العدد 4839 - الأحد 06 ديسمبر 2015م الموافق 23 صفر 1437هـ

مقبرة الفلاسفة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

مقبرة الفلاسفة. أو بالفرنسية: Cimetière des Philosophes. هي واحدة من أهم معالم فرنسا التي يزورها السائحون. لا أعلم إنْ كان الرقم 280 ظلّ على حاله، كتعداد للراقدين بهدوء في أرضها من الفلاسفة الكبار، أم أن العدد قد زاد، إلاَّ أن ذلك لا يمنع من أن ترى فيها تاريخ فرنسا الثقافي والسياسي، منذ مئات السنين، والذي شَكَّل صورتها كعاصمة «أنوار العقل» الأوروبي كما يُقال.

ربما لم يكن كل أولئك على كَتِفٍ واحد من «الأخلاقية» مع تذكر وقوف لويس دو بونال، وفرانسوا دو شاتوبريان، وجوزيف دو مستر ضد التغيير والإصلاح السياسي في فرنسا، لكن هناك الأغلب ممنْ وقف مع التغيير، ووقف ضد كولونيالية نابليون. بل إن المسألة أوسع من تلك المواقف السياسية بكثير. فهناك، مَنْ سبق الثورة الفرنسية كـ فولتير وجان جاك روسو وفولتير ودنيس ديدرو، وغيرهم.

وأمام ذلك كله، فإنني أستحضر مشاهد تلك القبور وشواهدها وتأثير أصحابها الفلسفي والسياسي والقانوني على العالم، في الوقت الذي أشاهد فيه أحوال فرنسا اليوم وأصْفِق راحاً على راح. إنه لأمر عجيب فعلاً. فـ فرنسا الحاضر وضْعُها لا يسر وهي تقود سياسة مضطربة ضد الشرق، لا تخلو من العدوانية، رغم تعاطفنا اللامحدود مع الشعب الفرنسي ضد الإرهاب الأسوَد.

قبل أيام، نشرت مجلة ألمانية (Der Spiegel) تحقيقاً خطيراً جداً، يقول بأن «شركات أوروبية تقدم الوسائل التقنية والخدمات عبر وسطاء» أتراك في منطقة هاتاي وذلك «لتشغيل الإنترنت عبر الأقمار الصناعية في مناطق داعش بسورية والعراق». الغريب في الأمر أن من بين تلك الشركات المزوِّدة لـ داعش بالإنترنت هي أويتل سات الفرنسية إحدى أهم ثلاث شركات في العالم ضمن هذا المجال.

ويضيف التقرير أن «أغلب منظومات الاتصال بالانترنت عبر الأقمار الصناعية، مصنوعة في الولايات المتحدة الأميركية وشرق آسيا، وتُورَّد إلى منطقة الشرق الأوسط عبر روتردام الهولندية بتكليف من شركات تتخذ من باريس ولندن ولكسمبورغ مقرات لها» مشيراً (أي التقرير) إلى احتمالية «أنها تشاطر معلوماتها مع أجهزة المخابرات الأوروبية».

وإذا ما علمنا أن الحكومة الفرنسية تمتلك وعبر بنك كايسي دي بوتس أزيد من من 26 بالمئة من أسهم أويتل سات، فإن هناك مساعدة فرنسية للتطرف (بشكل مباشر أو غير مباشر) على نشر دعايته عبر الانترنت، وهو ما جعل الصحيفة الألمانية تصف ذلك على أنه: عار على أوروبا. وهو فعلاً عار يجعل منا وضع علامات استفهام لكل هذا المشهد القاتم للعلاقات السوداء في العالم الخفي.

الحقيقة أن هذا الأمر غير مفهوم مطلقاً ولا يوجد له تبرير. إذْ كيف يستقيم تعرُّض فرنسا لهجمات إرهابية في الوقت الذي توجد فيه شركات فرنسية تقدم خوادم إنترنت لذات العدو الذي يتعرّض لها في أمنها القومي؟! وإذا كانت مسارات المراقبة داخل هذه الشبكة في متناول اليد بالنسبة لمنتجيها ومورّديها فمن المؤكد أن نظاماً استخباراتياً كالموجود في فرنسا قادر على التقاط كل شاردة وواردة في تلك المسارات ومَنْ يستخدمها، لكنه لا يفعل أو يتساهل أو يغض الطرف!

قبل سنتين من الآن كُشِفَ النقاب عن أن الولايات المتحدة الأميركية قامت وفي شهر واحد بـ 125 مليار عملية تجسُّس حول العالم. وقبل فترة، عُلِمَ أن الاستخبارات البريطانية لديها خط استخباراتي يمتد من ممر خيبر في جبال هندوكوش على الحدود بين باكستان وأفغانستان ومروراً بإفريقيا حتى آخر نقطة في العالم، وأن 12 دولة أوروبية مرتبطة به من بينها فرنسا، لذلك من المعيب أن يُقال إنهم لا يعلمون عن تلك الخوادم التي يتحدّث من خلالها تنظيم داعش إلى العالم بحرية.

هذا الأمر فضيحة فعلاً، لكنهم لا يعترفون بذلك ما دامت المعادلات الاستخباراتية تُحاك وتُصاغ بطريقة تخدمهم. أقصى ما يمكن للمرء أن يفعله هو أن يفتح أمام ذلك الأسئلة الكبيرة: كيف حصل ذلك وأنتم القادرون على معرفة مَنْ يتحرك بدراجة هوائية في زيمبابوي! وعبر الأقمار الصناعية تكتشفون أن اليابانيين مازالوا يصيدون الحيتان في القطب الجنوبي رغم الحظر!

عندما تحدث مدير الاستخبارات الفرنسية (الإدارة العامة للأمن الخارجي دي جي إس أيه) برنار باجوليه في المؤتمر الذي نظمته جامعة جورج واشنطن الأميركية وقال فيه بأن «الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة»، وأن دولاً كـ «العراق وسورية لن تستعيد أبداً حدودها السابقة»، هو يعلم ماذا كان يقصد من ذلك. ولو لم يريدوا لهذا الشرق أن يتشظَّى لفعلوا شيئاً في سبيل ذلك، لكنهم أرادوا لما قسَّموه بعد الحرب العالمية أن يتقسّم من جديد على شكل هويات فرعية لا جامعة. إنه أسفٌ كبير أن تتحوَّل السياسات الفرنسية إلى طموحات إمبريالية فجَّة تجاه أوطاننا.

لا يمكن أن يقبل الشرق بأن يُتعامل معه بهذه الطريقة التي يختلط فيها التآمر بتقديم برامج وشعارات التمدّن والحضارة. فنحن لا نريد الـ 167 عالماً ومفكراً ممن جاء بهم نابليون إلى مصر ما دامت الحملة ذات نَفَس استعماري. نحن نريد لفرنسا أن يعود لها لازار كارنو ومونج ولافوازييه، وأن يعود لها نورها الذي شَعّ في العالم، والتي مازالت مقبرة الفلاسفة شاهدة على ذلك.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4839 - الأحد 06 ديسمبر 2015م الموافق 23 صفر 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 1:52 ص

      ثلاث قوى شرقية في مواجهة الغرب

      الثلاث قوى الشرقية التي تستطيع مواجهة الغرب هي:
      1) الروس
      2) الفرس
      3) الأتراك
      هذه القوى الشرقية تتنافس فيما بينها و تكيد لبعضها البعض و لكنها أيضا في مواجهة مع الغرب. الغرب وصل إلى مرحلة الشيخوخة و هو مقبل على مرحلة الموت حسب نظرية أوزوالد شبنغلر. الشيء الوحيد الذي يتفوق فيه الغرب على الشرق هو سلاح الجو، إذا استطاعت القوى الشرقية صنع طائرات حربية مقاتلة متفوقة على ما يوجد لدى الغرب، فالنصر بكل تأكيد يكون حليفها.
      يجب على الشرق أن يتقن علوم المعادن و فنون الصناعة أولا لكي يدحر قوى الغرب.

    • زائر 5 | 12:40 ص

      يا محمد، كلامك مجرد تمنيات ... لو كنت مكان الغرب لفعلت أكثر مما يفعلون!

      الغرب و الشرق في صراع أبدي، شئت أم أبيت ... فكرة أننا نعيش في سلام و أمان هذه فكرة رومانسية لا تصلح إلا في الأحلام أو الأفلام ... عندما كنا أقوياء، قمنا نحن المسلمين باحتلال أسبانيا و المجر و صربيا و اليونان ... هم تفوقوا علينا و فعلوا بنا ما كنا نفعل بهم .... هذا هو الموضوع ببساطة!
      ما نحتاجه اليوم هو التفكير في طريقة تنتشلنا من تخلفنا نحن معشر الشرق، لنفعل بالأوربيين ما يفعلونه بنا اليوم و نخضعهم و نضعهم تحت سلطاننا.
      هذه هي سنة الحياة. الصراع باق ما بقي الليل و النهار.

    • زائر 4 | 12:28 ص

      أرجوك لا تتقوقع!!!

      إن من يقرأ ما كتبته اليوم أيها الكاتب القدير، وهو من دعاة عدم ربط الأحداث الجارية على الأرض بنظرية المؤامرة، لن يعجبه ذلك وسيتهمك بأنك متقوقع في بوتقتك ومنغلق على نفسك، وأنك لا تعالج مشكلاتك من الداخل، إن العالم، كما هو واضح، يدار من قبل سماسرة المال وأصحاب الشركات العابرة للقارات، وبعدها يقال لك عليك ألا تؤمن بنظرية المؤامرة، إنه لأمر عجيب حقًّا!!!؟

    • زائر 3 | 12:02 ص

      راجعوا سياساتها في الجزائر قبل عشرين سنة فقط

      الذي يريد أن يعرف سياسة فرنسا مع الارهاب فعليه أن يتذكر سياساتها تجاه فرنسا خلال القتال الدامي في تسعينيات القرن الماضي في الجزائر عندما قام الاسلاميون المتطرفون بهجمات ارهابية على المدنيين

    • زائر 1 | 11:20 م

      سترواي

      في محورين في المنطقه محور مستعد التعاون مع الاستعمار البريطاني الفرنسي الأمريكي الجديد في المنطقه من اجل التقسيم للا سف هم عرب بي التعاون مع تركيا او في محور المقاومة هو متنوعه يمتد من ايران الى روسيا سوريا حزب الله مع الشرفاء من ابناء المنطقه يقدم الشهداء من اجل وحدة العرب وعليكم ان تنصفه في مقالاتكم

اقرأ ايضاً