا تتعاملوا مع الناس وكأنهم غير جديرين بالحرية، وإذا كانت الوفاق اليوم هي المستهدفة بالاجراءات والتضييق، فالسابقة ستصبح سلوكا وتدابير وقوانين تعم الجميع.

يمكن إحصاء مآخذ عدة على وجهة نظر الوفاق وغير الوفاق، ولدي شخصيا الكثير منها، أهمها وهم التحرك الخارجي، لكن هذا كله لا يدفعنا إلى سلب الوفاق وخصوم الوفاق أيضا وكل النشطاء والجمعيات من كل التيارات والأشكال والانتماءات وكل صاحب وجهة نظر مهما سببت لنا الضيق، سلبهم حقهم في التعبير عن وجهة نظرهم. فإن قبلت بانتهاك حق غيري في التعبير تحت أية ذريعة فغدا يكون دوري أنا

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 935 - الإثنين 28 مارس 2005م الموافق 17 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً