العدد 4782 - السبت 10 أكتوبر 2015م الموافق 26 ذي الحجة 1436هـ

سكورسيزي: لابد من تقسيم التمثيل إلى ما قبل براندو وبعده

أشرطة صوتية تقدِّم جانباً من سيرة «العرَّاب»...

ساشين ليتلفيذر التي قرأت رسالة براندو الرافضة للأوسكار
ساشين ليتلفيذر التي قرأت رسالة براندو الرافضة للأوسكار

«لابد من تقسيم التمثيل إلى ما قبل براندو وما بعده». تلك كلمات المخرج العالمي مارتن سكورسيزي. هل تحتاج تلك الكلمات إلى مناسبة؟ سرْد بالصوت لـ «العرَّاب»، فيلم فرانسيس كوبولا، وعرّاب الفن السابع، مارلون براندو. الحدث: فيلم وثائقي من إخراج البريطاني ستيفان رايلي «اصغِ إليَّ مارلون»، في اصطفاء لمئات الساعات التي امتدَّ تسجيلها من فترة خمسينات القرن الماضي إلى ما قبل مغادرة براندو هذا العالم. الفيلم الذي سيبدأ عرضه في أميركا يوم الجمعة (23 أكتوبر/تشرين الأول 2015)، يحمل الكثير من الأسرار والرؤى والمفارقات، وما كان برَسْم مواراته في الحياة، ولم يعد كذلك الآن.

في استعراض الفيلم الوثائقي نزق وأطوار غريبة وضجر من السينما نفسها، وما أطلق عليه براندو «حياة الهراء»، وبمعنى آخر: «مهنة الهراء». كان ذلك في سنواته الأخيرة، بعد المآسيِّ التي تعرَّض لها باتهام ابنه كريستيان بقتل صديق أخته، والحكم عليه بعشر سنوات سجناً بتهمة القتل الخطأ، ونهايته بالموت جرّاء الالتهاب الرئوي، وانتحار ابنته شايان. الفيلم استمدَّ فكرته من أحد تسجيلات براندو قبل 19 عاماً من الآن (1996). في التسجيل يقول براندو في ارتجال: «اصْغِ إليَّ مارلون... أنت إزاء جزء منك يتحدَّث إلى جزء آخر منك. اصْغِ إلى صوتي».

تقرير تيم لويس، في صحيفة «الغارديان»، يوم الأحد (4 أكتوبر 2015)، جمع ابنه وابنته، ميكو، وريبيكا براندو، من زوجته الثانية، الممثلة المكسيكية - الأميركية، موفيتا كاستانيدا، كما جمع مخرج الفيلم، البريطاني ستيفان رايلي، والمنتج جون باتسيك. هنا خلاصته، وتنشره «الوسط» على حلقات ثلاث، ابتداء من اليوم.

نادراً ما تحدَّث براندو إلى وسائل الإعلام. ما هو على مقْرَبَة من المفاجأة يكمن في تسجيلات صوتية وثائقية جديدة تم كشف النقاب عنها مؤخراً، يسْرد فيها براندو قصة حياته بصوته وكلماته. 200 ساعة من الأشرطة السمعية تتضمَّن جانباً من سرْد حياته، تبدأ من مطلع خمسينات القرن الماضي، ممتدَّة إلى الخمسين سنة اللاحقة. تُصاحب التسجيلات الصوتية صور من لقطات تم انتخابها من أفلامه، إلى جانب أرشيف للمقابلات التي أجْريتْ معه.

كل شيء يتعلَّق بمارلون براندو كان كبيراً: موهبته، حال العصاب لديه (اضطراب في الشخصية وفي الاتزان النفسي)، وشهيته الجنسية أيضاً، وحتى محيط خصره! بعد أن أضاف بضعة كيلوغرامات إلى وزنه في السنوات الأخيرة قبل رحيله عن هذا العالم. ولكن ربما كان الجانب الأكثر ضخامة في براندو، الذي توفي في العام 2004 عن عمر ناهز الثمانين عاماً، يتحدَّد في الأساطير التي حِيكت عنه وحوله.

لا ممثل يجاريه، استطاع تغيير قواعد اللعبة في عالم السينما، وفي أي وقت من تاريخها، كما فعل براندو فترة خمسينات القرن الماضي، وعلى الأرجح لن يتمكَّن أي ممثل من تحقيق ما فعله وكرَّسه طوال عقود. في أربعينات القرن الماضي تلقَّى دروسه الأولى في التمثيل على يد المدربة الشهيرة ستيلا أدلر في نيويورك، وذلك باستخدام طريقة ستانيسلافيكي، والتي يجب على أيِّ ممثل من خلالها، أن يطوِّر كل جزء يُؤدِّى من عواطفه الخاصة. وعلى رغم أنه يكره مصطلح «الطريقة»، إلا أن غريزته قادتْه إلى تأدية عروض وأدور غير مُتوقعة بقدرته على التوغُّل في البنية النفسية للشخصيات، واختبار تأديتها بأسلوب رصين وثابت، تنامى وحقَّق له أسلوباً خاصاً به مع مرور الوقت.

أعظم من أولفييه

ببنْيَته مفتولة العضلات ووسامته، أدَّى أدوراً على المسرح، من إخراج ستانلي كوالسكي، ونص تينيسي وليامز «عَرَبة تسمَّى الرغبة» في العام 1951. وصفه وليامز في وقت لاحق بأنه «أعظم ممثل على قيد الحياة... وأكبر من أوليفييه».

تم ترشيحه لجائزة الأوسكار، ليبدأ نقلة في حياته المهنية بالفيلم الذي أدَّى فيه دور البطولة «فيفا زاباتا»؛ لينتقل إلى تجربته الأخرى ببطولة فيلم «البرِّي» نهاية العام 1954. وفي العام نفسه كان على موعد مع فيلم «على الواجهة البحرية»، لمخرجه تيري مالوي، والذي حصل بموجبه على أول جائزة أوسكار. تدور قصة الفيلم حول زعيم نقابة عمَّال فاسد في أحد الموانئ، يتمكَّن من الهيمنة على الواجهة البحرية، إلى جانب أن الشرطة لديها علم بأن الرجل (فريندلي) يقف وراء عدد من الجرائم، إلا أنها تقف عاجزة عن فعل شيء، ساعد على ذلك أن العمَّال يلوذون بالصمت خشية فقدان وظائفهم. يلعب براندو دور تيري مالوي، الملاكم السابق، وعامل ميناء يتبع فريندلي. تتصاعد أحداث القصة في الفيلم وقوفاً على رؤية تيري أتباع فريندلي وهم يقتلون أحد العمَّال، ومنها يبدأ تصاعد الدراما في العمل، وصولاً إلى محاولة إقناع تيري بتقديم معلومات إلى المحكمة تتعلَّق بعملية القتل.

ربما لم يحقِّق براندو مثل ذلك الاتساق في أعماله اللافتة طوال حياته المهنية، لكنه أكد مكانته كأيقونة مع عروض لاحقة كما في دوره «دون كورليوني» بفيلم «العرَّاب» في العام 1972، من إخراج فرانسيس كوبولا، الذي حقق من خلاله جائزة الأوسكار الثانية، لكنه رفض الجائزة احتجاجاً على الأسلوب الذي تتعاطى به الحكومة الأميركية مع الهنود الحُمر، ولم يكْتفِ بذلك؛ بل بعث امرأة هندية (ساشين ليتلفيذر) لتقرأ رسالة رفضه الجائزة في حفل توزيعها؛ وفيها شن هجوماً شديد اللهجة على هوليوود بسبب الطريقة والصورة اللتين يظهر فيهما الهنود الحمر في أفلامها. جرَّ عليه قراره، الكثير من السخرية في بعض الأوساط الصحافية والفنية من جانب، ومن جانب آخر أثنتْ عليه جهات وفاعليات أخرى.

بيت الألم

مروراً بـ «التانغو الأخير في باريس»، فيلمه الذي أثار الكثير من الجدل، بالفلسفة التي يقدِّمها بارتباط الجنس بالعنف؛ وطرح مفاهيمه لدى شخصية تمثل السلطة والهيمنة، وجانب المرأة التي تجسِّد التضحية والخضوع في الوقت نفسه، ودوره الذي جسَّد فيه العقيد كيرتز في «القيامة الآن»، في العام 1979. المخرج مارتن سكورسيزي قال في هذا الصدد: «لابد من تقسيم التمثيل إلى ما قبل براندو وبعده».

بعيداً عن الشاشة ولفترة طويلة من حياته المهنية، حيَّر براندو الصحافة باختياره العزلة أسلوب حياة؛ وخصوصاً في السنوات الأخيرة من حياته. ضمن الوجه الآخر الذي لا يعرفه عنه كثيرون، كان براندو خبيراً بيئياً؛ حيث اشترى جزيرة مرجانية يطلق عليها اسم تيتياروا، بشمال تاهيتي، في ستينات القرن الماضي، وتعهَّد بحمايتها؛ إلى جانب كونه ناشطاً اجتماعياً، قبل فترة طويلة من تحوُّل مثل ذلك النشاط إلى أمر شائع في «هوليوود» لدعم كثير من القضايا.

كانت لبراندو ثلاث زوجات وأكثر من 11 طفلاً، معظمهم من صُلبه، فيما تم تبنِّي آخرين. في العام 1990، أطلق ابنه البكْر، كريستيان، النار على صديق أخته، شايان، وتم إيداعه السجن، وبعد خمس سنوات، شنقت شايان نفسها؛ ما حدا بوسائل الإعلام إلى وصف بيته في بيفرلي هيلز بـ «بيت الألم».

200 ساعة من السرْد الصوتي

فيلم من أرشيفه يكشف عن جانب من براندو لم يرَه كثيرون: يروْن فيه الشخص الشَرِه وكثير الارتياب، وذلك الموغل في ذاتيته، تلك التي كثيراً ما يتم إساءة تفسيرها. ومثلما كان صوته يحمل الديمومة، فمن الصعب ألاَّ نشعر بأنه وضع الأمور في نصابها الصحيح، ومن وراء قبره هذه المرة.

لم يكن الفيلم (اصْغِ إليَّ مارلون) خارج إطار المقابلات التي أجريتْ معه. وبالنسبة إلى الاستعراض الجديد هنا في «الغارديان»، فقد تم تقديم مجموعة من الأشخاص القادرين على التوسُّع في سياقات سرْد علاقتهم ببراندو، والجوانب التي ظلَّتْ غامضة؛ أو مواراة عن كثير من جمهوره، وحتى أولئك الذين عرفوه عن قرب. فمن وسطه العائلي المباشر، هناك ميكو وريبيكا براندو، ابنه وابنته من زوجته الثانية، الممثلة المكسيكية - الأميركية، موفيتا كاستانيدا، التي اقترن بها في مطلع ستينات القرن الماضي.

تعمل ريبيكا الآن في مجال علم النفس السريري، فيما يعمل ميكو ومنذ 30 عاماً ضمن طابور من المسئولين عن عقارات المطرب العالمي مايكل جاكسون، وقبل ذلك كحارس شخصي ومساعد له، ومنذ وفاته، عمل على فهرسة مقتنياته الموسيقية. الفيلم من صناعة المخرج البريطاني ستيفان رايلي، بمشاركة المنتج جون باتسيك، والذي يشمل إنجازه الحصول على جائزة الأوسكار عن فيلمه الوثائقي «يوم في سبتمبر»، و «البحث عن رجل السكَّر»؛ حيث يقدِّمان خبراتهما لكشف الجانب المجهول والخفي من حياة براندو.

لم يثق بالتنفيذيين في هوليوود

كان براندو مُنبهراً بالتكنولوجيا، ولجأ إلى التسجيل الصوتي لعدَّة أسباب من بينها: تقديم ملاحظات إبداعية على أدوار كان يستعدُّ لها؛ أو هي مرتبطة بتنظيم اجتماعات مع مسئولين تنفيذيين في «هوليوود» - ومن الواضح أنه لم يكن يثق بهم - أو بمثابة تذكير بالمفردات غير المألوفة التي خطرت على باله؛ أو لترسيخ مجموعة أفكار التقطها من مكتبته التي تضم أكثر من 4000 كتاب.

ريبيكا براندو: لم أكن أعرف بوجود الأشرطة. كنت أراه يتحدَّث في المِمْلاة أحياناً (أداة فونوغرافية تُسجِّل ما يُملى عليها كمرحلة تمكِّن من السماع، والتدوين فيما بعد)، لكنه يتوقَّف عن التسجيل بمجرَّد رؤيتي، ليقول: «مرحباً، يا حبيبتي، كيف حالك؟» كان يضع جهاز التسجيل بعيداً، وكنت أعتقد بأنه ربما يقوم بحفظ خطوط لأفكار؛ أو إعداد شيء للعمل. ولكنني لم أكن أعرف أن هناك مئات من الساعات تتضمَّنها الأشرطة الصوتية على امتداد سنوات. لهذا، ولفترة طويلة جداً، وربما في مكان ما في الجزء الباطن من عقله، كان يعلم أن هذه الأشرطة سيكون لها مسار وغرَض ما في يوم من الأيام.

جون باتسيك: التقينا في عزْبة براندو مع أسرته، قالوا لي: لدينا هذا الكنز الدفين من الأرشيف، وأنتم مدعوون إلى الخوض في تفاصيله إلى أي مدى تريدون. فتحوا لنا الأرشيف ولم يبْدر منهم أي نوع من التدخل في أفضل ما اصطفيناه من 18 شهراً، أنجزنا من خلالها هذا الفيلم، سوى أنهم قاموا بتزويدنا بالمزيد والمزيد من المواد كلما طلبنا ذلك.

عسْر القراءة... التهجئة السيئة

ريبيكا براندو: إنجاز هذه الأشرطة، كما أعتقد، كان وسيلة لتحليل الذات. والدي أحبَّ التحدُّث إلى أشخاص ممن كانوا على مقربة منه؛ لذا كان يدعو بعضهم في منتصف الليل، والحديث عن أي شيء وكل شيء، عن الحياة، والطبيعة، والأعمال التجارية والاختراعات. حتى عندما لم يكن أولئك الأشخاص موجودين للحديث معه، كان يتحدَّث في المِمْلاة (الأداة الفونوغرافية).

ستيفان رايلي: أشعر بالسُخْف بعض الشيء، فذلك هو ما نما إلى علمي في وقت متأخر، ولكن أعتقد أن براندو أحبَّ الأشرطة لأنه كان يعاني صعوبة في قراءة الكلام المكتوب (عسْر القراءة). وكانت تهجئته سيئة للغاية. إضافة إلى أنه كان كثيراً ما يكتب العديد من الهوامش في الكتب التي يقرأها؛ لذلك أنا أتساءل عمَّا إذا كان يفضِّل التحدُّث على الكتابة.

ريبيكا براندو: لم يكن يتحدَّث عن حياته الشخصية لنا حين كنا صغاراً. لم يحدث ذلك في أي وقت. لذلك أرى أن الكثير من تسجيلاته كانت مجرد وسيلة علاجية للبحث أو إيجاد نوع من الحقيقة. في التسجيلات كان يتحدَّث عن أمه وأبيه وعائلته وسنوات ترعرعه. كان يريد معرفة الطريقة التي تطوَّرت فيها الأمور في حياته بدءاً من طفولته.

يبدو أن براندو قد أصيب باعتلال نفسي عميق في سنواته الأولى بسبب أن والده، مارلون الأب، صانع مبيدات، والأم، دودي، ممثلة، وكانت مدمنة على المشروبات الكحولية؛ إذ ربما كان والده عنيفاً؛ حيث ولد براندو في أوماها بولاية نبراسكا في العام 1924، وانتقال الأسرة المستمر: انفصل والداه لفترة، ليتصالحا مرة أخرى، وجنح مارلون الابن في حياته إلى أن روَّض نفسه بنفسه بعد أن تم إرساله إلى أكاديمية عسكرية. وكان مقتنعاً بجزء كبير من حياته.

براندو مع أختيه يوم أن كان في الثالثة عشرة من عمره العام 1937
براندو مع أختيه يوم أن كان في الثالثة عشرة من عمره العام 1937

العدد 4782 - السبت 10 أكتوبر 2015م الموافق 26 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً