العدد 4814 - الأربعاء 11 نوفمبر 2015م الموافق 28 محرم 1437هـ

خالد البسَّام... فصل آخر من كتاب الغياب/ الحضور الطويل

خالد البسام
خالد البسام

يُسطِّر رحيل الكاتب والمؤرِّخ البحريني خالد البسَّام، فصلاً آخر من كتاب الغياب/ الحضور الطويل. الغياب الذي لم ولن يمْسَسْه سوء بجميل الأثر وعمقه وأهمِّيته. ليس في الدرس الذي انكبَّ عليه فحسب؛ بل في انكبابه على ألَّا يمسَّ إنسانيته ونقاءه وبساطته سوء. لم يتورَّط - كما فعل كثيرون - في فعل التحريض والكراهية، أولئك الذين لم يكتفوا بالذهاب إلى الدرس، في درجاته المُفجعة والمؤذية حدَّ التشفِّي!

سيكتشف أيٌّ منا تلك العلاقة بين الهدوء النادر، والسَكِينة المُلفتة التي طبعتْ روحه ونفسه، وبين الخروج على تصنيف وتمييز البشر بحسب انتماءاتهم وولاءاتهم. ظل حريصاً على أن يكون عاكفاً على الدرس الإنساني بكل قيَمه الكبرى؛ وذلك جانب من السر وليس السر كله.

قلتُ ذات كتابة عنه: «لفرْط خُلُقه، يكاد يطرق باب سيارته قبل أن يستقلَّها، وهو كذلك». يرى بعض في ذلك مبالغة يقتضيها الغياب. كانت شهادة اقتضاها حضور تكريم البسيط لما قدَّم وسهر عليه بصمت؛ دون أن تلتفت إليه وإلى غيره، الموازنات الضخمة المفتوحة على استقطاب أفراد من العالم؛ فيما الذين يكتبون تاريخ ومستقبل هذا البلد، في ركن قصيٍّ من النسيان والتهميش أحياناً!

في ممارسته الكتابة نبْشاً للتاريخ الغُفْل. في ذهابه كمن وقع على كنز لينبشه في آخر الدنيا، من خلال مخطوط في المتحف البريطاني؛ أو غيره من مخازن السلْب الكولونيالي، يوقظ تاريخاً لا يُراد له أن يكون حاضراً. «ثمة الكثير مما وقع في يديَّ موثَّقاً؛ لكن تحول بينه وبين ظهوره جيوش من الرقابة لا أقوى على مجابهتها بيديَّ العاريتين»، قال همساً على هامش تكريم صحيفة «الوسط» له في العام 2007.

لن أعتاش على الشتْم!

في المدى الأبعد... في مدىً خارج الحدود البسيطة والمركَّبة، ظل أخلاقياً؛ بمعنى الالتفات إلى درسه، بمستوياته المختلفة. لم يكن الشتم واحداً من فصول أو بنود ذلك الدرس. قال ذات لقاء أجراه الباحث وسام السبع: «لم أكن مستعداً لأكون مجرَّد رقم في صف طويل من الكتّاب الذين يعتاشون على شتم (إسرائيل) وسب أميركا». ولم يكن مستعدَّاً لشتم ما قبلهما وما بعدهما أيضاً ضمن مقتضيات ظروف، وركوب الموجة ومسايرة الموضة!

لذلك «متعهِّدوه» من أصحاب الحناجر، أو من أصحاب الخناجر؛ لا فرق! ذلك لا يعني أنه كان على مواءمة وانسجام مع الذين يستحقون الشتْم، ممن اندمجوا مع الاغتصاب والسلب والاحتلال: «إسرائيل»، أو القوة التي تحرك أساطيلها بحجَّة الدفاع عن حرية التعبير، ولن تجد بعد ذلك تعبيراً لائقاً لتصف الخراب والخسْف الذي أحدثتْه بفعل تلك الحجج!

وفي المهنة التي كرَّس لها زهرة عمره، كانت توصيفاته بسيطة، مثلما هي بساطته مع البشر من حوله. مع الذين يعرفهم، أو أولئك الذين يُخيَّل إليه أنه يعرفهم وإن لم يلتقهم من قبل. (لا غريب من البشر عنده طالما صافحته عيناه، وامتدَّت إليه كفٌّ). ووسط هذا البازار من كتَّاب الأعمدة الذين طلعوا على الناس كالفِطْر، وفي لمْح البصر، لم يعمد إلى التجريح، وفضَّل أن يقدِّم شهادة فيها الكثير من الإيحاء، والكثير من طلب الالتفات إلى تقنين هذا «البازار» الذي تحوَّل إلى «زار»! وفي جزء من الشهادة التي استدرجه إليها السبع، قال: «كتبت العمود الصحافي بعد تجربة صحافية امتدت 19 عاماً». وليست ضرباً من النصيحة تلك التي أراد تمريرها، بقدر ما كانت وصْفة نجاة كي لا يختلط في الممارسة حابل ونابل ما يتم تمريره! وفي ذلك كان جليَّاً «لابد من تحسين صورة العمود الصحافي فكاتب العمود ليس حمّال (الأسيَّة) أو صندوق شكاوى واقتراحات».

أدوات الذهاب إلى التاريخ

من بين ما أصدره، ويبدو خارج الدرس التاريخي، وخارج تقنيات الحفر في الذاكرة. ذاكرة المكان والبشر، روايته الأولى «لا يوجد مصوِّر في عنيزة»، وبسبب متاخمة موضوعاتها لحدود تبدو حساسة أو «مسنَّنة» اقتضى الأمر منعها في إحدى دول الخليج العربية. والرواية الثانية «مدرس ظفار»، وصدرت في بيروت تلك التي تحكي تجربة مناضل بحريني، تولَّى عملية التدريس في مدارس ثورة ظفار، لكنه انتقد الثورة وتلاميذها وزعاماتها بشدَّة، فيما يشبه المراجعة التي التقطها البسَّام، ولم يكن بمنأى عن الدرس التاريخي، والدخول في ممارسته بغضِّ النظر عن الفضاء أو الإطار الذي يأتي فيه أو من خلاله.

وكانت للناشر شهادته حول الرواية: «عندما قرَّر فهد خوض أولى تجاربه الثورية الحقيقية، وعلى أرض الواقع في ثورة ظفار العام 1977، لم يكن في باله أن تدريس تلاميذ الثورة وحمل السلاح هو أقل؛ بل وأسهل مهمة قام بها! ففي مدينة الغيظة الواقعة أقصى شمال جنوب اليمن كانت امتحانات الشجاعة والرجولة أمامه كل يوم، بينما التجارب والمغامرات تخاض من دون توقف، وأحياناً بالمصادفة. لكن من يصدق أن هذه الثورة الجميلة حاولت اغتيال أحد تلاميذها! هل جنت الثورة؟ أم انها راحت تأكل أبناءها؟ لقد كانت ظفار حلماً، ثم كابوساً، وبعد ذلك أسطورة في الذاكرة لا تنسى أبداً».

حتى إصداراته: «خليج الحكايات» (1993)، «صدمة الاحتكاك، حكايات الإرسالية الأميركية في الخليج والجزيرة العربية، 1829 - 1952» (1998)، والذي نال شهادة أكثر الكتب انتشاراً في بريطانيا بحسب تقييم الصحف العربية في لندن، «تلك الأيام» (1986)، «حكايات وصور من بدايات البحرين» (1987)، «رجال في جزائر اللؤلؤ (1991)، «القوافل، رحلات الإرسالية الأميركية إلى مدن وقرى الخليج والجزيرة العربية» (1993)، «مرفأ الذكريات، رحلات إلى الكويت القديمة» (1995)، وغيرها من الإصدارات، لم تبْرح اهتمامه الأول، وانكبابه الذي يبعث على الإعجاب بذلك النَفَس الطويل، والجلَد الذي لا يعرف التبرُّم، وهي موضوعات لا تتحقق بتوافر الوثائق وحدها كي يتم إنجازها كما يعتقد كثيرون، بقدر ما هي مَهَمَّة تتطلَّب الكثير من الفحص والمقاربات، وامتلاك ناصية اللغة التي لا تتحمَّل أي نوع من الخيانة في التعامل مع الوثيقة وما يرتبط بها.

من ضمن إصداراته، «عبدالعزيز الشملان في سانت هيلانه 1956 - 1961... يوميات المنفى»، والذي يظل واحداً من الكتب التي ترصد الحراك الوطني بشخصياته التي كانت مُؤثرة في تاريخ مفصلي وحاسم في البلد. وهو بذلك لا ينفك عن الحفر في الذاكرة البحرينية، اشتغالاً لا يعرف الكلل، وهو بذلك الاشتغال ينتمي إلى وعي متأصّل وإدراك بأن تحصين الذاكرة وعدم تركها في مهبِّ النسيان، واحد من الطرق التي فيها تأكيد الوجود وتثبيته.

وفي هذا السياق، لم يكُ اشتغاله ضرباً من حرصه على تراكم السيرة لديه - سيرته الشخصية - فيما أنجز وينجز، بقدر ما هو اشتغال على سيرة المكان والبشر والتاريخ، بكل ما يضجُّ فيه من إنجاز وفرح وخيبات ومواجهة وتقههر في كثير من الحالات. لكن المضيء من تلك السيرة هو ما يدفعه إلى الاستماتة في هذه الطريق.

وفي واحد من إصداراته المهمة التي جاءت في خمسة أجزاء، ورصد فيه تاريخ الروَّاد في الصحافة البحرينية، عبَّر عن وفاء نادر لبشر وضعوا اللبنات الأولى لهذا الحقل، وتعلَّم منهم درساً ضمن ما تعلم، وكان لابد أن يكون وفيَّاً للممارسة بالوفاء للذين فتحوا نافذة وأفقاً في مهنة الصحافة، وفي وقت مبكِّر من تاريخ البلاد.

شهادات

تعدَّدت الشهادات التي قيلت في الراحل الكاتب والصحافي والمؤرِّخ خالد البسام، من خلال وسيلتي التواصل الاجتماعي: «فيسبوك» و «تويتر»، بعضها كان مباشراً، وبعض آخر ذهب عميقاً في تبيان ما للرجل من مكانة ودور في مرحلة كانت حساسة من تاريخ الوطن. الكاتب والصحافي حسين مرهون كتب على صفحته في «فيسبوك»: الصديق خالد البسَّام وداعاً. الكلمات وحدها لا تكفي لوصفك. فذَّاً كنت لفرْط طيبتك. مؤلفاً، مؤرِّخاً، وصحافياً؛ لم ينل هذا الغلاف الفخم من تواضعك الجمّ. حتى أن ذلك كان يخجلك، نحن الذين كنَّا في عمر أولادك أو تلاميذك. بسيطاً كنتَ، وعادياً مثل كل الناس. (زرْني يا حسين، زرْني في أي وقت)، في هذا الصباح عاودتْ كلماتك الطرْق في أذني. اليوم فقط اكتشفت أن كثيرين يقولون عنك الكلام نفسه. لعلَّك كنتَ تودُّ القول (لا تتركوني وحيداً). دقائقي الباقيات لا تدَعوها وحيدة، أنا ابن الناس، املأوها. الرحمة لروحك بقدر البهجة التي أدخلْتها في قلوب الناس. الرحمة عليك بقدر براعتك في إبعاد نفسك عن حفلة «الكراهية» و «التحريض» التي شاهدنا كثيراً من أبناء جيلك يسقطون فيها».

فيما كتب الأمين العام لجمعية العمل الديمقراطي (وعد)، رضي الموسوي، على صفحته في «تويتر»: «لم يلوِّث المرحوم خالد البسَّام بالتحريض وبث الكراهية التي تكثر في صحافتنا المحلية دون حسيب أو رقيب، فاستحقَّ محبَّة الجميع».

أما بدر الراشد فكتب على صفحته في «تويتر»: «يؤلمك رحيل أشخاص لا تعرفهم، تشعر بأن الكون فقد روحاً جميلة، حتى مع عدم وجود أي تماس شخصي معها».

وعلى صفحته في «تويتر» كتب راشد الجاسم: «فقدت البحرين والأسرة الأدبية والثقافية، ابناً بارَّاً وأخاً عزيزاً. رحم الله الأديب والكاتب والصحافي والمؤرِّخ خالد البسام».

وعلى مدوَّنته، كتب الباحث وسام السبع قبل سنوات، وتحت عنوان «خالد البسام ... راوي الحكايات المفتون بالهوامش المنسية»، ضمن تقديمه للقاء مطوَّل أجراه مع الراحل ونشر في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2012: «البسَّام كان بالنسبة لي ولا يزال، قرين أسماء صحافية لامعة في الوطن العربي حققت شهرتها ونجاحها الكبير بفعل فرادة أسلوبها السهل الممتنع، واحترامها لمهنة المتاعب بوصفها تعتمد على رأس مال معرفي في المقام الأول، قوامه الاطلاع الواسع والقراءة المستمرة والعكوف الدائم على جديد المطابع، كان البسام هو الوجه الآخر لعبقرية الإبداع الصحافي ككاتب عمود (...)».

وعلى موقع «العربي الجديد»، كتب بدر الراشد، يوم الأربعاء (10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015)، ضمن خبر رحيله «في كتاباته، يختلط تأريخ المنطقة بتأريخه العائلي والشخصي؛ حيث لم يمنع اهتمامه بتاريخ الخليج، من التأريخ لإرثه العائلي، ووضعه في سياق أعمّ من الحكايات الشخصية، كما في كتابه (النجدي الطيب) الذي سرد فيه قصة هجرة جده من نجد إلى البحرين، في إطار يتطابق مع حال عائلات نجدية كثيرة، تنقلت هنا وهناك».

مشيراً إلى أن «الصحافة، بالنسبة إليه، توثيق للحظة، والكتابة التاريخية تقدّم (لحظات) أقْدَم، وبشكل أعمق وأكثر رصانة وشمولاً. بينما يأتي التأريخ بالسرد الروائي، كحالة أكثر تعقيداً، تجمع بين التوثيق التاريخي، ودفء الكتابة السردية، تلك التي تُبرز التفاصيل وتحفل بالهوامش».

رحم الله خالد البسَّام، وبيقين عمَّقته التجربة، أن الذين يمتلكون ناصية قلوب الناس، يكون الغياب عصيِّاً عليهم؛ إذ هم في قلب الحضور، والمحرِّك للدافعيات النبيلة فيه.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً