العدد 4738 - الخميس 27 أغسطس 2015م الموافق 13 ذي القعدة 1436هـ

إفشال الثورات... الأسلوب واحد

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

من أجل تشويه القيمة التاريخية لثورات وحراكات الربيع العربي، وما تختزنه في شعاراتها التي رددتها حناجر الملايين من آمال وأهداف للمستقبل، تتفنن بعض قوى المصالح والمنافع في القراءات الخاطئة لما جرى وفي إلصاق التهم والنعوت لما حدث.

من هذه التهم الباطلة أن تلك الحراكات وما أعقبها من أحداث وفواجع، قد قادت المجتمعات العربية من حالة الهدوء والسلم الأهلي والتعايش المشترك، إلى حالات انقسام المجتمعات على نفسها ودخولها في فوضى أمنية وسياسية.

هذه التهم تذكرنا بتهم مماثلة قيلت عبر تاريخنا وتاريخ الآخرين. قالتها قريش لنبي الإسلام (ص) عندما نادى بمساواة أغنياء ووجهاء القوم مع فقراء وبسطاء القوم في الكرامة والمكانة والحقوق الإنسانية. كان ذلك بالطبع نقلاً لمجتمع مكة من سلم أهلي كاذب، مفروض بالعصا وبسلطة المال وبادعاءات تاريخية خادعة، إلى مجتمع العدل والقسط والميزان والتساوي أمام خالق الكون ورسول الدعوة.

فهل كان يعقل أن تحدث تلك النقلة الثورية الكبري دون أن يدخل المجتمع المكي في انقسام كبير بين من يؤمنون بالثورة الجديدة ويعاضدون قائدها وبين من يعارضونها حمايةً لمصالحهم وامتيازاتهم؟

نفس الصورة، ونفس الانقسامات المجتمعية، والتهم أيضاً، كيلت ورفعت بصوت عالٍ، واجهها حكم الخليفة عمر بن الخطاب والإمام علي بن أبي طالب والخليفة عمر بن عبدالعزيز، لأن الثلاثة تعاملوا مع دين الإسلام كثورة اجتماعية كبرى تعمل من أجل إحداث تغييرات عميقة في مجتمعات البشر، وهو أمر لايقبله أصحاب المصالح والامتيازات.

والأمر كذلك حدث للمجتمع الذي فجّر فيه النبي عيسى ابن مريم (ع) ثورته الكبرى، وللمجتمع الفرنسي إبان وبعد ثورته الإنسانية المبهرة، وللمجتمع الأميركي عندما قاد الرئيس أبراهام لنكولن ثورته الشهيرة من أجل تحرير العبيد.

إن جميع تلك الثورات والتغييرات التي قادها مثل أولئك الأنبياء العظام والقادة الكبار، ما كان لها أن تنجح أو تبقى في ضمير البشرية كقيم أساسية وكدروس وعبر، لو أن أصحابها اكتفوا بإلقاء المواعظ والدروس النظرية.

لقد كان لابد من تجييش أجزاء من المجتمعات لتدخل في صدام مباشر مع أجزاء أخرى لتصبح الثورات ثورات تغيير ونقل من حال فاسد ظالم سابق إلى حال أكثر عدلاً في أمور السياسة والاقتصاد والاجتماع.

لهذا، فإن الذين يشيعون التهمة بشأن ثورات وحراكات الربيع العربي، تهمة إدخال المجتمعات العربية الحالية في انقسامات وصراعات، إما أنهم لم يدرسوا تاريخ الثورات والحراكات التغييرية الكبرى في حياة البشرية عبر تاريخها الطويل، وإما أنهم يريدون أن يجعلوا من الربيع العربي مهرجان خطابات عبثية لا تغير ولا تبدل شيئاً في حياة العرب البائسة المتخلفة الرازحة منذ قرون تحت نير الاستبداد الداخلي والسيطرة الخارجية.

لكن، هناك جانب مهم يجب أن يتنبه له شباب وشابات الربيع العربي، من المستمرين في بذل الجهود والتضحيات لإنجاح ذلك الربيع رغم المصاعب والمصائب، هو محاولات جهات المصالح والامتيازات حرف الانقسامات المجتمعية من انقسامات حول أهداف الثورات الكبرى الضرورية العادلة، إلى انقسامات حول أمور فرعية لا دخل لها بالثورات ولا بالتغيرات التي تهدف الثورات إحداثها.

إن محاولات أصحاب المصالح والامتيازات تمثلت عبر التاريخ العربي وتاريخ الآخرين بدس الجواسيس والخدم القابلين للشراء بالمال والمناصب، دس هؤلاء بين صفوف الثوار ومناصريهم لجرف ثورتهم عن أهدافها الأصلية إلى أهداف فرعية، وإشغال الناس بالتالي بالدخول في صراعات فرعية.

لقد فعلها كبار قريش، وفعلها الأمويون وغيرهم، عندما أدخلوا المجتمعات العربية في مجادلات سفسطائية حول مقارنة سخيفة في الفضل والمنزلة الدينية بين الخلفاء الراشدين الأربعة، فأشغلوا العامة بذلك الجدل العبثي، وذلك حتى يتفرغ الطامعون في الحكم والمال للحصول على ما يبتغون بعيداً عن رقابة الناس المنشغلين بتلك السفسطة.

كل الثورات تعرضت لمثل تلك المحاولات الخبيثة من خلال دس الجواسيس والمخبرين والمتحمسين الكاذبين، حتى تضيع الثورات في المتاهات والمجادلات البيزنطية.

ثورات وحراكات الربيع العربي تتعرّض الآن لمثل ذلك الاختراق. المطلوب نسيان شعارات الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية واستبدالها بشعارات الصراعات الطائفية المبتذلة بين السنة والشيعة وأصحاب بقية المذاهب، وبشعارات الصراعات القطرية الضيقة والحزبية المتشنجة الاستئصالية، وبالطبع أخيراً شعارات التفاخر القبلية.

قبائل وطوائف العرب في ماضيهم المأساوي يحل محلهم اليوم أصحاب المال العرب وعساكرهم وطائفيوهم والمخابرات المحلية والدولية. في الماضي كان الهدف إفشال ثورة محمد بن عبدالله (ص) العظيمة، والآن إفشال ثورات وحراكات شباب وشابات الأمة.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 4738 - الخميس 27 أغسطس 2015م الموافق 13 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 17 | 10:05 ص

      الأكثر حكمة علي بن محمد فخرو

      الأكثر حكمة اليوم في هذا البلد هو هذا الرجل أبن نصف الدنيا ، لازال مع كل ما يمثل من تاريخ يمثل خط الرشد والأستقامة الفكرية والمسلكية في العمل العام السياسي والاجتماعي ، وهذا قد يغيض من فشل في الادارة ...الذين أخذوا البلاد من فتنة إلى أخرى ومن فوضى عبثية إلى أخرى

    • زائر 14 | 6:38 ص

      أعطوني ثورة واحدة ناجحة.

      لا يوجد ثورات ناجحة ... كلها تنتهي بالمآسي و المصائب.

    • زائر 19 زائر 14 | 10:40 ص

      ثورة الإمام الحسين عليه السلام منتصرة مدا الأزمان

      ما رأيك في ثورة الإمام الحسين عليه السلام.

    • زائر 13 | 6:06 ص

      التاريخ يعيد نفسه

      و من يتمسك بالمبدأ و يضحى من أجل خير المجتمع هو الذي يصبح مخلدا

    • زائر 12 | 4:46 ص

      سلمت يا دكتور

      نعم..مقال رائع من شخص اروع
      هي هي منذ امد طويل
      نفس التهم لبقاء نفس الطغات

    • زائر 11 | 4:16 ص

      احم احم

      كل هالحر واحنا للحين في الربيع ؟ يعني لو ايجي الصيف ننشوي على الفحم

    • زائر 10 | 3:53 ص

      أصبت

      مقال موفق وقد وضعت اليد على الجرح لا لأن الحريصون على الأوطان لايستطيعون فعل ذلك ولكنهم مكمموا الأفواه والأقلام من قبل الأنظمة

    • زائر 8 | 3:39 ص

      ايران و اسرائيل

      ايران و اسرائيل هما سبب بلاوي المنطقة

    • زائر 9 زائر 8 | 3:43 ص

      ايران واسرائل؟ ليش اضفت اسرائيل بنت العم

      هذه الكلاوات والقاء تبعات الاخطاء العربية على الآخرين لن تنقذ الاوطان.
      الحكومات العربية هي السبب ولا فائدة من تغطية الوجه امام العاصفة

    • زائر 16 زائر 8 | 8:57 ص

      هذا هو منطق أولياء الشيطان

      اذا نزلت وحيدا في حفرتك يوم تلاقي ربك وسألك الملكان الموكلان بك وتذرعت بأن الشيطان هو من أغواك فهل هذا عذر سيقبل منك ام ستحاسب بما جنيت على نفسك دعك من حجج التعابه .نفسك هي السبب .

    • زائر 7 | 3:00 ص

      قمعت

      مع الأسف الشديد قمعت وصودرت ثورات الربيع العربي وبأموالنا وشبابنا وأفكارنا واستبدادنا ولصالح عدونا اللذي خرج منها كالشعره من العجينه آه آه آه والى يومنا هذا مازلنا في سباتنا.

    • زائر 6 | 2:04 ص

      جمعة مباركه

      نحن في زمان بل في أمة الحق فيهاباطل والباطل فيها
      حق والجهربالحق جريمة والصمت عن الباطل نعمة .

    • زائر 4 | 12:36 ص

      صباح الخير

      كلام في الصميم عبر التاريخ من آدم عليه السلام وقصه قابيل وهابيل وخطاب الملائكة لرب العزة اتجعل فيها من يسفك الدم ونحن نسبح بحمدك وملاحقة أهل بيت النبوة عليهم السلام اما قتلهم أو رميهم في السجون من عصر الاموين والعباسين إلى عصر المومون إذ قال قولته المشهوره لابنه أن نازعتني على هادا لقطعت رأسك وهي الخلافه

    • زائر 3 | 12:27 ص

      افشال الثورات مردوده سلبي جدا

      اذا بلغت الشعوب سن رشدها لتشارك في قيادة بلدها ثم قمعت وكسرت شوكتها فان لذلك خطر كبير قادم

    • زائر 2 | 11:31 م

      كلام من ذهب

      مشكور يا دكتور والكلام في الصميم وانت على الحق ولاكن من يسمع اليوم الى الشباب او الى المقالات المعتدلة

    • زائر 1 | 11:07 م

      مقولة سجين

      تعالوا نبني البلد موتعطيتي منصب وقال يوسف السجن أحب إلي مما تدعونني إليه وقد سجن

    • زائر 18 زائر 1 | 10:35 ص

      شيخ علي سلمان

      الله يفرج عنك وعن المساجين يا الله.

اقرأ ايضاً