العدد 4685 - الأحد 05 يوليو 2015م الموافق 18 رمضان 1436هـ

الكويت... سؤال الموت وردّ الحياة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لا يسعني إلاَّ أن أستهلّ القول بهاتين الكلمتيْن: شكراً للكويت. فما عداهما يُصبح نافلة أمام واجب قولهما بعدما شاهدناه بعد التفجير الإرهابي على مسجد الإمام الصادق قبل جمعتين. في أحيان كثيرة، يطغى الألم على البَلْسَم، والبَلْسَم على الصبر، والصبر على الاحتساب في المصائب الكبيرة. ولكن في أحيان أخرى يقع العكس. يتقدَّم الاحتساب على الصبر، ويتقدّم الصبر على البَلْسَم، ويتقدم البَلْسَم على الألم، والعِلَّة في ذلك هو في إدارة المصاب بالصواب.

الكويت استطاعت أن تفعل ذلك بجدارة خلال مصاب التفجير الآثم في بيت من بيوت الله بالصوابر. أن تعكس كل شيء في جريمة إماتة أبنائها ظلماً وبغير حق؛ لأنها استطاعت أن تُدير مصابها بجدارة وحكمة جعلت الجميع ينظر لها بإكبار. زاوية الارتكاز كانت التفسير الأمثل للتعاضد الوطني. فقد وُظِّفَ كل شيء لأن لا يكتشف الكويتيون في دواخلهم سوى كويتيتهم التي يحملها السُّني والشيعي والبدوي والحضري، والعلماني والإسلامي وكل لون موجود.

كل مَنْ راقَبَ المشهد الكويتي رأى أن هناك هيمنة للصورة المتراس. الصورة بشكلها البصري الذي يجعل المرء يتفاعل ويثور ويحب ويغضب منها. يافطات رحبة ملأت الأمكنة من أدنى مكان في الكويت حتى قمة الأبراج الثلاثة كي لا يختنق أحد بانتماءات فرعية. وصل سمو أمير الكويت إلى موقع التفجير حتى قبل تأهيل مسرح الجريمة. وفتح السُّنة بيوتهم للعزاء، وانبرى الإعلام ورجاله في استعادة الأجواء باتجاه الدفء ضد خطاب الكراهية، واستضِيف السياسيون والاقتصاديون ورجال الدين والفن حيث تحدّثوا بلغة جامعة واضحة وصريحة بعيدة عن أي تأويل أو تفسير آخر.

شاهدنا القطاع الخاص من بنوك وشركات اتصال وغيرها كيف تدفع ملايين الدولارات من أجل دعايات مدفوعة الأجر تحارب التفرقة المذهبية والإرهاب القائم عليها، وتعيد إنتاج الوحدة الوطنية بطريقة جميلة. شاهدنا دموعاً تسقط بحرارة ومن غير ترتيبات درامية سابقة. رأينا جموعاً غفيرة من الكويتيين تتداعى إلى المقبرة لحظة التشييع، وإلى المسجد الكبير لحظة العزاء.

لقد وجد الشيعة وأصحاب المصاب أنفسهم محاطين بأحضان، ومسنودين بأكتاف، ومُبلّلين بدموع، تُمسِك بهم الأيدي من كل مكان، لذلك لم يجدوا أنفسهم مُضطرين للتعبير عن مأساتهم أو التنفيس عن حزنهم على هيئة المظلوم والمكلوم والمنسي الذي لا يتلفت إليه أحد، فقد جاءهم مَنْ يقوم عنهم بذلك وزيادة. بل إن أغلب الأصوات التي رفعت مأساتهم ومصابهم ودعت لعقاب عدوهم وظالمهم، كانت من خارج طائفتهم. وكان ذلك من أجمل صور التآزر.

كنا في السابق نقرأ في كتب التاريخ أن خندق سابور ذي الأكتاف قبل أزيد من 1600 عام قد بُنِيَ ليحمي السواد من الغزو، وكان ممتداً حتى تخوم خليج كاظمة شمال الكويت. واليوم تبيَّن لنا أن خندق الكويت الأول كان أمضى من أي خندق سابق: إنه خندق التعاضد الذي سيحميها من الشرور الطائفية. الخندق الذي عرَّى مَنْ كانوا في السابق يتلاعبون بالخطاب وبصكوك التكفير، حيث وجدناهم لحظة المصاب معزولين وكأنهم أجسام غريبة ينفر منها الجميع.

من هنا، يجب أن لا يستغرب أحد لماذا نجحت الكويت في امتصاص الصدمة. فحين تتصرف الدولة كأمٍّ لجميع أبنائها، يشعر الأبناء أنهم ينتسبون إليها، فالمسألة متعلقة بالسلوك. وإن الحب والإسناد والدعم ليس لقلقة لسان بقدر ما هو حركة دائمة تجعل الآخر يشعر بها وبوهجها. كثيرٌ من الدول تتصنّع الوحدة، وتُمثِّل دور الراعي للجميع، لكن سلوكها ينسف كل ما تدّعيه، وبالتالي لا تجد مَنْ يصدقها أو يطمئن لها أو حتى يدير بالاً لما تقوله.

فالناس لا يعنيها أصل الحاكم وإلى أيّ دين أو مذهب أو فكر أو بطن ينتمي، بل مطلبها العدل لا أكثر. هذا الأمر رأيناه في الملاذ الذي اتخذه نبي الإسلام محمد (ص) في بداية الدعوة، حين ذهب الخائفون من المؤمنين به إلى حاكم مسيحي لكنه عادل، حيث النجاشي في الحبشة، الذي كان للمسلمين بمثابة السَّند والظل بعد أن هاموا على وجوههم في البيداء من ظلم بني جلدتهم الذين كانوا في غاية الظلم لهم. ولم يرتضِ ذلك الحاكم النصراني «العادل» لحظة أن يغدر بهم، رغم فارق الدِّين والقومية، بل ورغم لغة المصالح التي كانت تجمع الدول والتجمعات حينها.

أذكر هنا ما أورده صاحب «بهجة المحافل» من أن عمراً بن أميّة الضّمريّ الذي كان رسولاً من عند النبي (ص) قَدِمَ إلى النجاشي ليجهّز إليه من عنده من مهاجرة «الحبشة»، فلما خرج أشار أحدهم على النجاشي قتله فغضب ورفض. ولما مات هذا الحاكم العادل في رجب سنة تسع للهجرة قال النبي (ص): «مات اليوم رجلٌ صالحٌ فقوموا فصلّوا على أخيكم أصحمة» بن أبجر. ويُقال «صلى عليه بالبقيع»، كما جاء في «البداية والنهاية» لابن كثير نقلاً عن البخاري.

مرةً أخرى تحيةً للكويت، قيادةً وحكومة. وتحيةً للسياسيين والاقتصاديين والإعلاميين والفنانين والرياضيين الكويتيين لوقفتهم التي باتت درساً وطنياً وعظةً للآخرين. وقفة هوّنت من المصاب وكفكفت من الدمع. وحفظ الله الكويت الشقيقة من كل مكروه.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4685 - الأحد 05 يوليو 2015م الموافق 18 رمضان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 1:11 م

      تحية اجلال واكبار

      تحية لجميع الكويتيين الذين وقفوا صفا واحدا في وجه المتربصين.

    • زائر 4 | 6:25 ص

      شكرا للكويت والكويتين حقا

      الإنصاف يقتضي أن يشيد المرء بكافة الإجراءات التي قامت به الحكومة الكويتية وما قام به الكويتيون في الفترة التي أعقبت التفجير الإرهابي

    • زائر 3 | 5:20 ص

      مبدع

      حقا كان المجتمع الكويتي بكل أطيافه مثالا يحتذى به في التلاحم والأخوة
      فلهم التحية والتقدير
      و نسأل الله العلي القدير أن يمن على مرضى القلوب بالشفاء

    • زائر 1 | 1:36 ص

      باختصار

      إليك أعني فاسمعي ياجارة

اقرأ ايضاً