العدد 984 - الإثنين 16 مايو 2005م الموافق 07 ربيع الثاني 1426هـ

كلفة التدهور المهني الباهظة

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

صحافة اليوم بالمقاييس المهنية لا تبدو ثمرة طبيعية لتلك الصحافة التي أنشأها الاصلاحيون والنهضويون منذ 66 عاما. واذا كان بالإمكان ان نشير إلى مواضع الخلل الأهم فيها، فإن هذه المظاهر أثمرت من بين ما أثمرت مآسي إنسانية أيضا. فعندما يكون الخوف هو القانون السائد في الصحف فإن المهارة والاحتراف قد تصبحان عبئا لا يطاق يتعين محاربته.

خلف التدهور في التقاليد المهنية داخل الصحف، يقف تدهور من نوع آخر: تدهور مريع في القيم الإنسانية. لا يتعلق الأمر بضغوط السلطات وتعميم بنية الخوف داخل الصحف فقط ليصبح القانون الاساسي الذي يحكمها، بل بالطريقة التي تغيرت فيها منظومة كاملة من القيم الإنسانية كثمرة طبيعية لهذا التدهور. من أين بدأ الخلل؟ قد تجد أجوبة متباينة في تقديرها للمدى الذي تؤثر فيه ضغوط الحكومة أو عدم كفاية القائمين على الصحف أو ضغوط المعلنين والشركات وأصحاب الرساميل، لكن المؤكد هو أننا بدأنا الاعتياد على سلوك وممارسة جديدة كانت حتى وقت قريب تقرب من المحرمات: "قطع الارزاق".

في اعراف وتقاليد العمل في أي مكان، يبقى المقياس الأهم والأوحد لجدراة العامل في عمله هو الكفاءة. فكلما تدنت كلما اصبحت الحظوظ في الوظيفة والترقي أقل والعكس كلما ارتفعت وتطورت كلما زادت حظوظ البقاء في الوظيفة والترقي أيضا. لكن في صحافتنا الخليجية القوانين معكوسة والكفاءة ليست مطلوبة بحد ذاتها بل مطلوبة تبعا لقدرتها على تلبية شروط عمل جديدة تقوم على الدعاية وليس على تقصي الحقائق.

على هذا النحو، رحت أتابع دراما أحد الأصدقاء الصحافيين الكفوئين الذين بدأوا حياتهم المهنية في أواخر السبعينات من القرن الماضي. إنه من ذلك الجيل الذي نشأ على التخوم من كل شيء: طفولة وصبا في الستينات ويفاعة وشباب في السبعينات. انه واحد من اولئك الذين يعملون وكأن الله خلقهم لمهنتهم، خلقه الله لكي يكون صحافيا متميزا لكن معظم الصحافيين البحرينيين لا يعرفونه لأنه لم يعمل في الصحافة البحرينية الا سنوات معدودة أواخر السبعينات.

طرد من عمله مع مجموعة من الصحافيين اثر حركة مطلبية لتحسين أوضاع العمل. بعد ذلك عمل في أسبوعية محلية قبل ان تجتذبه إحدى الصحف الخليجية ليعمل مراسلا لها من البحرين. تعرض للسجن لفترة قصيرة في مطلع الثمانينات وعاد للعمل. لكن الخيبات لا تأتي فرادى وعندما يتضافر الاحباط المهني والخيبات على المستوى الاجتماعي والإنساني، يصعب وقف التداعي احيانا. وثمة أمر يستدعي التوضيح هنا لأن مشكلة صديقنا كانت تبدأ من انه محروم من العمل في الصحافة البحرينية. ان معايشة هذا الاحساس باستمرار، اي الاحساس بأن ثمة من هو أقوى منك يترصدك في رزقك ستجعل من أية خيبة أو مشكلة من أي نوع ذي اثر مضاعف. اثمر هذا كله ما يمكن ان تتخيلوه من تأثير للصدمات، فالخوف والخيبة مزيج خطير قد يكون مقدمة للانهيار.

كان الكحول احد المخارج، الطريق الى سعادة ليست باليد ولم تكن ومعها أيضا استمر قرار منع العمل في الصحافة المحلية. لكن لأنه كفاءة، فقد اجتذبته دوريات ومجلات متخصصة تصدر خارج البحرين، وكان بإمكان هذه النقلة المهنية ان تكون بداية لمنعطف جديد في الحياة. كان هذا المنعطف في قبضة اليد لكنه ضاع أيضا. فعندما لا تبصر الصحف ولا نظارات أصحاب الصحف مثل هذه الكفاءات يصبح السؤال شوكة في الحلق: لماذا لا أعمل في صحف بلادي؟ لماذا لا يوظفونني لديهم؟

تزيد جرعة المرارة عندما يجد الاكفاء انفسهم خارج الوظيفة والاهتمام فيما يشغل انصاف المتعلمين اماكنهم ويكتبون ما شاؤوا من الهراء ويحملون التسميات نفسها، فالكفؤ صحافي وغير الكفؤ صحافي أيضا. واذ يرصدون هذا التردي في المهنة بعين فاحصة أكثر من القارىء العادي، فإن المرارة تصبح مثل القدر.

ضاع المنعطف الجديد لبدء حياة مهنية وإنسانية جديدة لأن المرارة ظلت باقية. أما القرار القديم غير المكتوب بالحرمان من العمل في صحافة البحرين حلت محله حقيقة أكبر واقسى: لقد نسي هذا الصحافي تماما. فالبحرينيون نساؤون وذاكرتهم قصيرة. خيبة اضافية ومرارة؟ ربما يسهل علينا ان نصف الأمر كذلك، لكن عندما تكون خارج الزمن باكمله، فليس هذا سوى مقابل آخر للضياع.

لم يتحقق المنعطف الجديد، بل ان الدراما الانسانية مهما كانت طبيعية من موت الوالدين او فقدان احد الاصدقاء تصبح مضاعفة لدى انسان أقصي الى خارج المشهد تماما. أقصي من حدود المهنة واقصى هو نفسه من الحياة يأسا.

تبدلت الازمنة وراح زمن وجاء زمن، لكن قصة صديقنا هذه ستبقى علامة على المدى المدمر الذي بلغه التردي الذي لحق بالصحافة التي مر على نشأتها 66 عاما. انه اليوم يعمل في وظيفة لا علاقة لها بالصحافة. اما مظاهر حياة البورجوازي الصغير فقد تلاشت لتحل محلها ملامح حياة انسان بالكاد يملك قوت يومه. لا سيارة، لا منزل، لا عائلة، لا شيء

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 984 - الإثنين 16 مايو 2005م الموافق 07 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً