العدد 4883 - الثلثاء 19 يناير 2016م الموافق 09 ربيع الثاني 1437هـ

ثروتنا الغزال

هناء بوحجي comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

أكثر ما يشدّ الانتباه في باحة معبد الآداب (Temple of Literature)، الذي يعتبر أوّل جامعة أقيمت في فيتنام قبل أكثر من ألف عام لتدريس التعاليم الكونفوشيوسية، شواهد حجرية نُصبت على قواعد بشكل السلحفاة التي تعتبر حيواناً مقدساً في الثقافة الفيتنامية، وحُفر على كل منها اسم أحد العلماء الذين تتلمذوا وتخرجوا من المعبد/الجامعة ونالوا شرف الحكمة. الفيتناميون يعتبرون السلحفاة، رمز العمر الطويل ولذلك كتبوا أسماء علمائهم على السلاحف الحجرية رمزاً لتخليد أهميتهم وذكراهم.

ومع اختلاف معنى الرمز فإن ذلك الأثر الفيتنامي ذكّرني بمقولة إن «الثروة تأتي كالسلحفاة وتذهب كالغزال».

لم تأتنا الثروة هنا كالسلحفاة، ولم تهبط علينا من السماء لكنها تفجرت من الأرض على حين غرة، ذهباً أسود، لتنقلنا بسرعة ورشاقة الغزال من حال إلى حال. ذلك حين كانت الثروات السلحفائية تجد طريقها إلى الأمم بسواعد وعرق أبنائها لتعطيها القيمة والمعنى الحقيقي للثروة وتمنحهم في الوقت نفسه فرصة تدبير هذه الثروة وتمريرها ببطء لقنوات استخدامها بحكمة وتحويلها إلى ما ينفع ويبقى ويتكاثر بما يلبي احتياجات التكاثر الطبيعي لتلك الأمم.

ومنذ أيام اكتشاف الكنز الأسود الذي كان مدفوناً في أراضينا كان معروفاً أنه كنز ناضب مهما طال عمره ولذلك كانت العناوين العريضة لاستراتيجيات وخطط دول النفط دائماً هي العمل على تنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على النفط كمصدر رئيس للإيرادات الوطنية، لكن بريق الحياة الرغيدة التي كان يوفرها تدفق هذا المورد كان دائماً يتجاوز هذه الاستراتيجيات ويؤجل تنفيذها بالجدية التي كانت ستجنّب دول النفط صعوبات هذه الأيام التي تمر بها.

لم تكن الثروة النفطية نعمة مطلقة للشعوب التي تفجرت في أراضيها بل كانت امتحاناً صعباً للقائمين على إدارتها، ولم يكن السير في التنمية بخطى السلحفاة سهلاً، بينما كانت سبل السرعة تنبسط أمام أعينهم انبساطاً مغرياً مختصرة عامل الزمن ولاغية معه أهمية وضوح الرؤية على جانبي الطريق، ومعها الكثير من التأني الحكيم المطلوب في تدبير استخدام هذه الثروة وإطالة عمر قيمتها واستخدامها لبناء ثروات بديلة وجسور آمنة ومريحة للانتقال فيما بين المرحلتين.

لم يكن نضوب الثروة النفطية هو العامل الوحيد الذي كان يهدد استدامة التنمية الهشة التي بنيت سريعاً، بل يضاف إليها ريعية الاقتصادات التي قامت عليها وهو عامل يجعل مصير هذه الاقتصادات مهدداً بما يطرأ على تفضيل طرف المعادلة الآخر وهو المشتري لهذه الموارد خصوصاً والشواهد تدل على أن الاجتهاد قائم والمعامل تدور لدى طرف المشتري من أجل ابتكار بديل يحرره من العبودية لهذا المورد ليس فقط في سياق دأب البحث من أجل بديل أقل سعراً وإنما لارتفاع الكلفة البيئية لاستخدامه. هذا عدا القيمة السياسية للنفط التي تجعله سلاحاً أحدّ من السيف على الرقاب لو شاء أصحابه، والأمثلة البعيدة في التاريخ والقريبة تؤكد ذلك.

أما وقد حدث ما حدث، فلن يفيد التحسر على انقضاء وقت الامتحان الذي لم يُستعَد له بما يكفي ليؤمن النجاح، ولن يفيد اللوم كما أنه ليس مهماً التماس الأعذار لمن ائتمن على الفرص وغفل عنها وتركها تمر بين يديه.

علينا استيعاب جرعة مكثفة من الدرس الذي فاتتنا فرصة هضمه على مهل. أن نعطي الأشياء قيمتها الحقيقية وندفع الثمن المناسب لهذه القيمة فواحد من أهم أسباب زوال الثروات الناضبة هو عدم إعطائها القيمة الحقيقية التي تتناسب مع ندرتها وتم التعامل معها كمورد أبدي. ومرَّر صناع القرار هذا السلوك للناس في صورة المنافع المدعومة بتلك الأموال الناضبة فلم تكن أسعار هذه المنافع تناسب قيمتها الحقيقية القائمة على أهميتها وندرتها.

استهتر صناع القرار واستهترت طبقات الشعوب المختلفة في التعامل مع الثروات التي كانت جارية ومتدفقة تحت الأقدام، فكان الدعم أحد وسائل التدليل غير محدد المدة بحيث يتدرج معها المتلقي وفق خطط مدروسة تجعله متهيئاً ليوم الفطام الذي جاء فورياً وحاسماً، في حالتنا المحلية، لم يسمح حتى بأخذ النفس العميق الذي يمنح قوة تحمّل في اللحظات الأولى قبل بدء المشوار.

لن يختلف اثنان على أهمية وأيضاً صعوبة التأقلم مع التغيّر المفاجئ في أثمان أساسيات الحياة من غذاء وماء وطاقة ووقود بما يعطيها قيمتها الحقيقية وسنتعرض لـ «غصّات» كثيرة قد تسدّ منافد أنفاسنا مرات عديدة قبل أن نتمكن من إعادة تشكيل أنماط سلوكنا خصوصاً مع ثبات قدراتنا المالية أو ارتفاعها الطفيف في ظل التقشف الذي يكتسح الموازنات وخصوصاً مع عدم مرورنا بحملات تهيئة وتوعية عدا التوتر ووتيرته المتصاعدة الذي كانت تجلبه الإعلانات المخيفة المتتابعة عن عجوزات الموازنة والدين العام والمتبوعة بمبالغ الوفر التي ستحققها برامج إعادة توجيه الدعم أو رفعه كلياً.

وجود الدعم على السلع الأساسية منذ عقود طويلة جعله حقاً مكتسباً وأصبح مكوناً أساسياً من موازنات الأفراد، وسيشبه تخفيضه أو إلغاؤه، تخفيض المعاشات أو كمن يمد يده ويقتطع من هذه الموازنات مبالغ يعاد توزيعها حسب أولويات وطنية شاملة. وستظل عين أصحابه عليه وعلى الكيفية التي سيتم بها إعادة توجيهه.

ومادام الجميع قد صار عليهم دفع ثمن ما تقدم وما تأخر وأوصلنا إلى الظروف التي نمر بها، والبعض سيكون الثمن شديد الوطأة عليه، فلن يقوّي على المضي ومحاولة التأقلم سوى الشفافية في توجيه هذه المبالغ ودرجة عالية من الحكمة والعدل في أوجه الإنفاق التي توجه لها. المسئولية ستكون كبيرة ودقيقة لمن سيمسك بدفة المركب الذي سيحمل الجميع، مختارين ومضطرين، وسط هذا البحر الهائج.

إننا نمر بوضع هو الأصعب منذ عقود، فلم نرفع رؤوسنا بعدما مر علينا خلال السنوات القليلة الصعبة الماضية، سياسياً ومجتمعياً وما ترتّب عليه من أوضاع اقتصادية غير مريحة. الشقوق والشروخ تملأ الطرقات والقلوب ولازلنا نتلمس طريقاً وعراً كي نخرج من هذه الأوضاع، ولكنها أبت إلا أن تسوء وتضعنا في امتحانات جديدة ستحتاج منا إلى الكثير من المراجعات والكثير من الحكمة ليس من أجلنا فقط ولكن من أجل أجيال أبنائنا القادمة التي سترث من حصادنا المر وستأكل معه ما سنزرعه اليوم.

ليس للسلحفاة أثر في المثل إن جئنا نطبقه على ثروتنا، فلا هي أتت بتأنّي السلحفاة ولا حملت معنى سلاحف معبد آداب فيتنام. سنضيف تعديلاً للمقولة التي وضعها من سبقونا تجربةً مع ثرواتهم لتكون: «بعض الثروات رشيقة كالغزال، تأتي سريعاً وتذهب سريعاً أيضاً».

إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "

العدد 4883 - الثلثاء 19 يناير 2016م الموافق 09 ربيع الثاني 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 7:53 ص

      انا اقول الحكومة اتخذت قرارات فردية وهي المعنية في هذ القرارات والحمدلله موجود معلمين ومهندسين وخبراء ومختصين وعندهم كفاءة...وكل مايصير شي تحملنا مسؤلية. مشكورة للكاتبة وان شاءالله انشوف مقالت رائعة اكثر

    • زائر 2 | 6:07 ص

      المشكله هي في عدم وجود الشفافيه في ما يختص بالموارد النفطيه و كيفية انفاقها مما يساعد على المسائله و التحقق من اتخاد القرارات الصحيحه والسرقات.

    • زائر 1 | 4:32 ص

      ثروتنا الغزال

      ابدعت الكاتبة بسلاسة جملها والاجمل تناغم التشبيهات ومدى ارتباطها بواقع تمر به المنطقة ... احسنتي والي الامام دائما

اقرأ ايضاً