العدد 4697 - الجمعة 17 يوليو 2015م الموافق 01 شوال 1436هـ

البديهة عند العرب والحضور بكل معانيه

سوسن دهنيم Sawsan.Dahneem [at] alwasatnews.com

الذين يتمتعون بالبديهة، يتمتعون بخيرٍ كثيرٍ، فهي تكشف عن فطنةٍ وذكاءٍ حادٍّ ووقّاد. كما تكشف عن استيعابٍ وإلمامٍ بموضوع وطرف التناول. تلك السرعة تكشف أول ما تكشف عن صفاء الذهن، وتلك مسألة مهمة. مشوّشو الفكر لا تحضرهم البديهة بطبيعة حالتهم؛ كونهم يهيمون في أكثر من موضوع وموضوع أيضاً.

والبديهة في تعريفٍ قريبٍ لها هي الحضور. وتترتب على تلك البديهة في كثير من الأحيان نتائج قد تنقذ صاحبها من مواقف لا ينفع معها التلكؤ والتردد والبحث عن المخرج.

كان العرب حتى وقت قريب يتمتعون بتلك الموهبة الملفتة. وكلما ذهبت بعيداً في الزمن، ستجد البديهة تلك في أروع صورها، وتنتج عنها حكمة تأسر سامعها ومتلقيها، وخصوصاً في الأوضاع والمواقف الدقيقة والحرجة.

وأجمل البديهة، والحضور الذي نتناوله هنا ذلك الممزوج بالنكتة والطرْفة بحكم وقعه الجميل والخفيف على النفس، وكان العرب أبرز الأمم في هذا اللون من البديهة التي ينتج عنها حكم على صاحبها بأنه نبيه وصاحب حضور، بتعبيرنا المعاصر. صاحب حضور ليس في الطلّة وقتها، بل في استحواذه على اهتمام وانتباه مجالسيه.

ومن قصص الظرفاء عند العرب، ما يروونه عن قصة تجتمع فيها البديهة والطرفة، أن أعرابياً ولّي اليمن، فجمع يهودها فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ قالوا: قتلناه وصلبناه، فقال: لا تخرجون من السجن حتى تؤدُّوا ديته.

وإن بدت بعض حكايات العرب قديماً مشوبة بالمبالغة؛ إلا أن كثيراً منها حدث وتواتر في عدد من المصادر التاريخية، وإن اختلفت صيغ الروايات من كاتب أو مؤرخ وآخر، إلا أن ذلك لا ينفي بديهة العرب، ساعدهم على ذلك بساطة بيئتهم، وانبساط الأرض والمدى أمامهم، ومحدودية المشاغل وتعقيد الحياة. كل ذلك يسهم مساهمة كبيرة في استحواذ العقل والذهن على مساحته الكافية التي تبدع، ويصدر عنه ما يذهل ويدعو إلى العجب أحياناً.

وإلحاقاً بقصص الظرفاء عند العرب وبديهتهم الحاضرة في الرد ممزوجاً بالظرفة والنكتة، أنه قيل لأعرابي على مائدة بعض الخلفاء، وقد حضر فالوذج، وهو يأكل منه، يا هذا، إنه لم يشبع منه أحد إلا مات، فأمسك يده، ثم ضرب بالخمس وقال: استوصوا بعيالي خيراً. (والفالوذج أو الفالوذ، حلوى هُلاميّة رجراجة، تُصنع من النشا والماء والسكّر أو العسل وموادّ أخرى).

ومن مواضع الظرف والنكتة إلى مواضع تجلّي الحكمة التي تصدر عن بعض الأعراب، وما تتفتق عنه بديهتهم من جميل الرد وحسنه، أن ربيعة الرأي تكلّم يوماً فأكثر - بمعنى أطنب - فكأنّ العُجب (الغرور) داخَلَه، وكان أعرابي إلى جنبه، فأقبل على الأعرابي فقال: ما تعدُّن البلاغة يا أعرابي؟ فقال: قلّة الكلام، وإيجاز الصواب، فقال: فما تعدُّن العيَّ؟ أي العجز عن التعبير، قال: ما كنت فيه منذ اليوم، فكأنما ألقمه حجراً.

وربيعة الرأي، هو ربيعة بن فروخ التيمي، مولى أبي عثمان المدني، إمام حافظ، وفقيه مجتهد كنيته أبو سليمان، وُلد في القرن الأول الهجري في المدينة المنورة.

إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"

العدد 4697 - الجمعة 17 يوليو 2015م الموافق 01 شوال 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً