العدد 946 - الجمعة 08 أبريل 2005م الموافق 28 صفر 1426هـ

azzzجنوب شرق آسيا... النوم على سرير هزاز

ليس سريرا للمساج، أو لعبة من الألعاب التي قد نجدها في أحد المتنزهات، إنه سرير حقيقي، يهتز هزات حقيقية، طبيعية، بتأثير من الأرض التي يقف عليها، والتي اهتزت بفعل الزلزال، زلزال القرن، وتبعاته. وكنت فعلا نائمة عليه، نوما حقيقيا طبيعيا كما يتجه كل البشر إلى أسرتهم في الليل لينالوا قسطا من النوم والراحة. لكن سريري خانني مرتين، فاهتز، واهتزت معه أكثر من سبع دول في جنوب شرق آسيا، وخلف أمواتا بالآلاف، ودمارا وآلاما ودموعا، وخوفا متواصلا من هزة أخرى. كان النصيب، أو القدر هو الذي جعلني أختار جزيرة بينانج الماليزية لكي أبدأ فيها دراستي العليا، وأنا التي اعتدت هواء البحرين وسماءها وأهلها. وكانت مغامرة، خلفتني طالبة بحرينية في جامعة لم تشهد طالبا بحرينيا من قبل، وكثير من أهلها لا يعرف أين تقع البحرين. وبدأت الحياة تسير بي مستقرة وهادئة، تستمد هدوءها من جو بينانج الهادئ، وطبيعتها التي يحسدني عليها الكثيرون، والتي أصبحت عندي شيئا اعتياديا، غير مميز على الاطلاق، لأنه شيء موجود في كل مكان هنا، قد يبهرك في البداية، لكن مع الوقت، تعتاد عيناك منظر التلال العالية والأشجار، ولا تعود تميز الخضرة، لأنك ببساطة محاط بها. ثم تشهد بينانج، بل ماليزيا، بل دول شرق آسيا كلها حدثا يهزها، بالمعنى الحرفي وليس المجازي للكلمة. الأرض تهتز، وتهتز، ترقص فرحا أو غضبا، أو لعنة من السماء، لتخلف الدمار والموت والألم. لم يكن الوضع سيئا في ماليزيا مثلما كان في بقية دول شرق آسيا التي شهدت زلزال القرن في السادس والعشرين من ديسمبر/ كانون الثاني الماضي، فقد شملت الأضرار أطرافا من الجزر الماليزية المختلفة، كان أكثرها تأثرا سواحل بينانج، الجزيرة التي أعيش فيها، ولم يتجاوز عدد الضحايا الخمسة والسبعين، لكن التجربة التي هزت جارتها الحميمة إندونيسيا - والتي تشترك معها في الطبيعة الجغرافية والمجتمعية، بينما تختلف في مستوى النمو الاقتصادي - تلك التجربة خلفت ذعرا حقيقيا في ماليزيا، فقد كانت هذه الكارثة هي الأولى في تاريخ ماليزيا، لم تعتد المنطقة الزلازل، أو الأمواج الغاضبة "التسونامي". كانت على الدوام بلدا هادئا وادعا يعتمد على السياحة والاقتصاد، وكان أهله البسطاء يرتادون البحر، ويركبون القوارب على شواطئ البلد التي عرفت بجمالها. وجاء الزلزال ليغير كل شيء، الشواطئ لم تعد هي الشواطئ، كنا على الدوام نصادف السياح القادمين إلى ماليزيا مصطافين ومتريضين، أصبح هذا المشهد نادرا الآن. وفي حين يتوقع الكثيرون موسما سياحيا رديئا في الصيف المقبل، قد يثار سؤال ما: أين سيذهب السياح هذا العام، وتحديدا السياح العرب الذين واجهوا مشكلات في التردد على دول كأوروبا وأميركا بسبب الضغط السياسي وإجراءات مكافحة الإرهاب التي جعلت المسلمين - والعرب تحديدا- المتهم الأول، فكانت ماليزيا وتايلند متنفسا وبديلا حقيقيا، فامتلأت شواطئ وشوارع ماليزيا بالسياح حتى لكنا نشعر أننا في بلد عربي وليس في ماليزيا؟ ولكن كان ذلك كله إلى حين، فقد ضربها زلزال القرن، واهتزت على إثر ضرباته، ودمرت موجات التسونامي أكواخ وبيوت الصيادين على شواطئ بينانج وكلنتان ولنكاوي، وما أن دفعت الحكومة تعويضات للصيادين وملاك المنازل في تلك المنطقة، وما أن شارف إنشاء المساكن الجديدة على الانتهاء، حتى ضربت هزة أخرى المنطقة، ولكن الله سلم، فلم تتبعها موجات تسونامي قاتلة في المرة الثانية. وفي المرتين، كنت نائمة على سريري الذي لم يعتد الاهتزاز، وكان شعورا غريبا أن أستيقظ على اهتزازات السرير. فهو شعور بين الصحوة والنوم، شعرت أنني أحلم. في المرة الأولى، على إثر زلزال القرن، لم أكن استوعبت ما يحدث، ولم أشعر بأن الأمر بهذا السوء، إنها هزة وحصلت، وانتهت. لكنها لم تكن كذلك، بعدها كنا شاكرين لله تعالى الذي لم يجعلنا من ضحاياها. كانت الهزة الأولى في الصباح، في أحد صباحات الأحد الكسول في بينانج، التي تعطل يوم الأحد مثلما تعطل كل ماليزيا، وكان البعض مستمتعا بنوم متأخر قليلا لتغيير روتين الاستيقاظ الباكر كل يوم. كانت قرابة التاسعة صباحا، عندما شعرت أن سريري يهتز، ظننتني أحلم، لكن الاهتزاز لم يتوقف، وكان قويا. في البداية ظننت أن أحد سكان الغرف القريبة مني في السكن الجامعي الذي أشغله قد فتح الراديو بصوت عال، فقد كان الاهتزاز يحمل ترددا للصوت يشبه تردد الصوت الذي يصاحب المسجل العالي ذي السماعات، لكن الصوت كان أقوى بكثير. استمر تحليلي للصوت ثواني معدودات عندما سمعت نزلاء السكن يصرخون خارج غرفتي: هزة أرضية، وكنت أسمع النقاش الذي يدور في الخارج، وأنا استعد للنزول، تجمعنا في أسفل المبنى، فترة من الزمن حتى توقفت الهزة، وعدنا بعدها لممارسة حياتنا الطبيعية، في حين كان الضحايا يسقطون بالآلاف بعدها بنحو الساعتين بعد أن اندفعت أمواج التسونامي إلى الشواطئ في الدول القريبة، وخلفت عشرات الضحايا على شواطئ ماليزيا. وأصبح زلزال القرن، الحدث الرئيسي لفترة ليست بالقصيرة، حشدت حملات التبرع للضحايا، بدأت عمليات الترميم في الشواطئ وبناء مساكن للصيادين وتعويضهم عن قواربهم، أخذت الشائعات تنتشر بين فترة وأخرى عن احتمالات وقوع هزة ثانية وصار الناس يخرجون إلى الشوارع كلما سمعوا شائعة كهذه. ملأ الزلزال وحديث الزلزال وضحايا الزلزال حياة الناس حتى أشهر، ثم بدأ يخفت تدريجيا حتى انتهى، وصار حدثا يذكر أحيانا. حتى يوم السادس والعشرين من الشهر الماضي، عندما فاجأت الناس في دول شرق آسيا هزة أخرى. واهتز سريري معها مرة أخرى، ومرة أخرى كنت نائمة على هذا السرير، في وقت متأخر هذه المرة، قرب منتصف الليل. وكانت الهزة الأولى مع قوتها تراود الكثير منا أحيانا، فلا يعرف هل كان يعاني من دوار، أو أن الأرض تهتز فعلا، لذلك أيضا لم أقتنع بالهزة في المرة الثانية منذ اللحظات الأولى، وظننته ربما حلما آخر، لكن مع استمرار الاهتزاز علمت أنها هزة أخرى، ويبدو أن كل من عاصر هاتين الهزتين قد يصبح خبيرا في الهزات الطبيعية! المهم أننا فعلنا مثلما فعلنا في المرة الأولى، نزلنا إلى الطابق السفلي، مثلما نزل سكان المباني في جميع أنحاء ماليزيا تقريبا وحتى العاصمة كوالالمبور، لأن الهزة امتدت لها جميعا. غير أن المرة الثانية كانت أكثر قلقا، لأننا بتنا نعرف السيناريو الذي صاحب الزلزال الأول، وأنه لن تمر ساعتان إلا وتندفع موجات التسونامي، وأن الهزة قد تكون شديدة في مناطق معينة في ذلك الوقت، وأنها قد تكون خلفت ضحايا بالآلاف. لذلك كان الذعر أقوى في المرة الثانية. وعلى رغم بعض مشاهد الكوميديا التي صاحبت الزلزال والتي قد رفهت عن المرء بعض قلقه، فقد اندفع الناس في الليل إلى الطابق الأرضي، بعضهم حافي القدمين، بعضهم يرتدي بيجامته أو الشورت، وبعضهم الآخر مازالت آثار النوم عالقة في ملامحه. ربما كانت "حلاوة الروح" كما يقولون، فالمهم كان أن ينفذ المرء بجلده من الزلزال، وتوابعه. الهزة الثانية مرت أيضا وانتهت، ورجع الجميع إلى النوم في وقت متأخر جدا، ولم تترك الهزة أضرارا شديدة هذه المرة، ولم يصاحبها تسونامي آخر، لكنها خلفت شعورا قويا لدي، ولدى كثيرين ممن أعرفهم، بأن الأرض قد تهتز في أية لحظة، وأن الاهتزاز واقع وممكن الحصول. وفي كثير من الأحيان أفاجئني وأنا أشعر بهزة، أظن أنها في رأسي وليست في الأرض التي تحت قدمي، لكن شعور الهزة حاصل ولا ينسى. تذكرني بلعبة كنت أحبها في طفولتي وهي "البيت الهزاز" الذي كنا نتقافز عليه لكي يهتز، لكنه تحول الآن إلى سرير هزاز ولا داعي لأن نتقافز عليه، لأنه واقع فوق أرض هزازة، بشكل أقوى وأكثر عنفا، ولكن فقط لدقائق، تتوقف بعدها الاهتزازات، وتتركك مع شعور غريب بأنها مازالت تهتز، وهي لا تهتز، ربما تكون أنت الذي تهتز! وتحليل هذا الشعور غريب أيضا، لأننا تعودنا مفهوم الثابت والمتحرك، الأرض ثابتة، وأنت المتحرك. وعندما تشك في أن الأرض تحت قدميك ثابتة، ربما تشك في كل شيء، حتى في سلامتك العقلية وتفسيرك للثابت والمتحرك. إنه شعور لا يتجاوز اللحظات، لكنه شعور لا ينسى، لتجربة لن تنسى. وما زلتني عندما أتجه إلى سريري للنوم كل يوم أفكر وأسأله: هل ستهتز هذا اليوم أيضا؟

العدد 946 - الجمعة 08 أبريل 2005م الموافق 28 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً