العدد 4764 - الثلثاء 22 سبتمبر 2015م الموافق 08 ذي الحجة 1436هـ

بعين «الماكرو»

هناء بوحجي comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

في أحد المنخفضات المزاجية التي تكالبت عليّ فيها هموم عامة، وأخرى شخصية متفرقة، نصحني أحد الأصدقاء أن «أتغافل عن كل شيء، وأنسحب قدر الإمكان إلى عالم الجماليات، وما أكثرها في عصر العولمة». استمعت لنصيحته ونجحت، فكما قال جلال الدين الرومي «ما تبحث عنه يبحث عنك».

كانت الكاميرا وكان التصوير مخرجي في ذلك الوقت.

حتى سنوات قليلة ماضية كنت أعتقد أن التصوير هو حكر على الموهوبين والفنانين، وأطلب من أقرب شخص أرى أنه أحد هؤلاء الفنانين أن يلتقط لي من الصور ما أودُّ الاحتفاظ به، أو أوثّق به مكاناً أو زمناً، حتى اكتشفت أن الكاميرا ليست هي ما يلتقط الصورة وإنما العين. وما الكاميرا إلا أداة العين توثّق بها ما تشاء أن تحتفظ به في أرشيف خارجي لذاكرتها. والشكر للهواتف النقالة والتكنولوجيا التي قطعت بالهواة سنوات من جهد ومثابرة المحترفين لتجعلهم يجلسون في صفٍّ واحد معهم. اختُصر عمر تجارب تجويد الصورة، واختصرت خطوات تصغيرها وتكبيرها، كما اختُصر عمر البحث ووقت التواصل وغيره من إنجازات التكنولوجيا الحديثة.

ليست المتعة التي منحني إياها التصوير هي ما دفعني إلى الكتابة عن تجربة البحث عن الجماليات في عالم الصورة والتصوير، ولا العالم الساحر الذي فُتحت عليه عيني فجأة وساعدني بجدارة على الهرب، وإن كان بشكل مؤقت، من المنخفض المزاجي الذي كنت أمر به، إنما الدرس الذي تعلمته من انعكاس عملية التصوير، بما فيها من الاقتراب والابتعاد، وإضافة المؤثرات إلى الصور التي كانت تلتقطها الكاميرا بعدساتها المختلفة، على النظرة إلى الأشياء والأشخاص والعلاقات والانتماءات والدول التي نزورها والشعوب التي نخالطها، وكل ما نمرُّ به من شعور يشبه عدسات الكاميرا.

الشغف بالتصوير يشبه الشغف بلعبة الشطرنج، كلاهما يتلبسان صاحبهما ويؤثران بشكل واضح في رؤيته وطريقة تناوله لأمور الحياة. ففي الأخيرة تتحول حياة لاعب الشطرنج اليومية إلى ساحة حرب يراقب فيها كل خطوة من خطواته ويحسب حساب الكسب والخسارة من كل خطوة أو قرار يقدم عليه في حياته، وهي اللعبة التي ينصح بها لتنشيط الذهن وابقائه حاضراً ومنطقيّاً يجنب صاحبه عشوائية التصرفات أو تلك غير محسوبة النتائج.

التصوير أيضاً، هواية تحوِّل، ليس العين فقط، وإنما قدرة الملاحظة لدى صاحبها، إلى عدسة حساسة فتتغير نظرته لكل ما يمر به وتتعدد زوايا رؤيته للأمور فتدخل حيّز ملاحظته أموراً ربما لم تكن في السابق ذات أهمية.

البعض يلتقط الصورة كما تبدو للعين فتكون الصورة شاملة للأشياء وما يبدو منها لكل العيون. فيما بعض العدسات تقرِّب البعيد ليكون أكثر وضوحاً، أما العدسات التي تشبع الفضول البشري لمعرفة ما وراء الأشياء فهي عدسة «الماكرو» التي تلتقط صوراً مكبرة لمادة التصوير، فتكشف تفاصيل لم نرها من قبل، وقد لا نراها أبداً إن لم تتسنَ لنا رؤيتها بعدسة «الماكرو».

وظهر مصطلح تصوير «الماكرو» للمرة الأولى في 1899 على يد و. والمسلي وعُرّفت به الصور التي تظهر مادة التصوير بأقل من عشرة أضعاف حجمها الحقيقي.

وكما الصورة (الماكرو) تظهر تفاصيل لا تراها العين وقد تفتح الخيال على معان كثيرة، فإن النظر عن قرب إلى الأمور يصبح كصورة يفتحها هذا القرب على حكاية، وكل اقتراب يفتح الحكاية على حكايات متشابكة وممتدة، أكثر اغراء وإغواء لمزيد من الاقتراب.

ظننت مصوراً محترفاً يمزح عندما قال لي في أحد الدروس: «إذا كنتِ تبحثين عن الكمال في ثبات الصورة فانتبهي إلى أنه حتى التنفس سيسبب اهتزازاً للصورة»، لكنني ولشدة حرصي على وضوح الصورة، طورت قدرة على إطالة حبس أنفاسي، ومثلها طورت القدرة على الثبات في ترقب التفاصيل إن قررت أن أقترب أكثر من الصورة الخارجية لأشياء كثيرة، تستدعي حاسة «الماكرو» لاقتراب أكبر.

العالم من حولنا هو صورة كبيرة، والغوص فيها مغامرة غير مأمونة النتائج، فهي إما أن تحلِّق بنا إلى عالم من الجمال وتحفز لغوص أعمق وتدعو إلى التأمل كالوردة التي تقدم درساً من الطبيعة لا مثيل له في أهمية اتقان أي عمل نقوم به مهما تكن أهميته وحجمه، فعمر الوردة التي أبدعتها الطبيعة لا يتجاوز الأيام السبعة، لكن في التفاصيل التي التقطتها عدسة «الماكرو» تبدو دقيقة ومتقنة، وكأنها خُلقت لتعيش أبداً.

لكن المغامرة، أيضاً، قد تكون صادمة بتفاصيل الصور الجميلة، وتدعو إلى الابتعاد والمحافظة على جمالها عن بعد، فالتين الذي كان فاكهتي المفضلة، لم أحتمل شكل تفاصيل ثمرته الناضحة اللذيذة عندما قرّبتها إلى عيني في صورتها الماكرو» وبدت لي ككومة من الديدان.

في تايوان، ضحك بائع الالكترونيات من حماسي في البحث عن عدسة تمكنني من التقاط الصور من أقرب مسافة ممكنة، وقال بلهجة حكيمة أقرب إلى السخرية وهو يستعرض معي ما توافر لديه من عدسات:» لا تذهبي إلى عدسة تقرّب أكثر من سنتيمتر واحد، فالأشياء الجميلة قد تصدمك بقبحها إذا اقتربت منها كثيرا».

إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "

العدد 4764 - الثلثاء 22 سبتمبر 2015م الموافق 08 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 6:47 ص

      حقيقة

      عندما كان التصوير محصورا في ستوديوهات كان المصور يجمل الصورة حتي يفرح صاحب الصورة و يرجع اليه مرة ثانية حتي لو لم تكن الصورة لصاحبها. اليوم صنعوا فوتو شوب. الكل يريدون ان يظهروا علي غير حقيقتهم. أليس هذا الواقع انعكاسا لما يحصل في النفوس؟

    • زائر 1 | 12:28 ص

      جميل

      أحياناً تكون الصورة ذكري مؤلمة تُساهم في سكون الحزن

اقرأ ايضاً