العدد 4835 - الأربعاء 02 ديسمبر 2015م الموافق 19 صفر 1437هـ

الفتنة الثانية

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ما أكثر الفتن في تاريخنا الإسلامي. فتنٌ كُفِّرت فيها أمم وأريقت بسببها دماء وحُزِّبت في سبيلها جماعات. ورغم انعكاسات تلك الأحداث على أوضاع المسلمين، إلاَّ أن ما زادها ألماً هو توظيف الأتباع لتلك الخلافات، وتسعيرها بالنار كلما حاول التاريخ أن يمسح من آثارها السلبية على الأمة.

في هذه الأسطر، سأعرض إلى إحدى فتن الإسلام الكبرى، مستعرضاً في سبيل ذلك كتاب الباحثة التونسية الدكتورة بثينة بن حسين والذي أسمته: الفتنة الثانية في عهد الخليفة يزيد بن معاوية، وهو يغطي الفترة الممتدة من سنة 61هـ (680م) إلى سنة 64هـ (683) ثم السنوات التي تلت ذلك.

الكتاب مهم جداً، ويحوي معلومات جديدة وربطاً للأحداث الدينية والسياسية والاجتماعية بطريقة لافتة وجدليّة. كما أن الأهمية «الأهم» للكتاب تكمن في أن الباحثة لا توجد لديها دوافع مذهبية أو طائفية، فتراها تسرد الروايات التي يقبلها ويرفضها الطرفان المؤيدان والمعارضان معاً.

يقع الكتاب في 700 صفحة في القطع الكبير، وبه قسمان: الأول يتحدث عن الفترة الأولى من الفتنة برفض الحسين بن علي بن أبي طالب وعبدالله بن الزبير بن العوام وعبدالله بن عمر بن الخطاب وعبدالرحمن بن أبي بكر الصديق وعبدالله بن عباس بن عبدالمطلب البيعة لـ يزيد بن معاوية ويضم ستة فصول. أما القسم الثاني فهو يتطرق للوجه الجديد للفتنة بعد مقتل الحسين في ثلاثة فصول.

لقد أبْلَت الباحثة بلاءً حسناً في هذا البحث رغم تعقيداته وتشعبه، بعد أن لاحقت تفاصيل التفاصيل في تلك الأحداث. فأغلب الموضوعات التاريخية غاية في التعقيد. والسبب، أنها تحوَّلت إلى مسائل جدلية، نتيجة تداخل الشَّأنين الديني والسياسي فيها.

وعندما يدخل الدِّين إلى الأفكار تتحوَّل مباشرة إلى أفكار مقدسة. وعندما تدخل السياسة إلى الأفكار تتحوَّل هي الأخرى إلى أفكار مقدسة كالدِّين تماماً. عندها تغيب الحقيقة فيصبح المشهد مؤدلجاً فمُدْلَهِمّاً بالكاد يرى المرء كفّه فيه. وهو حال الفتن التي إذا أقبلت شبَّهت وإذا أدبرت نبّهت.

ما يُميِّز هذا السِّفْر هو أنه جديد بما للكلمة من معنى. فهو يناقش التاريخ برؤية معاصرة ومختلف عن كثير من الكتابات التاريخية التي تحدثت عن تلك الفترة من تاريخ الإسلام، إما بذهنية مسبقة، وبالتالي انحيازها المطلق، أو بسبب عدم تأنِّيها في ملاحقة المعلومة المُوَلِّدة لمعلومة أخرى وهكذا.

فـ بثينة بن حسين هي باحثة وأستاذة جامعية. وشهادة الدكتوراه التي نالتها قبل سبعة عشر عاماً كانت في التاريخ الوسيط الشرقي. وكان جِدُّها وتخصصها قد انعكسا على نتاجها في التأليف سواء في هذا الكتاب أو غيره والذي في معظمهم كانوا للحديث عن الدولة الأموية. لكن وفي نفس الوقت توجد ملاحظات على الكتاب تتعلق بالتركيز على بعضها دون غيرها.

تَعتَبِر الباحثة موضوع الفتنة أنه أصبح جزءاً من «هويتنا الثقافية». فالتعدد «المذهبي الذي نعيشه» حتى الآن ما هو إلَّا امتداد لذلك. فالانقسام قد أفرز المذاهب، ثم تلا ذلك فرز آخر، نتيجة تشعب الفتن ومجيئها على عناوين أخرى غير تلك التي كانت عليها في الصدر الأول من الإسلام.

تشير الباحثة إلى نظرة العرب إلى الحكم وفقاً لروايات ذكرها البلاذري، وكيف أنهم كانوا يشعرون «بالأنفة والاستقلالية تجاه السلطة». ثم تذكر نصاً لمعاوية بن أبي سفيان يقول فيه: «لا أضع لساني حيث يكفيني مالي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، فإذا لم أجِدْ من السيف بُدّاً ركبته». ومن ذلك تفصِل بين عهود الحكم الأموي حقبة بعد أخرى.

في ثنايا البحث، تقف بثينة على مظاهر في السلطة الإسلامية بعد الخلافة الراشدة كان لها وقع أوَّلي على النظرة للسلطة من قَبِيل مظاهر المُلك والتوريث حيث إن قريشاً لم تعهد سوى «انتخاب الأكثر شرفاً والأكبر سناً»، بينما التوريث كان مُتبعاً في اليمن وعند ملوك المناذرة والغساسنة.

لكن وفي نفس الوقت تتعرض الكاتبة إلى طبائع المجتمعات في تلك الفترة ونظرتها لأشكال الحكم، فتقول بأن منطقة الشام التي كانت معتادة على الحكم المَلَكِيْ كانت أكثر تقبلاً لفكرة التوريث من غيرها، وهو أمر لم يكن ينطبق على منطقة الحجاز وعموم شبه الجزيرة ما خلا جنوبها، وكذلك رفض أرض العراق لها لأسباب دينية وسياسية تتعلق بنفوذ البيت العَلَوي فيه.

لقد رأت قريش وأبناء الصحابة أن دخول عادات البيزنطيين والساسانيين على تقاليد الحكم والحاكم في الدولة الإسلامية منحى خاطئ. ووصلت الاعتراضات من داخل البيت الأموي على ذلك، كما حصل من عبدالرحمن بن أم الحكم والي الكوفة.

إن مبدأ الشورى الذي أرساه الخليفة عمر بن الخطاب كان هو المعيار الذي ارتضاه الرأي العام في قريش وأبناء الصحابة، لذلك كان الوضع السياسي على هذا السَّمت والقوة التي جعلت غيره من المشاريع السياسية في إدارة الحكم كالتوريث لأن تقع في دائرة التشكيك بل والمناكفة.

تتحدث الكاتبة كذلك عن اللوبيات التي كانت تعمل بالقرب من كرسي الحكم، والتي كانت تدفع وتُشجع على القيام بأعمال ربما لم يكن يفكر فيها الخليفة بما فيها التوريث. كما تستعرض أجنحة السلطة المتصارعة أو المتنافسة، ثم السياسات التي كانت تُتّبع من أجل استرضائها أو ضربها.

في المحصلة، الكتاب جدير بأن يُقرأ كونه يطرح أشياء جديدة حتى ولو بقيت محل نقاش. فالتاريخ يجب أن يُناقَش كتاريخ لا لكونه معركة لا تنتهي.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4835 - الأربعاء 02 ديسمبر 2015م الموافق 19 صفر 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 13 | 8:20 ص

      معركة كربلاء وقعت عام 61 للهجرة ، يعني قبل اربعة عشر قرنا من الزمان

      وما زالت احداثها ونتائجها موضع خلاف وجدل بين المسلمين السنة والشيعة .. كانت معركة (والاصح تسميتها بالمجزرة) غير متكافئة البتة بين جيش عرمرم يزيد قواه عن ثلاثون الف جندي تحت قيادة عمر بن سعد وجيش او الاحري جماعة او عائلة الامام الحسين عليه السلام وعدد افراده 72 فقط . السؤال لماذا هذا الخلاف بين المسلمين في احداث وقعت قبل 14 قرنا من الان؟ لابد من مستفيد او رابح من اذكاء الفتنة ولكن هل من عاقل؟

    • زائر 12 | 5:54 ص

      الله سبحانه

      الله سبحانه امر الرسول \\ص\\ بعد رجوعه من اخر حجه اليه ان يعلن للناس من هو خليفته والكل يعرف فى كتب السنه والشيعة انه الرسول نصب امير المؤمنين علي بن ابى طالب عليه السلام خليفة من بعده حينما قال من كنت مولاه فهدا على مولاه ...

    • زائر 14 زائر 12 | 8:21 ص

      والرسول( ص)

      "لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى" تنصيب علي خليفة بعد الرسول امر من الله

    • زائر 11 | 1:14 ص

      هذا النص موجود في مصادر التاريخ وهو ما يعني ان الحسين ع لم يشأ الحرب ولا القتال

      ينقل الطبري عن المجالد بن سعيد والصقعب ابن زهير الازدي وغيرهما من المحدثين أن مما قاله الحسين عليه السلام لقادة الجيش الاموي الذي اعترضه قبل وصوله الكوفة: إما أن أرجع إلى المكان الذى أقبلت منه وإما أن تسيروني إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلا من أهله لى ما لهم وعلى ما عليهم 

    • زائر 10 | 1:10 ص

      خلاف سياسي

      خلاف سياسي لا دخل لنا فيه أبداً لذلك فل نطبق قوله تعالى( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون)

    • زائر 9 | 12:20 ص

      من قال ذلك ؟

      " التاريخ يجب أن يناقش كتاريخ لا لكونه معركة لا تنتهي " هذا إذا كانت ارتدادات ذلك التاريخ لا تضرب في عمق الفطرة الإنسانية وخط الله القويم فنعم، أما في حالتنا هذه فهي تمثيل حقيقي للصراع بين الحق والباطل، مثلها مثل ما جرى بين آدم وإبليس، وهابيل وقابيل، لا يمكن للمرأ أن يتجاوز هذا التاريخ،؛ لأن عليه أن يحدد موقفه: إما من أبناء الدنيا أو الآخرة.

    • زائر 8 | 12:09 ص

      أين هي الشورى في خلافة الخليفة عمر ثم عثمان ومن بعده؟

      الدساتير والمبادئ توضع لكي تمارس لا لكي تمارس مرّة واحد ثم تخالف.
      ما هو مبدأ الشورى ومتى مورس ومن يحقّ له التصويت ومن لا يحقّ له
      ولماذا تتفرّد فئة من المسلمين بالقرار بينما يتم تجاهل باقي المسلمين؟
      لو كانت الشورى صحيح فلماذا لم تمارس الا مرّة واحدة؟
      هل جاء الخليفة عمر للخلافة بالشورى أم بالتعيين؟
      واذا كان التعيين من حصافة رأي الخليفة ابي بكر فهل هذه الحصافة تنقص مقام النبوة وهل خوف الخليفة ابي بكر وحرصه على المسلمين وادراكه للخطر على الأمة أكثر من خوف النبي وحرصه على الامة

    • زائر 6 | 12:02 ص

      استريح يالخال

      استريح يالخال

    • زائر 3 | 10:56 م

      صراع سياسي بحت

      صراع سياسي بحت بين شخصين كل واحد منهم يعتقد ان الحق معه في حكم الامة فهو صراع على السلطة لا اكثر و لا اقل

    • زائر 7 زائر 3 | 12:08 ص

      رد على المعلق رقم 3

      معركة كربلاء هي معركة حق ضد باطل فيزيد لم يكن حاكما شرعيا وانما نصبه ابوه بقوة السلاح وهو لا يفقه من الدين شيء وبادر بالتخلص من كبراء الامة وبالاخص الامام الحسين عليه السلام الذي قال قولته المشهورة أني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا ظالما ولا مفسدا وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي رسول الله ص اريد ان اءمر بالمعروف وانهى عن المنكر...فلا نخلط بين الحق والباطل لتظليل الناس

اقرأ ايضاً