العدد 4781 - الجمعة 09 أكتوبر 2015م الموافق 25 ذي الحجة 1436هـ

سيرةُ كتاب... رواية «العمى» لجوزيه ساراماغو

أن يتم تناول حالة البشر الفكرية والأخلاقية من خلال حبكة غير متوقعة تتمثل بانتشار وباء يدعى «العمى الأبيض»! إنها لطريقة أبدع فيها الكاتب والصحافي البرتغالي جوزيه ساراماغو الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1998. وقامت دار المدى للثقافة والنشر بترجمة هذه الرواية عام 2002.

رواية لن تجد بها أي اسم لأي بلد أو مدينة أو إنسان، كل شخوصها وأبطالها أصحاب صفات مهنية أو جسمية أو أخلاقية أو لهم بها قرابة. وكل مدن العالم معنية بما جرى، وتمس كل آدمي على وجه البصيرة سواء كان كائناً بشرياً أم إنساناً. نعم، فشتان بين الاثنين، الكائن البشري قد يماثل الكائنات الحية في تصرفاتها القائمة على غريزة إشباع الرغبات بأي وسيلة بعيداً عن الأخلاق والقيم، والإنسان كائن بشري أيضاً إلا أنه محكوم بالأخلاق والقيم، متحكمٌ بالغرائز التي لا يطلقها كيفما شاء. وأهم صفاته أنه يشعر بالآخرين من يماثلونه بالخَلق ومستعدٌ دائماً لتقديم يد العون .

خلال الحالةٌ المتكررة من الفوضى الصباحية... ووقت ذهاب الناس لأعمالهم. تبدأ الرواية بصدمة، فعند إشارة المرور وبعد تغيرها من الضوء الأحمر إلى الأخضر... وما ينتاب الناس حينها من عصبية وانتظار لانطلاقة جديدة في مسيرة الحياة اليومية. يتعطل السير فجأة لتوقف سيارة عن الحركة، ماذا أصاب صاحبها! تتعدد الاتهامات والتهكمات، إلى أن تتجمهر مجموعة من الناس لمعرفة ما خطب هذا الرجل! كان يصرخ أنا أعمى! أنا أعمى! وكان الأعمى الأول في الرواية. يساعده شخص ذو نخوةٍ ويوصله للمنزل بعد أن قاد سيارته، التي حاول سرقتها بعد ذلك، فكان السارق. إلا أنه عمي قبل الانطلاق بالسيارة، فيوصله الشرطي للمرة الأولى لمنزله وليس لمخفر الشرطة. تعود زوجة الأعمى الأول، تغضب في البداية لحالة الفوضى التي خلفها زوجها، إلا أنها ترأف لحاله حين تعرف ما أصابه. تتصل بعيادة طبيب العيون، وتشرح أنها حالة مستعجلة، زوجها أُصيب بالعمى لكن الغريب أنه لا سواد هناك، فقط بياض في كل المحيط به من أشياء، وكأنما العين وخلال نقل الأعصاب للبيانات المسجلة إلى الدماغ، تتداخل الألوان مكونة الأبيض. الأبيض هو الشيء الوحيد المرئي، ويقف الدماغ عاجزاً عن أي تفسير، هناك فقط الخوف والهذيان. ربما تكون حالة فيزيائية كما يحدث لقرص نيوتن الذي يضم ألوان الطيف الضوئي وما إن يدور حتى يصبح القرص أبيض. حين أعجزت الحالة المعنيين - فيما بعد - عن التفسير، فُسر الأمر على أنه فيروس من نوع غير مفهوم ينتقل بسبب الإصابة «بالعين»!. أثارت الحالة طبيب العيون وطلب جلبه للعيادة، دخل قبل المرضى الآخرين. الكهل ذو العين المعصوبة، وأم الطفل الأحول، والفتاة المومس ذات النظارات السوداء، كلهم من أبطال الرواية. احتار الطبيب، لم يجد سبباً منطقياً، فعينا هذا الأعمى سليمتان! طلب منه أن يعود في اليوم التالي لعله يجد الحل. سهر طبيب العيون باحثاً في بطون الكتب لكنه لم يجد أي جواب، وفي الصباح أصابته العدوى، شك في أنه قد يكون نوع من الوباء. اتصل بالمستشفى الذي يعمل به، وصل الأمر لوزارة الصحة، التي أخذت الموضوع بعد حين بعين الجدية لتكرار حالات الإصابة. طبيب العيون كان أحد من اتُخذ قرار وضعهم في الحجر الصحي في مصحة مهجورة. رافقته زوجته لسيارة الإسعاف وحين حاولت الركوب لتكون بجانب زوجها مُنعت، فادعت أنها قد أُصيبت في تلك اللحظة. كانت زوجة طبيب العيون عينا الروائي، حيث صورت أغلب المآسي التي حصلت لاحقاً. وصل طبيب العيون وزوجته، تبعهم الأعمى الأول وزوجته وتتابع الحشد، من كان في العيادة ومن تكلم معهم ومن لمسهم ومن نظر إليهم، حتى المشكوك بأمر تعرضهم للعدوى تم حجزهم. العميان في جناح، والمشكوك بتعرضهم للوباء في الجناح المقابل، لم تخفَ الطبيعة البشرية على الوزارة فقد توقعوا بأن من سيُصاب سُيطرد للجناح الموبوء بدافع الخوف. حاصرت قوة من الجيش المصحة وكلما أُصيب جندي أو ضابط جيء بغيره. بعد عدة أيام تزاحم الموبوءون، بلغ عددهم ما يقرب الثلاثمئة. تُدخل الوجبات بحذر، أي محاولة للهرب أو بالاقتراب من البوابة سيتولاها رصاص الجند. كل من قتلهم الجند كان بدافع الخوف، فأولئك من ضلوا طريقهم وتوجهوا للبوابة عن غير قصد. حاولت زوجة الطبيب تنظيم أمور الحياة اليومية قدر المستطاع، إلى أن فقدت التحكم لكثرة العدد. سيطرت مجموعة من العميان السفاحين على المصحة. استولوا على الثروة التي لم يتعبوا بتجميعها، القادمة من الخارج المتمثلة في وجبات الغذاء. في البداية نهبوا كل ما يمتلكه الموجودون المساكين الهائمون في القاذورات والمتصارعون على الطعام والمأوى. ثم استباحوا حرمة الغرف، فقد كان على جميع النساء أن يدفعن ثمن الطعام. ومرت عدة أيام على تسلط السفاحين قاموا خلالها بارتكاب فظاعات كثيرة، وخلال إحدى حفلات مجونهم استغلت زوجة الطبيب الوضع وقتلت زعيمهم انتقاماً لنفسها ولجميع النسوة الأخريات. خاف السفاحون فتمترسوا في غرفتهم، متلذذين بما لديهم من ثروات غذائية لحين معرفة الخطوة التالية. هاج المحتجزون، فمنذ أمس لم يصل الطعام. تجرأت الزوجة ومن معها على الخروج برويةٍ وحذرٍ شديدين لطلب الطعام من الجند. إلا أنهم لم يصادفوا سوى الصمت! لم يعد هناك أحد! خرجوا من الحجر إلى حجر أكبر لقد أصاب الوباء كل من في المدينة. وتبدأ مرحلة أخرى من العناء للحصول على الطعام. امتلأت الطرقات بالجثث بالقاذورات بالبكاء بالضرب والتعثر، أخرجت النفوس أسوأ ما لديها، إلا أنه على الرغم من ذلك تجد بعض المجموعات التي تنتظر الفرج. وصل الركب لمنزل الطبيب أكلوا ما حصلوا عليه من أحد الأسواق التي لم تصل لمخزنها يدٌ بعد. الأعمى الأول انتقل أمره للعمى الأسود. فصرخ لقد عُميت! فقالت الزوجة مستاءة وما نحن عليه يا رجل! فرد لا لا لم يعد هناك بياض! حضنته مواسية، ليصرخ بعد فترة فرحاً لقد عاد إلي نظري إني أرى. وكما بدأ الوباء بالانتشار سريعاً كذلك عاد النظر. لكن هل وجد الناس البصيرة!

أنعم الله علينا بالبصر، لكن ليس كل إنسان مبصراً! من البشر أناس فقدوا نعمة البصر إلا أنهم يمتلكون من البصيرة والمشاعر والأخلاق ما يفتقده كثرة من البشر غطت قلوبهم غشاوة فهم صمٌ بكمٌ لا يبصرون، ولا يشعرون بما قد يتعرض له آخرون من ظلم واضطهاد وحرمان وفقر.

العدد 4781 - الجمعة 09 أكتوبر 2015م الموافق 25 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً