العدد 4744 - الأربعاء 02 سبتمبر 2015م الموافق 19 ذي القعدة 1436هـ

رحيل طبيب الأعصاب... «شاعر الطب» أوليفر ساكس عن 82 عاماً

غلاف «الرجل الذي حسب زوجته قبَّعة» - «أريد ساقاً أقف عليها»
غلاف «الرجل الذي حسب زوجته قبَّعة» - «أريد ساقاً أقف عليها»

توفي يوم الأحد الماضي (30 أغسطس/ آب 2015)، طبيب الأعصاب؛ أو كما أطلقت عليه صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، لقب «شاعر الطب»، أوليفر ساكس، عن 82 عاماً. ساكس عُرف بدراسته لتعقيدات الدماغ البشري، وكتب ببلاغة حولها، تمثلت في كتب مثل: «الإيقاظ» (1973)، «الصداع النصفي» (1970)، «أريد ساقاً أقف عليها» (1984)، «الرجل الذي حسب زوجته قبَّعة» (1985)، «رؤية الأصوات: رحلة إلى عالم الصم» (1989)، «عالِم الأنثروبولوجيا على سطح المريخ» (1995)، «عمى الألوان» (1997)، «العم تنغستن: ذكريات صباه الكيميائية» (2001)، «نزعة إلى الموسيقى: حكايات الموسيقى والدماغ» (2007)، «عين العقل» (2010)، «الهلوسة» (2012)، و «على الطريق» (2015).

عالم الأعصاب بريطاني المولد، وصاحب الكتب الأكثر مبيعاً في هذا المجال، أُعلنت إصابته بمرض عضال حدَّده التشخيص بسرطان الكبد، في فبراير/ شباط الماضي، قضى في منزله بمدينة نيويورك في الساعة الواحدة والنصف صباحاً، بحضور الكاتب بيلي هايز، ومساعدته الشخصية كيت إدغار، التي كانت إلى جانبه، كما أخبرت بذلك وكالة «رويترز».

وأضافت إدغار بأنه «كتب حتى النهاية. لا شيء حال دونه البتة، في إرث سيتم نشره بعد أن رحل، ويشمل ذلك العديد من الكتب».

من جانبها قالت كلية الطب في جامعة نيويورك؛ حيث درس ساكس، في بيان النعي: «إن عمله يمثل اختراقاً وفتْحاً في مجالات علم الأعصاب والطب النفسي، أدَّى إلى تفهُّمات وإحاطات مهمة في هذه المجالات».

وأضافت الكلية أن «إنتاجه الغزير ظل مهماً بالقدر نفسه من أهمية الجوائز التي فاز بها في حقل الكتابة، تلك التي لامست حياة الملايين حول العالم».

شاعر الطب

صحيفة «نيويورك تايمز» وصفتْه بأنه «شاعر الطب»، وواحد من كبار الكتَّاب السريريين في القرن العشرين. وسواء من خلال الآلة الكاتبة أو باستخدام الكتابة العادية، ألَّف ساكس أكثر من عشرة كتب ملأها بالتفاصيل عن سنوات طويلة من تاريخ المرضى، والذين أصبحوا في كثير من الأحيان أصدقاءه، موضحاً للقرَّاء بسهولة ويسْر، الكيفية التي يعمل بها الدماغ، بقدرته على علاج كل شيء؛ بدءاً من التوحُّد، عمى الألوان، ووصولاً إلى متلازمة توريت، وكيف أن مرضاه يمكن أن يتكيَّفوا مع عقولهم التقليدية.

صحيفة «نيويورك تايمز»، نشرت تقريراً نقلاً عن «رويترز»، كتبه كل من: بيل تروت من العاصمة الأميركية (واشنطن)، وباربرا غولدبرغ من نيويورك، وذلك يوم الأحد (30 أغسطس/ آب 2015).

وجاء في التقرير، أن ساكس قد طوَّر أساليب واتجاهات للعناية بالأشخاص الذين يجعلهم المرض هامشيين؛ وخصوصاً المصابين بمتلازمة توريت؛ أو الشلل الرعاشي؛ أو التوحُّد؛ أو ممن يعانون الخَرَف أو الهلوسة أو التهيؤات البصرية لدى كبار السن.

يشار إلى أن متلازمة توريت، هي عبارة «عن خلل عصبي وراثي يظهر منذ الطفولة المبكرة، وتظهر أعراضه على شكل حركات عصبية لا إرادية متلازمة، تصحبها متلازمات صوتية متكررة. كانت المتلازمة تعتبر مرضاً أو عَرَضَاً غريباً شاذَّاً ونادراً؛ وخصوصاً أنها تكون مصحوبة في العادة بألفاظ بذيئة تخرج بشكل لاإرادي؛ إلا أن ذلك العَرَض نادر مع مصابي المرض».

كانت رؤية ساكس، كما عبَّر عنها في كتابه الذي صدر في العام 1995 «عالِم أنثروبولوجيا على سطح المريخ»، «أن مثل هذه الاضطرابات تأتي أيضاً مصاحبة مع الإمكانات التي يمكن أن تبرز «القوى الكامنة والتحولات والتطورات في النفس، وأشكال الحياة التي قد لا يمكن رؤيتها، أو حتى تعذّر إمكانية تخيلها».

وقال في مقابلة مع مجلة «بيبول»: «إن الدماغ هو الآلية الأكثر تعقيداً في الكون. لم أكن أتصوَّر يوما أن أقضي حياتي مع الكِلى»، في إشارة إلى أن اختياره للتخصص في علم الأعصاب؛ على رغم صعوبته، كان موفقاً، وكشف عن الإمكانات المخبوءة التي تمتَّع بها في وقت مبكِّر من حياته.

تعاطي المخدِّرات... العَمَه

كانت نفسية ساكس معقدة للغاية. في فترات من حياته، تعاطى المخدرات للحصول على المتعة، وخوضها كتجربة إلى أن أصبح مدمناً عليها، كما عانى من الخجل الشديد والعَمَه، وهو اضطراب يجعل المصابين به غير قادرين على التعرف على الوجوه. و «العَمَهُ؛ أو التجاهل وغياب المعرفة، وهو فقدان القدرة على التعرف على الأشياء أو الأشخاص أو الأصوات أو الأشكال أو الروائح. وعادةً ما يرتبط بإصابات الدماغ أو أمراض عصبية محددة».

في العام 2012، قال في مقابلة مع مجلة «نيويورك» إنه خاض مجال التحليل النفسي لأكثر من 45 عاماً؛ وكان عازباً منذ منتصف ستينات القرن الماضي؛ لأنه كان مقترناً أساساً بعمله.

ومع ذلك، كتب في أحد مؤلفاته وتحديداً «على الطريق»، وقوعه في الحب وهو في سن السابعة والسبعين!

ساكس، الملحد، ولد في العاصمة البريطانية (لندن)، في 7 يوليو/ تموز 1933، من والدين طبيبين يهوديين. وفي محاولة منهما للحفاظ عليه في مأمن من القصف النازي للعاصمة (لندن) أثناء الحرب العالمية الثانية، أرسلاه بعيداً إلى المدرسة، وتحوَّل الشاب الخجول في صورة ملفتة باتجاه العلْم.

بعد التحاقه بكلية الطب وممارسته في بريطانيا، انتقل إلى الولايات المتحدة في وقت مبكر من ستينات القرن الماضي؛ حيث درس مجموعة حالات من الناس كانت تعاني من التهاب الدماغ النوامي. لقد ظلت تلك الحالات من دون معالجة، وتم تجميد معاينتها تقريباً لعقود؛ إلى الوقت الذي عمد فيه ساكس إلى استخدام دواء ذي تأثير نفساني (كان في طور تجريبي) عُرِف باسم «L-dopa».

أحدث الدواء تأثيراً على المرضى، فيما يشبه نسْف الإيقاظ؛ وخلَّفت تجربته فشلاً؛ لأنها أحدثت تشنجات لاإرادية، وهوساً في ضبط السلوك؛ ومواجهة صعوبة في التكيُّف مع العالم من حولهم.

يُذكر «أن التهاب الدماغ النوامي، ظهر في الفترة ما بين 1915 و 1926. فجأة ومن دون مقدمات، سقط العديد تحت تأثير هلاوس متتالية، سرعان ما يقعون بعدها في شبه غيبوبة؛ حيث يبدون كما لو كانوا نائمين، لكنهم في حقيقة الأمر يكونون في كامل وعيهم. مات الكثيرون في هذه المرحلة، وأما أولئك الذين نجوا فظلوا بقية حياتهم يعانون من اضطرابات في السلوك».

اختفى هذا المرض كما ظهر، ولم يتم تسجيل حالات أخرى له. لكن، حتى اليوم يضع الأطباء نظريات عديدة لتبريره، مثل انتشار فيروس مفاجئ وخموله فجأة لأسباب لا يعلمونها.

وضع ساكس عن المرضى في العام 1973 كتاب «الإيقاظ»، الذي استند إليه فيلم ظهر في العام 1990، حمل الاسم نفسه، ورشح لجائزة الأوسكار، وأدَّى دور البطولة فيه روبن وليامز؛ في دور ساكس، وروبرت دي نيرو كواحد من مرضاه، أخرجه بيني مارشال، ورُشِّح لثلاث جوائز أوسكار وجائزة غولدن غلوب.

في الفيلم، ليونارد لوي (روبرت دي نيرو) مريض أصيب بالشلل الدماغي في العقد الأول من عمره؛ فحاولت أمه علاجه بمختلف الطرق، وفي النهاية تم إيداعه المصح، ليدخل في غيبوبة وهو مازال في سن المراهقة، ومضت فترة طويلة من الزمن إلى أن أتى طبيب جديد ليعمل في المصح واكتشف دواء جديداً، وأخذ إذناً بتجربته على أحد المرضى وكان من نصيب «لوي»، الذي أفاق بعد سنوات طويلة من الغيبوبة.

كان العمل الأكثر شهرة كتابه «الرجل الذي حسب زوجته قبعة»، في العام 1985 وهو مجموعة دراسات لحالة أناس ممن عانوا من اختلال في الدماغ، بما في ذلك الذكريات المفقودة، ومشاكل الإدراك الجسيمة ومتلازمة توريت.

المشاعر المتعدِّدة لأوليفر ساكس

في السياق نفسه، كتبت إيريكا فاغنر، في صحيفة «نيوستاتسمان»، بتاريخ (21 مايو/ أيار 2015)، مقالاً تناولت فيه جانباً من شخصية ساكس، وإضاءات عابرة لمؤلفاته، وبعضاً مما نشره في صحيفة «نيويورك تايمز»، ولقاء في مجلة «نيويورك»، أشارت فيه - تحديداً - إلى كتاب ساكس الأخير الذي صدر في العام 2015 «على الطريق»، قائلة عنه، إنه كتاب متحوِّل في أفكاره، ويؤكد أن عواطف ساكس الثريَّة والواسعة هي محصلة خبرة، حققت له هذه الحياة النشطة والرائعة والمؤثرة. مُوردة ما كتبه ذات مرة بقوله «أجد شخصاً ما، في حفلة أو في أي مكان آخر، ممن يشاركني بعض أفكاري (العلمية منها عادة) اهتماماً بالبراكين، وقناديل البحر، وموجات الجاذبية، وغيرها، بعدها أنتبه على الفور منجذباً لحوار حيوي».

كان ساكس الأصغر من بين أربعة أبناء. والداه طبيبان، وكانت والدته من أوائل الإناث اللائي تخصصن في الجراحة في انجلترا. ويتذكر وهو في سن السابعة والعشرين، السفر عبْر كندا (هذا كتاب يمتد آلاف الأميال من السفر)، وقد تنكر لفكرة أن الطب كانت «مهنته التي اختار»، بالقول إن الآخرين هم الذين اختاروه لتلك المهنة. وكتب بأنه لم يشعر بالمرارة في ذلك الوقت، وكان عليه أن يجد طريقه الخاص لممارسة الطب.

«على الطريق»، يتفرَّد من بين جميع كتبه، لتضمّنه واحتفاليته أيضاً بغزارة التجارب الإنسانية التي خاضها طوال سنوات من ممارسته المهنة.

هذا هو بأي حال من الأحوال «أعظم مشاهدات والتقاطات» الكتاب، على رغم أنه يمس جميع الإنجازات التي جعلت اسمه حاضراً في العالم خارج الأوساط الطبية. كتبٌ مثل: «الإيقاظ»، «أريد ساقاً أقف عليها»، «الرجل الذي حسب زوجته قبعة»، رؤية الأصوات: رحلة إلى عالم الصم»، و «الهلوسة»، على سبيل المثال لا الحصر، ساعدت على تحويل السرد غير الخيالي إلى الكشف عن حياة وشخصيات، معظمنا لا يمكن أن يتخيلها خلاف ذلك من دون تلك الكتب.

حيوية «على الطريق»

يجتمع في عمل ساكس دائماً التعاطف مع الملاحظة. «ربما يرى أطباء الأعصاب، أكثر من غيرهم من المتخصصين، حالات مأسوية، من خلال أناس يعانون حالات مستعصية وأمراضاً لا هوادة فيها يمكن أن تسبب معاناة كبيرة. يجب أن يكون هناك - جنباً إلى جنب المتابعة - الحس والتعاطف والرحمة».

«على الطريق» مكتوب بحيوية؛ ولكن مع الوعي بالجانب الأخلاقي للممارسة. كافح ساكس منذ سنوات حتى يوم وفاته، مع حالة صحية سيئة، وكشف في فبراير الماضي عبر مقال صريح ومؤثر لصحيفة «نيويورك تايمز»، بأنه يعاني من سرطان مزمن.

يمنح كتاب «على الطريق» إحساساً حيّاً بالكثير من تلك المشاعر. واحد من أكثر ما يلفت النظر، هو حب المؤلف الشاب للدرَّاجات النارية. ففي العام 1960، غادر ساكس إنجلترا إلى الولايات المتحدة، وعمل لفترة في ولاية كاليفورنيا قبل أن يستقر بعد خمس سنوات في نيويورك.

قال ذات لقاء بأنه لا يستطيع التكهُّن بالأسباب التي ربما شعر فيها بأنه يريد التواري؛ ولكن قبل أن يلتحق بجامعة أكسفورد، علمت والدته أنه مثليَ الجنس (أطْلع والده بالأمر، وطلب منه عدم إخبار والدته)، وحين علمتْ أظهرت له «وجهاً مُرْعِداً»، وبحسب ما ينقل عنها أنها خاطبته بالقول: «أنت رجس»، مضيفة «كم كنت أتمنى لو أنك لم تولد». وأضاف أنه لم يكفّ عن محبة والديه، وبالنسبة إلى علاقته بوالدته فقد تمَّت تسويتها.

في الطب أيضاً، كان غريب الأطوار. حارب العديد من المؤتمرات في مهنته، وأمضى وقتاً في «غوام» بين الناس الذين يعانون من متلازمة مشابهة لمرض النوم الذي أثر على المرضى في «الإيقاظ»، ويكمن الفرق بينهما أن الذين يعانون في «غوام» تم إدماجهم إدماجاً تاماً في المجتمع. « قادني ذلك إلى الوقوف على همجية الطب لدينا، وإلى عاداتنا الخاصة في العالم المتحضِّر؛ حيث وضَعْنا المرضى أو المختلِّين عقلياً بعيداً محاولين نسيانهم».

أكثر من ضوء على أعمال ساكس

من الضروري هنا، الإشارة ولو بشكل عابر، إلى جانب من مضامين كتب أوليفر ساكس، بدءاً بـ «الرجل الذي حسب زوجته قبَّعة»، و «عالم الأنثروبولوجيا على سطح المريخ»، وصولاً إلى «أريد ساقًا أقف عليها»، ففي الأول، يمتلئ الكتاب بقصص غريبة يورد ساكس فيه حكايات تتعلق بأشخاص مسافرين إلى بلاد لا يمكن تخيّلها، في ما يشبه المتاهة. متاهة بحَّار حين يدخل مساحة فقدان الإحساس بالزمن، وحضور اللحظات المتكررة. يضعنا أيضاً أمام التوأم المتّخلف عقلياً، بالقدرة على القيام بعمليات حسابية بسرعة خيالية، وربما في صورة رجل يظن نفسه كلباً، وأحياناً مثلما الموسيقي الذي يفقد القدرة على تمييز الأشكال، ويظن «أن القبعة هي رأس زوجته».

استمد ساكس في كتابه «عالِم الأنثروبولوجيا على سطح المريخ»، العنوان من وصف تمبل غراندين لشعورها بالقرب من الأشخاص العاديين. عرفها العالم بعد ذلك أكثر.

غراندين التي ولدت في بوسطن في 29 أغسطس 1947؛ أستاذة في علم الحيوان في جامعة ولاية كولورادو، واستشارية في سلوك الحيوانات في مجال المواشي. اشتهرت غراندين التي تعاني من التوحُّد ذي الأداء الوظيفي العالي بنشاطاتها من أجل المرض، واختراعها لآلة العناق، مُصمَّمة للأشخاص من ذوي الحساسية المفرطة.

تم تشخيص مرضها في العام 1950؛ ما دفع عائلتها إلى وضعها في حضانة خاصة بعد أن شخَّص الأطباء حالتها بتلف دماغي.

تخرَّجت غراندين من مدرسة هامبشاير كونتري العام 1966، وهي مدرسة داخلية للأطفال الموهوبين، لتلتحق بعد ذلك بكلية فرانكلين بيرس لتحصل على درجة البكالوريوس في علم النفس في العام 1970، ودرجة الماجستير في علم الحيوان من جامعة ولاية أريزونا العام 1975، والدكتوراه في علم الحيوان من جامعة إلينوي في أوربانا شامبين العام 1989.

وبالنسبة إلى «أريد ساقًا أقف عليها»، يضعنا ساكس أمام شخصيتين له: الطبيب والمريض؛ ويعمل على تبيان السبب الكامن وراء السقطات فى الحياة، والطريقة التي يمكن من خلالها معالجة تلك السقطات، مستعرضاً حالته والمحن بتناولات ومصطلحات سريرية عاطفية وفلسفية.

أوليفر ساكس
أوليفر ساكس

العدد 4744 - الأربعاء 02 سبتمبر 2015م الموافق 19 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً