العدد 4665 - الإثنين 15 يونيو 2015م الموافق 28 شعبان 1436هـ

مايكل هايزر: «أنا رجل هادئ. أنا فقط أصنع الفن»

العمل على الخامات العملاقة للأرض...

مايكل هايزر
مايكل هايزر

«أنا فقط أصنع الفن»، وقبلها قال: «أنا رجل هادئ»، بعض كلمات جاءت على لسان الفنان الأميركي المعاصر والمتخصص في المنحوتات على نطاق واسع وبما عُرف بـ «فن الأرض»، وصاحب مدرسة تكاد تكون حكْراً عليه من حيث تأسيس وتفعيل الأعمال المذهلة والفارقة والضخمة التي عرف بها.

ربما في حدود المعنيين بالمنحوتات، وقليل منهم من ينصبُّ اهتمامه على الفن التشكيلي، على اختلاف تياراته واتجاهاته، من يعرف هايزر، ولابد أن تكون المعرفة المباشرة من خلال ما اشتُهر به من أعمال فيها من الجرأة وإصابة مُشاهدها بالذهول.

في حوار سريع أجراه جيسون فاراغو، من صحيفة «الغارديان»، يوم الاثنين (18 مايو/ أيار 2015)، ورد فيه الكثير من الإلماعات والإضاءات التي تكشف عن حساسية فنية عميقة، مع عفوية في التناول. وكما قال في الحوار، إنه يريد أن يخلق فناً في أرض لن يمسها التدهور؛ بل ليدوم ذلك الفن لأجيال قادمة بديمومة تلك الأرض.

تحدث عن تاريخ بلومبرغ، وارتباط فنه بها، قال عنها «تجاوزت هذه المدينة كونها تتحدَّد في حفنة من المباني الصناعية ومباني المكاتب، إلى مكان يُمكنك العيش فيه. تصل إلى ما يشبه الصفيحة، وتلك هي الطريقة التي تم بها بناء (تيتانيك)! هذا شيء عظيم بالنسبة إلى تاريخ المدينة. الأميركيون يكبرون بشكل تأملي للمرة الأولى، وليس من المعتاد أن يكونوا رواداً في ذلك. هنالك شعور بالتاريخ الآن».

تحَّدت أيضاً عن نيفادا تلك التي لازمها لخمسة عقود، وحيث يقيم وله منزل هناك، وتركّزت معظم أعماله فيها ومن خاماتها وبيئتها.

الأعمال التي يشتغل عليها يستغرق بعضها سنوات. أول ما يلفت انتباه من يقف عليها، تلك القدرة على الاستدراج، والاصابة بالدهشة. تصعق بكفاءة عالية. أعمال ضخمة ربما لا تستوعبها سوى المتاحف الكبرى. ليست نُصُباً ومنحوتات فحسب، إنها أكبر من ذلك وأعمق بكثير. الصخور الهائلة التي يتم تعليقها على هياكل فولاذية، والثقوب العملاقة التي يحدثها في الأرض، بحيث تأخذ أشكالاً وهيئات تقترب أحياناً من عظام الترقوة أو الحلقات.

في المدينة التي يعمل عليها، وتكاد تشرف على الانتهاء، ثمة إعادة ترسيم لحدود الأرض تُحْدثه: «الجدران والسواتر، والأشكال الهندسية العملاقة، كل ذلك دخل في حال من المحادثة والتناغم مع المناظر الطبيعية شبه النهائية»، بحسب تعبيره. هنا الجانب المهم من الحوار، مع ضوء على سيرته بتصرُّف.

فن الأرض

اللقاء بالنحَّات ورائد «فن الأرض»، مايكل هايزر، عادة ما ينطوي على رحلة شاقَّة عبْر الصحراء. ليس لديَّ سوى اتخاذ المترو للوصول إليه.

أبدع هايزر أعمالاً فنية على نطاق واسع في «Garden Valley» بنيفادا، جُلُّها من الحجر والأرض. واحدة من تلك الأعمال خصوصاً، تُعرف بالمدينة الوقورة، احتلت اهتمامه منذ عقود. في هذا الشهر (مايو)، ستكون المرة الأولى، ومنذ 25 عاماً، يعود هايزر إلى نيويورك: المدينة التي غادرها في أواخر ستينات القرن الماضي، عندما نمتْ أعماله ونضجت في غرف السطوح، وصالات العرض، ونما طموحه معها. يقدِّم هايزر (70 عاماً)، معرضاً جديداً في «»Gagosian. المعرض بدأ في العام 1979 في لوس انجليس. وفي العام 1985، انتقل إلى نيويورك. وبحلول العام 1986، فتح المعرض فضاء ثانياً غرب شارع 23 في مدينة مانهاتن، ليعرض Gagosian أعمالاً من الفن المعاصر؛ فضلاً عن عرض أعمال من تيار الفن الحديث، والذي يتميَّز بعملين صخريين هائلين مُعلَّقين على هياكل فولاذية، وغرفة مليئة بمنحوتات من الصُلب تميل في أشكالها إلى عظام الترقوة، والحلقات.

18 طناً لصخرة

تُشعرك الهياكل بداية النظر إليها بأنها مُخيِّبة للآمال قليلاً إذا كنت تتوقع كتلة وحجم منحوتات كتلك التي يشتغل عليها هايزر عادة في الهواء الطلق. ولكن عندما تبدأ بالمرور في المعرض، سيتضح لك أنه غامض، فيما الأشكال تبعث رؤية ربما تتبدَّى أهميتها في الهيراطيقية التي تعتمدها في التكوينات (بذلك النوع من الكتابة المصرية القديمة التي كُتبت برموز مُبسَّطة للرموز الهيروغليفية الأصلية). أما بالنسبة إلى الصخور، وأكبرها تزن 18 طناً (أكثر من 16 ألف كيلوغراماً)، فهي تتأرجح في صناديق كما لو كانت خفيفة مثل الهواء.

سألته عمَّا إذا تفاجأ بعد مغادرته مدينة بلومبرغ، المدينة النابضة بالحياة تلك التي غادرها؛ ليس باعتبارها مُثيرة وهيِّنة، فأكَّد لي ذلك بالقول: «تجاوزت هذه المدينة كونها تتحدَّد في حفنة من المباني الصناعية، ومباني المكاتب إلى مكان يُمكنك العيش فيه. هي بمثابة خط حاسم اليوم. تصل إلى ما يشبه الصفيحة، وتلك هي الطريقة التي تم بها بناء (تيتانيك)! هذا شيء عظيم بالنسبة إلى تاريخ المدينة. الأميركيون يكبرون بشكل تأمُّلي للمرة الأولى، وليس من المعتاد أن يكونوا رواداً في ذلك. هنالك شعور بالتاريخ الآن، هذا ما أعتقده».

بتفكير فذٍّ، وليس حريصاً على الحديث القليل والعابر، أجرى هايزر عدداً قليلاً جداً من المقابلات على مدى خمسة عقود من المهنة. يبدو شاحباً، عندما أقوم بسحب جهاز التسجيل. «التسجيل غير مسموح به»، كما قال لي. كما إنه غير حريص على مناقشة ما يُوحي بأنه فنان؛ في الوقت الذي هو غير حريص على الدخول في حالة وصفية لعمله. لذلك بدأنا في الحديث عن عملية صنع تلك الأشكال الثقيلة التي تبعث على الذهول. التقنية الشاقة، تلك التي تتطلَّب العمل على صخرة جديدة؛ وسرعان ما ينفتح على الحديث، متناولاً الطاقم الذي يعمل معه، ومجتمعه في نيفادا ذلك الذي فيه من الدفء ما يُكذِّب السمعة التي تروج عنه.

عام ونصف للعمل على صخرة

قال هايزر: «تحتاج إلى رجل يشتغل في مجال التعدين، حين ترغب في تحويل صخرة تزن 18 طناً إلى عمل فني. لذلك كلما كنتُ في حاجة إلى إحداث حفرة بالمثقاب، أطلب رجلاً أعرف أن باستطاعته التعامل مع مسارات من الفراغ. الطاقم الذي ساعد على بناء هذا العرض بذل حصيلة جهد وصل إلى عام ونصف، ومن الطبيعي أن يقوم الطاقم بنقل المواد الصلبة والنفايات التي يخلِّفها العمل، وهو عمل ضخم؛ ولكن في فصل الشتاء، لحسن حظ الجميع، لدينا الكثير من الوقت الضائع. إذ يمكن أن تصل درجة الحرارة إلى ما بين 45 و 50 درجة تحت الصفر. هؤلاء الشبَّان أستطيع أن أعتمد عليهم. وأنا في حاجة إليهم، وكذلك الأمر بالنسبة لهم».

أهمية فن هايزر، هو بقدر أهمية حياته، لا يمكنك فصله عن مشهد نيفادا في المناطق الريفية؛ حيث شيَّد منزله هناك منذ قرابة نصف قرن.

بعد مرحلة الطفولة في بيركلي والعمل في وقت مبكّر في نيويورك، عاد إلى الغرب الأميركي في أواخر ستينيات القرن الماضي؛ حيث بدأ صنع أعمال فنية على نطاق لم يسبق له مثيل. ومثل غيره من فناني جيله: جيمس توريل، أليس آيكوك، روبرت سميثسون، والتر دي ماريا، رفض هايزر إقامة معرض للمناظر الطبيعية، وبدأ القيام بمشاريع ضخمة مباشرة في الأرض وعليها.

الأهم من بين كل تلك الأمثلة المبكرة من «فن الأرض» الذي اضطلع به هايزر، هو عمله «سلبي مزدوج» في الفترة ما بين 1969 و 1970، والذي يتكوَّن من اثنين من الشقوق العميقة المنعزلة والحادَّة في نيفادا. كل واحد منهما يمتد بطول 1500 قدم (450 متراً)، وعلى رغم أنه يمكنك تمييزها من الجو؛ أو في هذه الأيام، من خلال «غوغل إيرث»؛ لكن على مستوى الأرض تحتاج إلى اختبارهما بالمعاينة، بدلاً من الاكتفاء بلمحة أو نظر عابر عليهما. العمل لا يزال هناك، على رغم أنه بدأ في التلاشي بفعل الزمن».

الأعمال المقاومة للطقس

«قبل سنوات، عندما لم يكن لديَّ أي مال، وقمت بصنع عمل فني، ربما لم يكن باستطاعتي جعله أكثر مقاومة للطقس. ومع ذلك قمت به، مُستغلاً الموقع. أنا لم أكن فناناً بيئياً يجعل الأشياء من الطحالب والأوراق عملاً فنياً. لكنني كنت أعرف أن بعض الأشياء تتبدَّد، وقمت بأخذ العوامل المرتبطة بالبيئة في العمل».

في نهاية المطاف، قال إنه يريد أن يخلق فناً في أرض لن تتدهور؛ بل ليدوم لأجيال قادمة بديمومة الأرض.

في العام 1972، قال إنه شَرَع في إنشاء مدينة، لا تُسبر أغوارها... طموحة تتشكَّل من المنحوتات التجريدية في صحراء نيفادا. حيث عمله «سلبي مُزدوج» أزال كتلة من الأرض، بحيث أعادت المدينة ترسيم حدود الأرض: الجدران والسواتر، والأشكال الهندسية العملاقة، كل ذلك دخل في حال من المحادثة والتناغم مع المناظر الطبيعية شبه النهائية. كلَّفت المدينة الملايين من الدولارات لتنفيذها؛ علاوة على الاعتبارات المالية والسياسية، وقد هُدِّدت الأراضي المحيطة بالمدينة بسبب التنقيب عن النفط، واحتمال قيام خط للسكك الحديد لنقل النفايات النووية، كل ذلك كان سبباً في تأخير الانتهاء منها مراراً وتكراراً.

وليس من قبيل المبالغة، أن يُطلق على المدينة بأنها المهمّة الوحيدة التي يتم تعهُّدها، بتلك التفاصيل التي تحويها من قبل فنان أميركي ولأكثر من أي وقت مضى. الآن، قد تكون في طريقها إلى الانتهاء. «لقد انتهى نحو 98 في المئة منها. والأشياء المهمة إما أنه تم إنجازها، أو يجري القيام بها هذا الصيف» بحسب تأكيد هايزر.

وقال: «يتبقَّى لنا عمل السياج والبوابات التي يجب تثبيتها. لديَّ التزام تجاه الناس بألاَّ يتم تحويل هذا العمل إلى مدينة ملاهٍ متنقلة. أنا فنان؛ أريد أن أنهي هذا العمل قبل أن يظهر أي شخص آخر للقيام بما يوازيه. لا أحد يتسبَّب لي بالمتاعب».

لقد تمَّت مساعدته بما لا يقاس، كما يقول، من قبل مدير متحف مقاطعة لوس أنجليس للفنون مايكل غوفان، وبحسب عبارة هايزر فإنه «شريك حقيقي»، فهو الشخص الذي رعا المدينة لسنوات بالدعم اللوجستي والمالي وإزالة العقبات. من جهته، تقدَّم السيناتور عن نيفادا هاري ريد بالتماس إلى إدارة أوباما كي يُعلَن محيط المدينة باعتباره نصباً تذكارياً وطنياً.

ضوء على هايزر

يُذكر أن مايكل هايزر، فنان أميركي معاصر مُتخصص في المنحوتات على نطاق واسع؛ وخصوصاً في ما يكاد يكون مدرسة بما عُرف بـ «فن الأرض»، أحد اساليبه الرئيسية في الاشتغال على خامات الأرض العملاقة.

ولد في بيركلي بكاليفورنيا، في العام 1944، وهو ابن الأستاذ وعالم الآثار المتميز بجامعة كاليفورنيا، بيركلي روبرت هايزر. قضى سنة في المدرسة الثانوية بفرنسا. التحق بمعهد سان فرانسيسكو للفنون في الفترة ما بين 1963 - 1964، وانتقل إلى مدينة نيويورك في العام 1966؛ حيث اتخذ من دور علوي (السطوح) على شارع ميرسر في منطقة سوهو، مكاناً لإنتاج أعمال تقليدية ولوحات ومنحوتات على نطاق صغير.

في أواخر ستينات القرن الماضي، غادر هايزر مدينة نيويورك باتجاه صحراء كاليفورنيا ونيفادا؛ حيث بدأ في إنتاج أعمال واسعة النطاق، والتي لا يمكن أن تتلاءم في إعدادها إلا لمتحف، ربما باستثناء أن تأخذ وضعها في الصور الفوتوغرافية.

وفي العام 1967، أكمل عمله «شمال، شرق، جنوب، غرب 1»، والذي اشتمل على عدَّة ثقوب قام بحفرها في سلسلة جبال سييرا بنيفادا، والثقوب هي أقرب إلى الأشكال في لوحاته. وفي العام 1969، بدأ هايزر العمل على سلسلة «لوحات الصبغ البدائي»، التي انتشرت من خلال أكياس كبيرة مشرقة مليئة بمسحوق الجير الأبيض وأصباغ الأنيلين، في تركيز على المناظر الطبيعية الصحراوية الجافة، التي تغطي مناطق واسعة، بحيث عندما ينظر إليها من الجو، تتخذ أشكالاً غير متبلورة، وأشكالاً عضوية. وفي وقت لاحق من ذلك العام، بدأ هايزر إبداع منحوتات عمله الموسوم بـ «سلبي» عن طريق النحت من خلال التقطيع الحاد والمباشر في الأرض. يعيش هايزر ويعمل حالياً في هيكو بنيفادا.

مسمار صخري عملاق
مسمار صخري عملاق
تتسم أعمال هايزر بمباشرة المادة الخام الأولى للأرض
تتسم أعمال هايزر بمباشرة المادة الخام الأولى للأرض
مكعبات مليئة بمسحوق الجير وأصباغ الأنيلين
مكعبات مليئة بمسحوق الجير وأصباغ الأنيلين
أطفال يمشون من تحت صخرة عملاقة في متحف مقاطعة لوس أنجليس للفن
أطفال يمشون من تحت صخرة عملاقة في متحف مقاطعة لوس أنجليس للفن

العدد 4665 - الإثنين 15 يونيو 2015م الموافق 28 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً