العدد 955 - الأحد 17 أبريل 2005م الموافق 08 ربيع الاول 1426هـ

القوة آفة تفتك بلغة الحوار

هنادي منصور comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

الصراعات أو النزاعات هي وسيلة حركية غالبا ما تعبر عن حال احتقان أو غضب تكون متنفسا طبيعيا عن حال لا طبيعية، وأساس الصراعات غالبا ما تكون فكرية، بمعنى ان جميع الصراعات التي بدأت منذ نشأة الخليقة على وجه الأرض وحتى يومنا هذا نشأت لاختلاف ايديولوجي وفكري ومعتقدي على تعدد جوانبه، دينية أو سياسية أو اقتصادية. لذلك نجد ان الأنبياء بعث بهم ربهم ذو العزة والجلالة لأقوامهم، لتوجيههم نحو الهداية والصلاح. وكانت رسالة الاسلام بمعجزته الخالدة، القرآن الكريم، هي خاتمة الأديان ليبقى صالحا لكل زمان ومكان. ولما شاع السلام واستقرت أوضاع الأمة في عصر نبينا محمد "ص"، قام بتوقيع أول وثيقة تدشن عهدا جديدا للصلاح، هي وثيقة صلح الحديبية بين المسلمين وقريش.

تصنف المفاوضات على انها مقدمة للجلوس على مائدة الحوار، وفي المعنى الأشمل هي وسيلة يراد منها في النهاية تذليل عراقيل الجفاء والتصلب في التعاطي بين الأطراف المشاركة في تلك الاجتماعات. فتجد تلك الدولة تخوض حربا تدوم سنوات وتقضي على الأخضر واليابس وتزهق فيها أرواح الأبرياء، ولكن تكون الهدنة أو التفاوض نقطة تلاق ومتنفسا يعطي الأطراف المتصارعة فرصة تجدد قواها وحساباتها في بعض الحالات. فإذا ارتأت ان المصلحة تقتضي حال سلام دائم، تجتمع حينها حول "الطاولة المستديرة"، لتقر عملا دبلوماسيا تلجأ إليه عادة الحكومات لإنهاء ازمة ربما دامت سنوات، لتكون تلك الطاولة رمزا للحوار والتلاقي لمناقشة نقاط الخلاف.

ما من مشكلة تنشأ حتى يكون الحوار السلمي ملجأ لتسويتها وتهدئتها لئلا تتفاقم أكثر، لطالما كان هو السبيل الذي تعول عليه الأطراف للوقوف عند نقاط الخلاف ومحاولة حلها. وفي النهاية يكون مطلبا شعبيا وجماهيريا تتوافق عليه مختلف الاطراف والأطياف الشعبية للوصول الى "نقطة تلاقي" تجمعها في إطار مبدأ يحتكم إليه القائمون، أساسه التعددية الفكرية والشفافية في التعاطي مع الآخر، برؤية موضوعية بعيدة عن الذاتية التي ان وجدت أفسدت جميع الحلول والإجراءات العملية.

في بعض المناطق تبقى مسألة الحوار مقترنة بعدد من المرئيات أو الشروط التي تسبق عقدها، فتجد فئة ما تسبغ بعض المقترحات التي ان لم تجد حلولا مسبقة لها لن تخوض غمار المفاوضات الماراثونية، التي تقوم على الشد والجذب وحالات المد والجزر، حتى تكون الصورة الكلية المتكاملة في نظر الفئة المشترطة أحيانا قائمة على مبدأ المساواة والحرية والعدل والاحترام المتبادل لكل الأطراف، من دون الاستهانة بقدرات الآخر، بغية فك قيود المشكلة المتعثرة، لأن الاحترام هو مقدمة وشرط أساسي في التعاطي مع الآخر بمرونة وعقلانية من دون تعصب أو تطرف.

عالميا، الدور القيادي التي يضطلع بهذه المهمة في عصرنا هذا، هو الأمم المتحدة التي تجمع تحت مظلتها 191 دولة تلتزم بميثاقها الذي يدعو الى احترام كيان كل دولة بشكل يحافظ على أمن وسيادة الكيان الإقليمي من دون ان يأتي يوما بما يهدد أمنها القومي. وتعاليم تلك المنظومة تسري على جميع الدول التي يوحد فيها حاكم وشعب ودستور واستقلال. في عصر النبوة الأول، كان الرسول "ص" أول من أصلح بين الأوس والخزرج، وكان مؤسس منهاج الحوار، إذ أرسى قوانين تسري على جميع المسلمين، وكان يفصل في قضايا الناس، فتجد ان السلام والسلم وسيلة مهدت آنذاك لانخراط أهل الذمة من اليهود والنصارى داخل في بوتقة المسلمين، فأوجب عليهم الجزية لضمان كفالتهم من دون تعريض حياتهم لخطر يهدد أمنهم وسلامتهم، طالما كانوا يعيشون داخل حدود الدولة الاسلامية. وكان التعاطي وقبول وجهة نظر الآخر واحترامها، هو الرأي السائد في الثقافة الاسلامية، بينما في المجتمع الحالي الذي نعيش في خضم تضارباته وتناقضاته، بين الشرق والغرب، والعلماني والإسلامي، والليبرالي والشيوعي... مجتمع انبثق بتعددية فكرية بلورت كل جماعة فيه على حدة، نظرياتها وأطرها الفكرية، لتقوم على مبدأ المسئولية الاجتماعية. لكن تبقى الفجوة الأكثر اتساعا، والتي أخذت تشكل نقطة صراع حاول الكثيرون الترويج لها في صلب المشكلات التي تمر بها شعوب العالم، وهي نظرية "صراع الحضارات"، التي تلخص مفهوم الصراع بين الشرق الذي يمثل أكثرية مسلمة والغرب بغالبيته المسيحية.

هذا التقسيم يهدف الى رسم صورة مفادها ان أساس الصراعات هي دينية بحتة بعيدة كل البعد عن الحقيقة التامة، التي تسعى فئات معينة الى تقسيم الشعوب وخلق فجوة بينها، ذلك لأن الاعلام المقترن بلغة التفخيم المغلوطة، يخلق لدى الناس هاجس الرعب في التعاطي بين الأطراف المتباينة فكريا، وبدلا من أن التماس الطرق لتضييق هوة الاختلاف والعيش في تآخ وسلام، نراها تجعل الخوف والنفور من الآخر يصل أحيانا الى مستوى "الفوبيا". وكلاهما عنصران كفيلان بتذويب الجهود المبذولة لتلاقي الاطراف المختلفة، والالتقاء على نقاط مشتركة للخروج بنتيجة مفادها ان الصراع هو وهم خلفته ايديولوجيات متطرفة، مبتغاها دوما تحطيم التلاقي المثمر، وتحويله إلى رماد، فتتسع فجوة الصراع الذي لم نرتق حتى الآن لحله، للأسف، وذلك بسبب اطماع وغايات في "نفس يعقوب"، تحقيقا لمآرب تجد ان استمرار مصالحها يقوم على اساس افشال الحوار، وعدم الاتفاق على أي خيار يمهد الى السلام، لأن الصراع وفقا لما تروج له تلك الأطراف الهدامة يخدم مصالحها لتحقيق طموحها وفرض سيطرتها على ما يجري حاليا على الساحة، فنرى مثلا أنه ما أن يقع حادث إلا وخلقت تلك الاطراف كارثة تفوق كارثة "تسونامي" نفسها التي راح ضحيتها آلاف الضحايا نتيجة وقوع هزة بلغت قوتها نحو تسعة درجات على مقياس رختر!

هذا التسونامي مماثل تماما لما نعيشه اليوم من أزمات وحروب تكون الاختلافات الآتية هي شرارة اشتعالها، فمذ خلقنا ومازلنا نذوق ويلات تلك الكوارث التي تمر بها أمتنا، من دون أن نجد لها مخرجا يهون علينا المصاب، ويسوي أزماتنا عبر الطرق السلمية والأدوات المتفق عليها من دون اللجوء الى الأداة العسكرية، التي تكون بمثابة شوكة تزرع في طريق المفاوضات العالقة، وذلك لسبب واحد لا غير هو تغليب لغة القوة على لغة الحوار والمنطق الصادق، وهو أكبر ما نعاني منه في عصرنا... فهل من مخرج وإجابة لمطلب عنوانه واضح وصريح يدعونا جميعا للحوار؟ نرجو ذلك، وندعو الله دائما لتحقيقه

العدد 955 - الأحد 17 أبريل 2005م الموافق 08 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً