العدد 4783 - الأحد 11 أكتوبر 2015م الموافق 27 ذي الحجة 1436هـ

مشاهدة يوم بولنده في نيويورك الأحد 4 أكتوبر...بعض التأملات والدروس والعبر

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

في هذا اليوم المشمس الجميل في نيويورك بعد يومين من البرد القارس والرياح الشديدة مما جعل كثيرا من الناس يتطلعون إلى يوم مشمس. جرى في منهاتن المدينة النيويوركية المزدحمة بالحياة والمليئة بالنشاط وخاصة في فترة تواجد قادة الدول والحكومات والوزراء الكثيرين من 193 دولة عبر الكرة الأرضية أتيحت لي فرصة جديدة للاستمتاع بيوم بولنده وما تم فيه من استعراض في شوارع منهاتن، لكن هذه المرة كانت لها دلالة خاصة بالنسبة لمشاهداتي لهذه الاستعراضات، في الماضي عندما كنت عضوا بوفد مصر لدى الأمم المتحدة في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن العشرين.

ولذلك تأثرت بذلك بدرجة كبيرة لتغير الظروف ما بين القرن العشرين والعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، إذ لم يكن قد ظهر إلى الوجود ما أطلق عليه الربيع العربي وتداعياته وما أطلق عليه اسم تظاهرات ديمقراطية من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية وهي شعارات جميلة أطلقت في مصر، واقتبسها متظاهرون في دول أخرى مع تغيير في بعض الشعارات لكن كان الهدف واحداً وهو الاطاحة بالحكومات القائمة التي اعتبرت غير ديمقراطية، ولا تهتم بمصالح شعوبها، وخاصة طبقاته الفقيرة وأطيافه الاجتماعية والدينية والعرقية، وركزت اهتمامها على مصالح النخبة الاقتصادية أو النخبة الحاكمة. أو هكذا ظهرت تلك الشعارات ورفعها أصحابها.

ومن خلال اللاشعور الانساني وعمق الانتماء الوطني لا يملك أي فرد أوتي بعضاً من العقلانية والعقل والحس الوطني الا أن يقارن بين ما سمي استعراض أو عرض يوم بولنده وبين كل التظاهرات في بلادنا العربية ودور الشرطة ودور المواطنين، وسلوكهم وأهدافهم ومنهجهم في التظاهر، وبين رد فعل بعض المواطنين أو المقيمين في نيويورك. وهم يشاهدون بسلام وبلا أدنى تعليق ولا حتى التملل لتعطل سيرهم نتيجة إغلاق بعض الشوارع. ويهمني في هذا المقام أن أشير إلى عدد من الملاحظات تواردت على خاطري، وأنا أشاهد العرض البولندي وألتقط عدة صور ولو كان المقال الموجز هذا يتيح نشر تلك الصور لضمنتها إياه، لكن إذا أراد صحافي أو أي شخص أن يعرفها يمكن أن يحصل عليها من غوغل المرجعية شبه المحايدة للأحداث.

وأما الدروس والعبر فقد استعارت من أستاذنا ابن خلدون الذي عنون كتابه المقدمة بعبارة طويلة تشير الى «المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»:

العبرة الأولى: إن الأمم تقوم وتبنى بسواعد أبنائها وبناتها وهذا ما عبر عنه الاستعراض باسم بولنده في شوارع نيويورك، حيث النساء والرجال يرفعون أعلام وطنهم ويلوحون بها ويبتهجون ويرقصون جنباً إلى جنب مع صخب الموسيقى غير المعتاد إلا في مثل تلك الحالات.

العبرة الثانية: إن الأوطان تبنى بالرضا والراحة النفسية والعمل، وليس بالصراع والصراخ والغضب والتكشيرة كما لو كانت سمة من يتدينون أن يظهروا الغضب والعبوس على رغم أن النبي محمد (ص) قال عن المؤمن إنه هاش باش وطالبهم بان يلاقوا بعضهم بعضا بوجه بشوش وليس بوجه عبوس كما نراه في هذه الأيام.

العبرة الثالثة: ترتبط بالعمل فلم يبن الرسول وأصحابه دولتهم أو تبن أية دولة على التكشير الذي يحدث الانقباض النفسي أو على الكسل وعدم الاهتمام بالعمل الذي هو واجب ديني وأخلاقي وإنساني، فبدون العمل لا يكون هناك إنتاج وبدون الانتاج لا تتوافر مقومات العيش الكريم وبدون الاستقرار لا تتوافر فرص للعمل والانتاج، وبدون الأمن لا يتوافر الاستقرار وهكذا حلقات يفضي بعضها إلى بعض.

العبرة الرابعة: هي وجود محبة واحترام بين المواطن ورجال الأمن الذين ينظمون المسيرة، وعلى الجميع أن يسمعوا لهم دون نقاش، وقد كنا نسير بسيارة في الشارع فقال الشرطي توجهوا إلى شارع 57 وعندما ذهبنا إليه وجدنا الشرطي الاخر يقول اذهبوا إلى شارع 59 ولا يوافق على ما قاله الشرطي الأول؛ لانه في موقعه يرى الشارع مزدحماً ومتوقفاً وهو يقول نصيحة وعلى الجميع أن يسمع هذه النصيحة التي هي تعليمات في حقيقة الأمر، ولا يضيع أي أنسان وقته في مناقشة الشرطي، فكلامه أمر رسمي وعلى الكل الانصياع له. وهذا الشرطي لا يحمل سلاحا وإنما يحمل مسدسا صغيرا يكاد لا يري بالعين العادية.

العبرة الخامسة: إن الجهة المنظمة للتظاهرة أو الاستعراض أبلغت الشرطة قبل الموعد بعدة أيام، والتي بدورها تعرف الموعد قبله بسنة؛ لأنه موعد احتفال سنوي للبولنديين في نيويورك. وحشدت شرطة المدينة رجالها بكثرة وأوضحت لهم عملهم وهو تنظيم العرض البولندي وإغلاق الشوارع التي يمرون فيها، وهي شوارع منتقاة ومحددة بدقة ومعلنة في الصحف والأماكن العامة؛ لأن التظاهرة معروفة، كما ذكرت وليست عفوية، وهي مصرح بها ومعروف شروطها وسلوك أصحابها وهدفهم.

العبرة السادسة: إن المتظاهرين ينظرون إلى الشرطة بأدب واحترام، ويسمعون توجياتهم وينفذونها بدقة، وفي الوقت نفسه يتعامل البوليس مع المتظاهرين باحترام شديد ورأيت إحدى المتظاهرات تتناقش مع رجل المرور على ما يبدو أنه رغبة منها في المرور بشارع غير مصرح بالمرور فيه للتظاهر، وبعد أقل من دقيقة من النقاش انصاعت السيدة المحترمة لتعليمات الشرطي. هذا الاحترام المتبادل هو رمز التظاهر وأساسه وفلسفته. فالشرطي يضطلع بمهمة تنظيم حركة الشارع وهو سيد الموقف وعلى الجميع الانصياع لأوامره وهو في الوقت نفسه يحترم المواطن الذي يحترمه، أي أن الاحترام متبادل بين الطرفين.

وقلت في نفسي أين هذا السلوك الحضاري من الطرفين في مصر الحبيبة التي يرفض فيها المواطن الانصياع لأوامر الشرطة، والآخر بدوره يصر على التعليمات ثم يدخلون في صراع بإلقاء القنابل من هذا الطرف، والغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه من الطرف الآخر.

وتساءلت في نفسي قائلاً إن هذه هي الحرية الحقيقية والتظاهر الحقيقي وليس الفوضى التي تحدث في بلادنا العربية فالمواطن يعتبر نفسه فوق القانون وينظر للشرطي كعدو له، والآخر ينظر لنفسه أنه سيد الموقف ويتوجس خيفة من المواطن الذي بدوره يتوجس من الشرطي. إن المسئولية متبادلة وكذلك حالة الخوف والتوجس وخاصة بعد قتل كثير من رجال الشرطة من المتظاهرين في بلادنا، فالاحترام يولد الاحترام والعنف يولد العنف ويا ليت أبناء وطني العربي يعرفون!

العبرة السابعة: إن الديمقراطية تبنى لبنة لبنة، وطوبة طوبة، ولا يمكن بناء الدور السادس قبل الاساس أو قبل الدور الاول وهذا يستغرق وقتا للعلم والتعلم والعمل، بينما الهدم والخراب يتم في لحظات. وبناء الثقة بين النظام والشعب يستغرق وقتاً طويلاً وجهداً، أما نزع هذه الثقة فقط يحتاج إلى قنبلة من هنا أو شمروخ من الشماريخ التي تطلق وتتوهج نارا في الجو وإذا أصابت شخصا أوقعت به الخوف والرعب إن لم يكن الأذى بدرجة من الدرجات وفقا لطبيعة الاصابة وقوة الشمروخ، ويا ليت هذا الشمروخ من إنتاج وطني، بل هو مستورد من بلاد ما وراء البحار، والشيء نفسه بالنسبة إلى القنابل والمتفجرات وأيضا الأمر نفسه مع الغاز المسيل للدموع ونحو ذلك.

وقلت في نفسي إن هذه العبرة هي أبلغ العبر؛ لأن المتظاهرين والشرطة لا ينتجون شيئا، والجميع يعتمد على الاستيراد من الخارج، وتبديد أموال المواطن في جميع الاحوال من اجل سلوكيات غير طبيعية، ورد فعل احيانا مبالغ فيها. وقلت في نفسي لابد أن نرسل عددا من المتظاهرين في شوارعنا ومن رجال الامن إلى مدينة نيويورك ليشاهدوا تظاهرة بولنده السنوية وهناك تظاهرات عديدة لأغراض مختلفة في هذه المدينة التي يمكن أن نطلق عليها مدينة الاستعراضات، وهذه لها يوم محدد هو يوم الأحد وليس أي يوم، أو اختيار يوم العطلة الاسبوعية الرئيسية هدفه إيجاد وسيلة للسماح للافراد بالتظاهر أو الاستعراض للتعبير عن آرائهم دون تعطيل للعمل؛ لأنه مقدس ومن لا يعمل لا يأكل وليس مثل الغرائب عندنا أن يتظاهر الشخص ويتغيب عن العمل عدة أيام فاذا عوقب، طالب برد حقه، وأي حق إذا خالفت قواعد الانضباط في العمل والانتاج، لعمري إن هذا من العجب العجاب.

كما وجدت أن المدينة أكثر ازدحاما من الأيام العادية ما عدا الاستثناءات، فقيل لي لأن هذا اليوم يمكن أن تجد السيارات مكاناً للوقوف فيه ومجّاناً ومن ثم يتسابق المواطنون من سكان الضواحي أو حتى الولايات الاخرى لزيارة نيويورك في هذا اليوم؛ لأنه لو توقف وترك سيارته في مكان غير مصرح به فالعقوبة أكثر من رادعة ومسجلة على أعمدة النور في الشوراع وهي 350 دولاراً للمخالفة أي أكثر من مرتب المواطن في بلادنا من ابناء الطبقة الفقيرة أو المتوسطةـ وبالطبع الاغنياء حريصون على المال ليسوا مثل الاغنياء في بلادنا الذين ينفقون بلا حدود وخاصة في الملاهي أما الغني الاميركي فهو مواطن يدفع الضرائب الكبيرة ولا يستطيع التهرب منها فالعقوبة أكثر من قاسية وهو يحصل على دخله بالعمل المستمر المضني، ولذلك فلا ينفقه الا بقدر محدد ومحدود.

وتساءلت كيف يمكن أن نتعلم من أميركا العمل والنظام والانضباط والانتاج والتظاهر واحترام المواطن للشرطي واحترام الشرطي للمواطن. إنها حلقة متكاملة طيبة، لكن عندنا هي حلقة خبيثة كما وصف رجال الاقتصاد بعض حالات التخلف بأنه يعاني من حلقة خبيثة يصعب كسرها. وتمنيت أن تكسر هذه الحلقة الخبيثة ولو جزئيًّا في إحدى حلقاتها حتى نستنشق الهواء النقي ونتنفس الصعداء. أتمنى أن أكون ساعدت ابناء وطني مصر وأبناء العروبة على أن يتفهموا كيف يتصرف المواطنون ورجال الأمن في الدول الأخرى.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 4783 - الأحد 11 أكتوبر 2015م الموافق 27 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 12:34 ص

      لله درك يا دكتور نعمان

      الم نكن خير امة اخرجت للناس...متى اذن كنا كذلك...افدنا يا سيدي!!

اقرأ ايضاً