العدد 4860 - الأحد 27 ديسمبر 2015م الموافق 16 ربيع الاول 1437هـ

ميونيخ... رفيقة الزمن وحاضنة أفراح الناس وهمومهم!

الوسط – محرر المنوعات 

تحديث: 12 مايو 2017

في مطارها لافتات وإرشادات باللغة العربية، منها لاسترجاع ضريبة القيمة المضافة على المشتريات التي تكون في عهدة أصحاب المال والثراء ، وفق ما نقلت صحيفة "الحياة" اليوم الإثنين (28 ديسمبر / كانون الأول 2015).

وفي محطات قطاراتها لافتات باللغة العربية أيضاً لإرشاد اللاجئين القادمين من بعض البلدان العربية على كيفية الحصول على تذاكر مجانية للتنقل بالقطار داخل الأراضي الألمانية. فمن السياحة والعيش في أحضان المدن برفاهية تامة، إلى الهروب من الحرب وويلاتها واللجوء إلى ديار الغربة لبدء حياة جديدة، يتوه الزائر بين شريحتين مختلفتين من العرب القادمين إلى العاصمة البافارية.

ولكن مهما تنوعت أوضاعهم الاجتماعية، فمدينة ميونيخ تبتسم للجميع لتهب كل من تطأ قدماه ربوعها استقبالاً ودوداً وحاراً.

 

اليوم الأول

«كورينا» المسؤولة عن ترويج مطار ميونيخ في العالم كانت في انتظاري على أرض المطار، حيث ترافقنا بجولة سريعة لأتعرف على التقنيات الحديثة التي جهزت لتواكب متطلبات وحاجات السياح. والمطار هو بمثابة صورة مصغرة عن ألمانيا من حيث التنظيم والتطور. فبالإمكان الوقوف أمام إحدى نقاط الاستعلامات الإلكترونية المتوزعة في أروقته والضغط على أحد الأزرار، لتطل عبر شاشة كبيرة فتاة ألمانية تسألك بلطف عن مطلبك! فإذا أردت على سبيل المثال خارطة المدينة، أو عنوان فندق أو لربما الاستفسار عن أي شيء آخر، فإنها خلال ثوان معدودة تكون قد طبعت المعلومات المطلوبة، لتستلمها من الآلة التي تكون واقفاً أمامها. وأمام إحدى الشاشات طلبت «كورينا» ممازحة خدمة الحصول على عنوان مطعم «أيربراو» Airbräu التابع للمطار. وبعد أقل من ثلاث دقائق كنا داخل المطعم.

من جديد إلى وسط ميونيخ بعد غياب قارب السنة. ومن جديد أجد نفسي في بهو فندق «سوفيتيل ميونيخ بايربوست» Sofitel Munich Bayerpost الذي يجمع بين سحر الأبنية التاريخية والتصاميم المعاصرة ذات السمات الفرنسية. وفي حال تساءلتم عن سبب تسمية الفندق باسمه الحالي، فسيأتيكم الجواب سريعاً من جميع العاملين فيه بأن مكاتب البريد الملكي البافاري كانت مكان الفندق الحالي لغاية عام 1993. فبعد ذلك التاريخ بدأت عملية تطوير المبنى على طراز عصر النهضة الإيطالي، فوُسّع هيكله الحالي ليضم قاعات فسيحة وأسقفاً عالية و396 غرفة بينها 57 جناحاً تتسم بديكورها العصري الأنيق.

استراحة طويلة في جناحَي المشرف على جبال الآلب، لم يوقظني منها سوى رنين منبه هاتفي النقال الذي جاء ليذكرني بعدم نسيان موعد العشاء. وبسبب موقع الفندق على مقربة من محطة القطارات الرئيسية، فإن الساحة المترامية أمام المحطة هي مسرح مفتوح لمئات الشباب الذين هربوا من بلادهم طالبين اللجوء السياسي أو الإنساني في ألمانيا. عرفتهم من سماتهم وأحاديثهم التي سمعت جزءاً منها وأنا أمر بينهم قاصداً الحي القديم.

تابعت سيري قاصداً ساحة «مارين بلاتس» Marienplatz النابضة أبداً بالفرح واللحظات السعيدة، تاركاً ورائي ساحة مشحونة بهموم وشجون شبان من عالمنا العربي. وها أنا أمام مطعم «راتسكيلير» Ratskeller أنزل أدراجه ليستقبلني «بيتر فيزار» الوجه الأول الذي يمكن أن يرحب بكم عند وصولكم إلى ذلك المطعم الذي لا يزال قائماً في الطابق السفلي من مبنى البلدية منذ عام 1874. فالعلاقة بين عائلة «فيزار» والمطعم طويلة وترجع إلى تاريخ افتتاحه - فجده كان يدير المطعم، وكذلك والده، والآن جاء دوره بحيث لا يزال يشغل ذلك المنصب منذ ما يقارب الأربعين عاماً. فجميع رواد المطعم يعرفونه ويعرفهم، حتى باتوا يسألون عنه قبل اختيار طبقهم المفضل.

قد يتعجب زوار «راتسكيلير» للمرة الأولى من مساحة المطعم الهائلة التي تستوعب حوالى 1200 شخص. فكل زاوية فيه تختلف عن الأخرى من حيث الديكور التقليدي المزيّن بالقناطر، إلى الرسومات التي ترتاح على جدارنه الملوّنة لتترك المكان يضج بالحياة والألوان البهية. وعلى رغم مقدرته على استيعاب المئات دفعة واحدة، فإن ذلك لا يؤثر في السرعة في تلبية مطلبكم، لتتناولوه على إيقاع الموسيقى والهتافات والأغاني المستوحاة من الفولكلور المحلي.

 

اليوم الثاني

المرشد السياحي «إيف» كان ينتظرني في بهو الفندق لأزور معه أماكن عهدتها من قبل وأخرى للمرة الأولى. و»إيف» شاب فرنسي ترك فرنسا منذ زمن بعيد بعدما اقترن بفتاة ألمانية. يتكلم عن ألمانيا وبالتحديد عن ميونيخ بشغف كبير، حتى تخاله وكأنه الناطق الرسمي باسم المدينة. رافقته إلى قصر «نيمفنبورغ» Nymphenburg Palace الذي كان المقر الصيفي لملوك «فيتلسباخ» الذين حكموا مملكة بافاريا لأكثر من 700 عام - أي لغاية انضمام بافاريا رسمياً إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية عام 1918، لتشكل اليوم إحدى الولايات الألمانية الستة عشر.

في رحاب القصر لمست مظاهر الثراء والترف التي كانت تحظى بها أسرة «فيتلسباخ» على مر العصور. فكل قصور ميونيخ ومتاحفها وجاداتها ترقى إلى تلك الأسرة النبيلة التي جعلت ميونيخ ترتدي حلة ملوكية ستبهر عيون ناظريها. ومآثر «فيتلسباخ» المعمارية تمتد إلى قصر «ميونيخ ريزيدانس» Munich Residenz الذي يسرد الكثير من التفاصيل الدقيقة عن حياة تلك الأسرة الملكية التي عشقت مظاهر الثراء والبذخ، فشيّدت أول أقسام القصر عام 1385 ليقف اليوم شاهداً على أنه أكبر قصور ألمانيا القائمة في وسط المدن الكبرى. لربما يحتاج الزائر لقضاء أكثر من نهار لاستكشاف هذا المكان الذي عاش في كنفه ملوك بافاريا بين عامَي 1508 و 1918.

برفقة «إيف» كان المشي السريع حليفنا، لنجتاز بقليل من الوقت أهم أقسامه. دهشت من مساحته الشاسعة التي تشمل 10 باحات و130 غرفة ومسرح «كافيليوس» بنمط الروكوكو الرائع، إلى جانب متحف وخزينة أموال وصالة للعملات النقدية. وأكثر ما نال إعجابي في ذلك المكان «قاعة الآثار» The Hall of Antiquities المشيدة بين عامَي 1568 و1571 خلال فترة حكم دوق بافاريا «ألبير الخامس». مساحتها الرحبة المزيّنة بالزخارف والرسومات التي تبدأ من سقفها نصف الدائري وتلامس الأرض، جعلت منها أكبر صالة من عصر النهضة في القسم الشمالي من جبال الآلب.

إلى جانب ذلك هناك الجناح المعروف بـ «غرف البابا» التي شيّدت عام 1651 في عهد «فرديناند ماريا» أمير بافاريا المنحدر من سلالة «فيتلسباخ» أيضاً. ويحمل الجناح اسمه الحالي لأن البابا «بيوس السادس» الذي يعتبر رابع أطول البابوات على كرسي البابوية في الكنيسة الكاثوليكية أمضى فيه بضعة أيام عند زيارته ميونيخ عام 1782.

وأترك عالم القصور والكنوز الثمينة لأدخل متجراً أنيقاً يفيض بالساعات السويسرية الباهظة الثمن، والمجوهرات التي تتلألأ بألوانها البهية وتصاميمها الفريدة لتدعو المارة إلى شرائها. إنه متجر مجوهرات «هيلشر» Juwelier Hilscher الذي لم أتفاجأ بما يعرضه من قطع باهظة الثمن أكثر من اندهاشي عندما قابلت نائب المدير العام الشاب «كاي بيار تيث» الذي بدل اسمه إلى عبد الكريم، بسبب إعجابه ومحبته للعالم العربي والثقافة العربية. وعبد الكريم يتكلم بشغف عن البلدان العربية التي زارها، في الوقت الذي كان يعرض أمامنا ساعاته الفاخرة وإحداها ساعة سويسرية من ماركة «زينيث» يفوق سعرها الـ 200 ألف يورو. وخدمات المتجر الشخصية لا تتوقف هنا، إذ بالإمكان مساعدة الزبائن في استرداد الضريبة المضافة على المشتريات من خلال فرعهم في مطار ميونيخ. كما سيحظى الزبائن برعاية فردية وبالأخص ركاب الطائرات الخاصة الذين يسافرون من جناح الطائرات الخاصة في مطار ميونيخ.

 

اليوم الثالث

يطل يوم جديد. وكان يتوجب علي مغادرة «سوفيتل» لاستكشاف أحد أقدم فنادق ميونيخ التاريخية. إنه فندق «بايريشرهوف» Hotel Bayerischer Hof الذي أوجد بينه وبين المدينة حكاية طويلة ترجع إلى ما يقارب الـ 175 عاماً. يتولد الحب من النظرة الأولى لهذا المكان الذي يضم 350 غرفة بينها أجنحة عاش فيها ملوك وأمراء ورجال سياسة من مختلف أنحاء العالم. كما يتميز عن بقية فنادق المدينة بأنه يضم في طابقه العلوي مطعمه المعروف «روف غاردن» Roof Garden. وفيه يقدم الإفطار سواء في الداخل أو على شرفته المطلة على منظر شامل للمدينة المكحّلة بالمباني العريقة والحدائق الفسيحة.

في بهو الفندق الفسيح وتحت قبّته الزجاحية الضخمة التي يتسلل منها النور ليغرق المكان بالدفء والجمال، كنت انتظر «إيف» ليصطحبني إلى «هوفبراوهاوس» Hofbräuhaus. وذلك المكان ليس أحد قصور ميونيخ العظيمة أو أحد متاحفها الغنية، بل كان أحد أقدم مصانع البيرة في ألمانيا، تأسس على يد دوق بافاريا «وليام الخامس» عام 1589 ليكون في تلك الفترة خاصاً بأسرة «فيتلسباخ» الملكية. وبمرور الزمن تحوّل المصنع إلى أحد أهم المطاعم في ميونيخ. ولا تزال أسرة «فيتلبساخ» تحتفظ بطاولتها الخاصة.

جلست إلى الطاولة الملكية لأنه يمكن لرواد المطعم حجز الطاولة في حال عدم وجود أي من أفراد الأسرة الملكية، وتشاركت الفرح والأوقات السعيدة مع أهل بافاريا. وعندما سألت إحدى النساء البافاريات التي كانت تجلس على مقربة مني عن شكل الإناء المميز الذي كان يتوسط طاولتها، أخبرتني أن بعض العائلات المرموقة في ميونيخ تملك خزائن حديدية صغيرة في المطعم لتخزين أوانيهم الفخارية. فعندما تقرر تلك الأسر زيارة المطعم، تأخذ تلك الأواني إلى النادل. والطاولة التي يكون عليها ذلك الإناء الفخاري تكون منحدرة من أصول نبيلة.

شكرتها على المعلومة المفيدة، وودعتها لأسير عبر طرقات تكشف عند كل منعطف كنزاً تاريخياً يستحق الزيارة. أمام كاتدرائية السيدة العذراء «فراونكيرشه» Frauenkirche التي طبعت صورتها على الكثير من البطاقات البريدية القادمة من المدينة، وقفت وتأملت ذلك المبنى الرائع الشهير ببرجيه اللذين يقفان بكل شموخ ليداعبا سماء المدينة الصافية. وتبقى ميونيخ على رغم تاريخ تأسيسها الذي يرقى إلى عام 1158 فتاة بافاريا الشابة التي لم تعطها القرون سوى المزيد من الازدهار والتألق. فبقيت رفيقة الزمن والعروس الجميلة المسترخية وسط طبيعة غنّاء في القسم الجنوبي من ألمانيا تنتظر من يزيح الوشاح عن وجهها ليكتشف ذلك السحر الغريب الذي لا يفكّ قيوده عنها. 





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً