العدد 4883 - الثلثاء 19 يناير 2016م الموافق 09 ربيع الثاني 1437هـ

فلسطين تتلوّى: من البحث عن دولة إلى البحث عن تكتيكات

الوسط - المحرر السياسي 

تحديث: 12 مايو 2017

فقدت المؤسّسات والقيادات الفلسطينية الرسمية شرعيّتها الأخلاقية في نظر الشعب الفلسطيني الذي يعتبرها غير فعالة أو حتى مستلحقة من قبل إسرائيل. واليوم ثمّة جيل جديد من ناشطي القاعدة الشعبية، يحوّل التركيز من الهدف المتمثّل في إقامة الدولة الفلسطينية إلى السعي وراء تكتيكات جديدة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. لكي تتمكّن من تحسين حياة الفلسطينيين، تحتاج هذه الطليعة الأخلاقية الجديدة إلى تغيير وإحياء المؤسّسات الفلسطينية القائمة أو تأسيس مؤسسّات جديدة، بحسب تحليل سياسي لدانيال نيرنبيرغ، ناثان ج. براون، نشره موقع الأبحاث " مركز كارنيغي للشرق الأوسط" اليوم الاربعاء (20 يناير/ كانون الثاني 2016).

 تكتيكات متغيّرة وأهداف ملتبسة

 على عكس السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، لم تعد المؤسّسات الفلسطينية القائمة والحركة الوطنية الفلسطينية الشعبية تسعى إلى تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثّل في إقامة دولة فلسطينية. فهي تميل إلى تأجيل الأسئلة الخاصة بالأهداف، لصالح التركيز على التكتيكات التي من شأنها تحسين الموقف الفلسطيني.

 يركّز الناشطون الجدد بصورة خاصة على مروحة من التكتيكات الحقوقية التي تهدف إلى تقويض الاحتلال الإسرائيلي متجنّبين السياسة الرسمية والمؤسّسية.

يعكف هؤلاء الناشطون على وضع معايير جديدة للمقاومة، مثل مقاطعة المنتجات الإسرائيلية. ويتعيّن على قادة الحرس القديم الالتزام بهذه المعايير من أجل الحفاظ على الصدقيّة مع الجمهور.

 سوف يحتاج الفلسطينيون إلى المجال والدعم اللازمين لإعادة بناء مؤسّساتهم التي تم إفراغها من محتواها، كي يتمكنوا من تجنّب العنف الفوضوي الذي طال أمده، ومن صياغة توافق جديد على الأهداف.

تبدو قدرة الأطراف الدولية الفاعلة محدودة بشأن ما يمكنها فعله، بيد أن في وسعها تقديم يد العون والمساعدة في عملية بناء المؤسّسات الفلسطينية.

 توصيات إلى المجتمع الدولي

 اعترفوا بالحقائق القائمة على الأرض. هناك تفسّخ وفساد مؤسّسي عميق داخل المؤسّسات الفلسطينية القائمة، وقيادة سياسية إسرائيلية لم تعد تلتزم بثبات بحلّ الدولتين. كما أن ثمة خيبة أمل من الجهود الدبلوماسية في صفوف الإسرائيليين والفلسطينيين على حدٍّ سواء.

 خذوا المؤسّسات الفلسطينية على محمل الجدّ. تعاملوا مع المؤسّسات الفلسطينية باعتبارها أكثر من مجرّد هيئات إدارية تكنوقراطية، وشجّعوا اتصالاتها مع الدوائر والمنظمات الشعبية.

 تسامَحوا مع إحياء أي مؤسّسات وطنية، مثل المجلس الوطني الفلسطيني، يمكنها التحدّث باسم جميع الفلسطينيين. يجب إعادة بناء هذه المؤسّسات بطريقة تعتمد إلى حدٍّ بعيد على المجتمع الفلسطيني، وتجنّب جعلها مجرّد أدوات لقيادات وحركات دخلت مرحلة الشيخوخة، أو تقسيمها بين الفصائل القائمة.

 اضغطوا من أجل إجراء انتخابات جديدة. اضغطوا على القيادة الفلسطينية لإجراء انتخابات وطنية ومحليّة شاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك لإجراء انتخابات تنافسية للنقابات والجمعيات المهنية واتحاد الطلاب. ذلك أن تمثيل أصوات جديدة ومتنوّعة، يمكن أن يدعم إحياء المؤسّسات الفلسطينية، ويساعد الفلسطينيين على صياغة إجماع جديد حول الأهداف الاستراتيجية.

السياسة الفلسطينية تتغيّر بصورة جوهرية

شهد النصف الثاني من العام 2015 اندلاع أعمال عنف غير منسّقة في الضفة الغربية والقدس. وتأتي هذه الموجة من العنف وسط إقرار جماعي تقريباً بأن العملية التي كان يُطلق عليها اسم "عملية السلام"، منذ أن بدأت بين الإسرائيليين والفلسطينيين في تسعينيات القرن الماضي، قد أخذت مجراها بعيداً عن التوصّل إلى حلّ الدولتين. فقد أدّت أعمال العنف وانتهاء الجهود الدبلوماسية إلى مأزق دولي، حيث أصبحت سلّة الأدوات الدولية الخاصة بالتعاطي مع الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين فارغة تقريباً. بيد أن القضية لاتزال تفرض نفسها على الأجندة الإقليمية المزدحمة، حيث سيتم الضغط على القادة الإسرائيليين والفلسطينيين للعمل على تهدئة الرأي العام واتّخاذ خطوات ملطّفة. وبما أن الفلسطينيين يظهرون علامات متزايدة على مزاج يائس، فقد تحوّل التركيز الدولي إلى استطلاع احتمالات اندلاع انتفاضة جديدة.

 بيد أن هناك اتجاهين آخرين أقلّ وضوحاً لكنهما أكثر عمقاً قيد العمل، قد يجعلان الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين يتّخذ أشكالاً جديدة وأقلّ قابلية للتطويع. يتمثّل الاتجاه الأول في أن المؤسّسات التي ظهرت على مدى عقود للتحدّث بالنيابة عن الفلسطينيين وقيادتهم، فقدت حججها الأخلاقية في عيون شعبها. ويُنظر إليها على أنها غير فعّالة، لابل استلحاقيّة لصالح إسرائيل. وفي حين لاتزال تشغل مواقع السلطة، إلا أنها لم تعد قادرة على القيادة. وتحلّ قيادة أخلاقية جديدة محلّ الحرس القديم، وهي لاترتبط بالسياسة المؤسّسية، وتركّز على مجموعة من التكتيكات لتقويض الاحتلال، كما تأخذ في عين الاعتبار تحقيق أهداف محتملة جديدة – قد تكون غير وارد تماماً الآن - للسياسة الفلسطينية.

 يتمثّل الاتجاه الثاني في تطوّر استثنائي آخر، حيث أن مبرّر وجود الحركة الوطنية الفلسطينية والجهود المبذولة لبناء دولة فلسطينية، لم يعد له سطوة. فثمّة نقاشٌ يدور بين الفلسطينيين حول الأهداف والاستراتيجية النهائية، بعد أن فقد حلّ الدولتين والدبلوماسية أهميتهما. لكن ليس هناك شيء آخر يحلّ محلّهما بصورة واضحة. ثمّة شيء من الاهتمام المتزايد ببدائل مختلفة لحلّ الدولة الواحدة، تجمع الإسرائيليين والفلسطينيين بطريقة أو بأخرى. بيد أن الأمر الأكثر أهمية هو وجود ميل إلى تأجيل المسائل الخاصة بالحلول لصالح وضع تكتيكات يمكنها أن تُحسّن الموقف الفلسطيني، من قبيل أشكال جديدة من المقاومة والمقاطعة. فهناك جيلٌ جديد من الفلسطينيين لاتُجزعه ذكريات محن الانتفاضة الأخيرة، ويتقدّم قدماً إلى الأمام. هذا الجيل له بالفعل تأثيرات سياسية عميقة، لكن يبدو أنه غير مهتم أو غير قادر، على الأقلّ حتى الآن، على قيادة الفلسطينيين نحو أي هدف استراتيجي.

اتجاهات لاتحظى بالتقدير

 على مدى القرن الماضي، تمكّن الفلسطينيون من تأسيس حركة وطنية حقّقت بعض النجاحات في ظروف بالغة الصعوبة. إذ قامت الحركة ببناء المؤسّسات وغرس شعور قوي بالهوية الفلسطينية، ونجحت في الحصول على مستويات هامّة على صعيد الاعتراف الدولي. وهي فعلت ذلك من دون أن تمتلك العنصر الحاسم المتمثّل في القوة التي قادت الكثير من الجهود في أماكن أخرى لإعطاء الهوية الوطنية المظهرَ السياسي المناسب: الدولة. وهذا هو بالضبط سبب الأزمة التي تعانيها الحركة الوطنية الفلسطينية. إذ يبدو أن جهودها الرامية إلى إنجاز مشروع الدولة وصلت إلى طريق مسدود في أحسن الأحوال، وربما توقّفت تماماً.

 منذ اثنين وعشرين عاماً، شرع الفلسطينيون بعقد سلسلة من الاتفاقيات مع إسرائيل (اتفاقات أوسلو)، كانت القيادة تأمل في أن تؤدّي إلى إقامة دولة فلسطينية وتحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية بالتدريج. وتحت رعاية منظمة التحرير الفلسطينية، ثم - بعد توقيع اتفاقات أوسلو - السلطة الفلسطينية، حوّل القادة الفلسطينيون الحركة الوطنية إلى جهاز بيروقراطي ينطوي على العديد من مظاهر الدولة، على حساب التخلّي عن أي شكل فعّال من المقاومة الوطنية. لكن مع احتضار عملية السلام التي تم إنشاء السلطة الفلسطينية للتفاوض بشأنها، تُرِكَت القيادة الرسمية من دون خيارات أخرى لتحقيق هدف إقامة الدولة.

 الفلسطينيون الذين يعترفون بهذه الحقيقة على مضض، يتجادلون حول مايتعيّن القيام به تالياً. غير أنهم يفعلون ذلك بطرق لاتمتّ بصلة إلى المؤسّسات شبه الدولتية التي تمكّنوا من بنائها. وهذا، جزئيّاً، يجعل من الصعب على الأطراف الخارجية الاستماع إلى هذه الحجج، ولا يسهّل ترجمتها إلى مبادرات سياسية فلسطينية. والنتيجة المترتّبة على ذلك لاتقتصر على عرقلة الجهود الدبلوماسية الحالية لحلّ الصراع مع إسرائيل على أساس اتفاقيات أوسلو وحسب، بل تصل أيضاً إلى حدّ تقويض جدوى المؤسّسات الفلسطينية ونسف كل ماتبقّى من إيجابيات وإنجازات للجهود الدولية السابقة. لم تعد المؤسّسات التي بنتها الأجيال السابقة من الفلسطينيين، وهي المنقسمة بشدّة بين فتح وحماس وبين الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، تحتفظ بسلطة أخلاقية يُعتدّ بها.

تتم صياغة العديد من التحليلات الخاصة بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بتعابير دبلوماسية دولية، وتمرّ مرور الكرام على الكيفية التي يناقش بها الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة محنتهم. فقد أظهرت دراسات لوسائل الإعلام المطبوعة والاجتماعية وأحاديث شخصية مع فلسطينيين من كل أنحاء الطيف السياسي، أن تحوّلاً جوهرياً طرأ على المناقشات الفلسطينية، بعيداً عن الأهداف النهائية ونحو الإمكانيات الحالية. ولايقتصر التحوّل على مجال المناقشات؛ بل يؤثّر بعمق على قدرة المؤسّسات على القيادة. والواقع أن هذه المناقشات غالباً ما تجري خارج الهياكل السياسية القديمة، وتترك لمن يترأسون الهياكل الرسمية بعض السلطة على أساس يومي، لكن مع القليل من المصداقية، لكي يحكموا على المستوى المحلّي ويتخبّطوا على المستوى الدولي. يتقدّم روّاد الرأي الجدد إلى الأمام، إلا أنهم يتجنّبون السياسة المنظّمة، ومن المستبعد أن يوفّروا نواة لقيادة جديدة. ويبدو أن الأهداف والتكتيكات تتطوّر من دون إنتاج هياكل واضحة يمكن أن تتحدّث بصورة رسمية باسم الفلسطينيين.

 حظيت مسألة الأهداف الوطنية الفلسطينية بالكثير من الاهتمام الدولي، لكن معظم الاهتمام طُرح بتعابير تفهمها الدبلوماسية الدولية: هل يريد الفلسطينيون حلّ دولتين من شأنه أن يمنحهم دولة وطنية معترفاً بها دولياً، وتقاسم فلسطين التاريخية مع إسرائيل، بحيث يتم ضم الضفة الغربية وأجزاء من القدس الشرقية وغزة لتشكيل دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل ضمن حدود العام 1967؟ أم أنهم انتقلوا إلى تبنّي حل الدولة الواحدة الذي من شأنه أن يضم الإسرائيليين والفلسطينيين في كيان سياسي واحد؟ مايغفله هذا التحليل هو التحوّل في تركيز المناقشات الفلسطينية. أما بشأن المسائل المتعلقة بالأهداف وحتى الاستراتيجيات الوطنية، فهناك بعض التحرّك بعيداً عن حلّ الدولتين الذي كان سائداً خلال مرحلة أوسلو، لكنه أقل وضوحاً مما هو مفهوم عموماً. ذلك أن حدوث تغيير أعمق يشكّل ابتعاداً عن التركيز على الأهداف والاستراتيجيات. إذ لم تركّز معظم المناقشات النشطة والحيّة في العام 2015 على مسائل الأهداف أو الاستراتيجية الوطنية العليا، على الرغم من أن مثل هذه المناقشات لاتجري على قدم وساق. كما أن معظم المناقشات الحالية تتقبّل ضمناً حقيقة أن التحرّر، الذي يُعرَّف عموماً وأحياناً بصورة غامضة للغاية على أنه بمثابة نهاية كاملة للسيطرة الإسرائيلية على حياة الفلسطينيين، ليس في الأفق؛ وأن مقاربات الماضي، من مرحلة اللاعنف الشعبي مروراً بمرحلة الكفاح المسلح ووصولاً إلى مرحلة اتفاقات أوسلو، لاتقدّم الكثير في المرحلة الراهنة. بدلاً من ذلك، يتم التركيز على مسألة الحصول على الحقوق الأساسية في ظل غياب حق تقرير المصير. بعض هذه التكتيكات تعمل ضمن إطار حلّ الدولتين، في حين يتجنّب بعضها الآخر ذلك. بيد أن معظم الفلسطينيين يتجنّبون مسألة الأهداف النهائية، على أمل احتمال ظهور توافق جديد في الآراء وإمكانيات جديدة لاحقا.

 في خريف العام 2015، أصبحت بعض الاتجاهات الناشئة في المجتمع الفلسطيني ظاهرة للعيان، في ظل موجة جديدة من النشاط. فالهجمات الفردية التي قام بها الفلسطينيون، وبعضهم شباب ليس لهم أي انتماء سياسي، على أهداف إسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وإسرائيل نفسها، جذبت اهتماماً دولياً. إضافةً إلى ذلك، أصبحت المظاهرات عند نقاط تفتيشٍ والمسيرات نحو مستوطنات إسرائيلية مختارة أكثر شيوعاً. من جانبهم، يشكو الفلسطينيون من تصاعد أعمال العنف التي يقوم بها المستوطنون الإسرائيليون الذين يغضّ المسؤولون الإسرائيليون الطرف عنهم، بل يوفّرون لهم الحماية؛ ويشكون أيضاً من الإجراءات المضادّة القاسية من جانب الحكومة (هدم المنازل وفرض قيود على سفر الفلسطينيين)، وكذلك من القوة المفرطة من جانب قوات الجيش والشرطة (الذين منحتهم الحكومة قدراً أكبر من المرونة لإطلاق النار على رماة الحجارة، ما أدّى إلى شكاوى من عمليات القتل التي تتم خارج نطاق القانون).

 في أحاديث أُجريَت في الضفة الغربية في كانون الأول/ديسمبر 2015، أشار العديد من الفلسطينيين إلى الموجة الجديدة باعتبارها إما هبّة أو انتفاضة ثالثة. ولاحظ البعض أن العدد الفعلي للمشاركين في الهبّةضئيل جداً حتى الآن، ولاسيّما مقارنةً مع الانتفاضتين الأولى (بين العام 1987 وأوائل التسعينيات) والثانية (2000-2005) ضد الاحتلال الإسرائيلي. لابل إن أعداد المشاركين في المظاهرات الأكبر حجماً بالكاد تجاوزت المئات. مع ذلك، يتّفق الجميع على أن الوضع متفجّر، وأن القادة والهياكل القائمة إما أنهم مهمّشون أو يسعون جاهدين إلى البقاء في الجانب الصحيح من المزاج العام المستاء أصلاً من الدبلوماسية والمؤسّسات.

 أيّاً يكن المسار الذي تأخذه الهبّة، فإن الاتجاهات الكامنة في المجتمع الفلسطيني تقوّض المؤسّسات والهياكل القائمة، وتفضّل إجراء الاختبارات التكتيكية. ويُظهر القادة وعياً بالمناقشات الجديدة الجارية حول التكتيكات، غير أنهم مقيَّدون بسبب العجز الدبلوماسي والواقع القاسي المتمثّل في أن أنماط عيش عشرات الآلاف من الأسر تعتمد على سلطة فلسطينية، يسخر منها الفلسطينيون بمرارة أحياناً، ولاتخدم مصالح الشعب الفلسطيني ولاتمارس السلطة. وهكذا، يواجه القادة الفلسطينيون خياراً قاسياً: استكشاف المواقف بما يتماشى مع المناقشات العامة الناشئة، وبالتالي تقويض دورهم الرسمي، والذي يعتمد بوضعه الحالي على التمويل الدولي والدعم الدبلوماسي، أو فقدان حظوتهم في السياسة الفلسطينية الحالية.

الموروثات التاريخية: ثورة بلا نصر

 سعى الفلسطينيون إلى بناء مؤسّسات تضرب بجذورها في مجتمعهم، ويمكنها العمل من أجل المصالح الوطنية الفلسطينية وتمثيلها دولياً. تم إحراز نجاحات حقيقية في بناء منظمات المجتمع المدني والأحزاب والحركات السياسية والتنظيمات المسلحة والهياكل الإدارية. كما بنى الفلسطينيون هيئات تم قبولها كطرفٍ محاور على المستويات العربية والإقليمية والدولية، لابل إنها حصلت على اعتراف الأطراف الفاعلة الدولية الهامة مثل الاتحاد الأوروبي وإسرائيل والولايات المتحدة. وبدا أن ذروة تلك الجهود آتت أُكلها في مرحلة أوسلو. لكن، ومنذ ذلك الوقت، يبدو أن الهياكل الرسمية في الحياة الفلسطينية مستمرّة على الرغم من الصعوبات، بدفعٍ من حياتها الخاصة، لكنها منفصلة على نحو متزايد عن المجتمع الفلسطيني أو عن أي إحساس بوجود هدف لها. وفي حين أنها تتخبّط في بعض الأحيان على الصعيد الدولي، مثل التحرّكات الرامية إلى تكثيف المشاركة في هيئات الأمم المتحدة، فإن الخطوات التي تتّخذها تُقابَل بضغط دولي يعزّز شعبيتها في الداخل بصورة آنية في أفضل الأحوال، والتي سرعان ماتتراجع عندما يتّضح أن الانتصار المعنوي ليس محدوداً وحسب، بل من الصعب أيضاً أن يُترجَم إلى أي تغييرات ملموسة.

 بدأت مرحلة أوسلو باعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها السلطة التفاوضية الوحيدة للفلسطينيين، وبتأسيس السلطة الفلسطينية لحكم الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإجراء انتخابات لرئاسة السلطة الفلسطينية وما أصبح يعرف بالمجلس التشريعي الفلسطيني. وقد تمكّن الفلسطينيون من صياغة وسنّ التشريعات، وكتابة المناهج الدراسية، والحصول على سيل هائل من المساعدات الدولية وعلى حصد الترحيب من الأوساط الدولية.

 بيد أن تلك المرحلة شهدت أيضاً عملية دبلوماسية فشلت في قيادة الفلسطينيين نحو بناء الدولة، كما شهدت ترسيخ الممارسات السلطوية، وذبول الأحزاب السياسية، وإنشاء أنماط دفعت الكثير من الفلسطينيين إلى اتّهام قادتهم بأنهم كانوا جزءاً غير واعٍ من الاحتلال الإسرائيلي بدل من أن يكونوا طريقاً للخلاص منه.

الحركات السياسية: فتح وحماس

 تتكوّن الحركات السياسية الفلسطينية من عنصرَين عملاقَين اثنَين: حركة فتح الوطنية وحركة حماس الإسلامية. ومن شأن تسميتهما بالحزبين السياسيين أن تبخس أدوارهما، لأنمها اتّخذتا مروحة واسعة من الأشكال والوظائف، بما في ذلك وجود أجنحة مسلّحة فيهما. ويشير الفلسطينيون إليهما عموماً بأنهما "فصيلان". وقد كانت فتح دائماً، التي تأسّست في العام 1959 على يد مجموعة من الناشطين الشباب في ذلك الوقت، بمن فيهم الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، حركة متنوّعة فكرياً وتنظيمياً وتركّز على الإيديولوجيا الوطنية العلمانية. وفي أوائل العام 2016، باتت فتح تجمع بين قيادة عليا منعزلة وتخلو من الحياة ومجموعة من الحركات المحليّة وبين شعور قوي بأنها لاتزال تجسّد روح الحركة الوطنية الفلسطينية، غير أنها تفتقر إلى وجود برنامج لكيفية تحقيق ذلك. وعلى الرغم من أن حركة فتح وعدت بعقد مؤتمر حزبي تأجّل عن موعده مراراً في العام 2015، إلا أن غياب أي آفاق انتخابية، إضافةً إلى غيرة وشكوك القيادة العليا، وتنافس القادة المحليّين، كلّها تجعل إحياءها احتمالاً مستبعداً. والنتيجة هي وجود حركة تزداد تمزُّقاً، وتتكوّن من شبكة من الفروع المحلية ومجموعة من كبار القادة (بعضهم فقط لديه أنصار بين الفروع اللامركزية).

 ينقسم قادة فتح بسبب المنافسات الشخصية، ويبدو أنهم لايحظون سوى بالقليل من الاحترام كمجموعة. يتولّى رئاسة حركة فتح رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وهو أحد مؤسّسيها الباقين على قيد الحياة والذين يتضاءل عددهم. لكن يبدو أن عباس يزداد عزلة وانفصالاً، ويركّز فقط على صدّ منافسيه ومن يُحتمل أن يشكّل تحدّياً لسلطته، مايُبقي بالتالي قمة هرم المنظمة في حالة من الفوضى المحتملة عندما يغادر عباس المشهد أخيراً.2 وسيكون لزاماً على كل من يخلفه أن يضمن ولاء "التنظيم"، وهو الجناح العسكري لحركة فتح الأصغر سُنّاً والأكثر تشدُّداً وفظاظة. ويبدو أن الأعضاء الشباب الذين لديهم معاقل في المناطق العازلة في مخيمات اللاجئين، تعبوا من ديمومة السياسات القديمة.3

 تبدو حماس أكثر تماسكاً من فتح من الناحية التنظيمية، إلا أن وحدتها تتعرّض إلى التآكل، ومن الصعب إنكار افتقارها للخيارات الاستراتيجية.

 تبدو حماس، الحركة الإسلامية التي تأسّست في العام 1987 من الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، أكثر تماسكاً من فتح من الناحية التنظيمية، إلا أن وحدتها تتعرّض إلى التآكل، ومن الصعب إنكار افتقارها للخيارات الاستراتيجية. جرى تأسيس الحركة لتقديم بديل إسلامي للمقاومة يميل نحو اتّخاذ مواقف لاهوادة فيها على صعيد الوسائل (رفض نبذ أساليب العنف ووقف إطلاق النار والهدنة) والغايات (رفض الاعتراف بإسرائيل). في العام 2006، خاضت حماس الانتخابات البرلمانية التي فازت فيها، ما أدّى إلى بذل جهود دولية ترمي إلى عزلها وحتى الإطاحة بها، وجهود محلية لمنعها من ممارسة الحكم. كانت النتيجة النهائية لذلك اندلاع حرب أهلية قصيرة في العام 2007 مكّنت حماس من السيطرة الكاملة على قطاع غزة، الذي تديره فعلياً انطلاقاً من أوائل العام 2016، في حين يتم قمعها في الضفة الغربية. سيطرة حماس على غزة أثقلت كاهلها بمسؤوليات الحكم التي جعلت من الصعب على الحركة الاهتمام بتحقيق مفهومها للمسار الإسلامي أو المقاومة. وقد عمل قادة وجماعات مختلفة داخل الحركة على قيادتها في اتجاهات مختلفة، بيد أن أيّاً منهم لم يتمكّن من تقديم استراتيجية ناجعة تتجاوز حكم قطاع غزة، وتسعى إلى تحقيق أي أهداف فلسطينية أوسع.

المجتمع المدني

يتكون المجتمع المدني الفلسطيني من نقابات وجمعيات مهنية، وخدمات اجتماعية، ومنظمات طوعية. وقد ازدهرت بعض هذه المنظمات في مرحلة أوسلو بفضل التدريب والدعم الدوليَّيْن، غير أن هذا التوسّع فصلها في كثير من الأحيان عن قواعدها الشعبية. ويبدو البعض الآخر من هذه المنظمات تابعاً للفصائل السياسية، لذلك كانت بمثابة أدوات تنظيم وحضور اجتماعي لقادتها، وأقلّ قدرة على أن تكون بمثابة منابر للتنظيم والعمل المستقل. وبينما تنشأ حركات ومنظمات جديدة، يتلاشى بعضها بسرعة، أما المنظمات التي تدوم فلا يبدو أنها ترتبط بإطلاق أي مشروع وطني.

السلطة الفلسطينية

لم يعد معظم الفلسطينيين ينظرون إلى السلطة الفلسطينية، وهي الهيئة الإدارية التي تشرف على الصحة والأمن الداخلي والتعليم والحكم المحلّي ومجموعة من الخدمات الأخرى للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، باعتبارها نواة الدولة الفلسطينية. ومنذ الانتخابات التشريعية الأخيرة التي عُقِدت في العام 2006، اعتبر الفلسطينيون بصورة متزايدة أن السلطة الفلسطينية لاتعدو كونها مجموعة من الهياكل المجهّزة بملاك من الموظفين الفلسطينيين، تتحكم بالمجتمع وليس لديها سوى القليل من الروابط به، وأن هدفها ببساطة هو التعاطي مع بعض قضايا الحكم الأساسية في سياق الاحتلال الإسرائيلي. ولعلّ مايعوّق شرعية السلطة أكثر، حقيقة أن منصب الرئاسة، وهو منصب قوي بصورة غير متناظرة، لم يشهد أي انتخابات منذ العام 2005، عندما خلف عباس عرفات. والأكثر سوءاً أن السلطة الفلسطينية اكتسبت سمعة بالفساد في وقت مبكر. فقد سارعت حركة فتح، صاحبة المصلحة الرئيسة في السلطة الفلسطينية، وبعض ناشطي السلطة الفلسطينية، ومروحة كبيرة من الأطراف الفاعلة الخاصة، إلى استخدام الرئاسة كمصدر للوظائف والعقود والعلاقات. كما أثار عدم تسامح فتح مع المعارضة قدراً كبيراً من الاستياء. وعليه، أصبح الكثيرون يشعرون بأنه تم إنجاز كل المظاهر السلبية للدولة (الهياكل السياسية التي يمكن أن تكون قمعية وقابلة للرشوة)، ولم يُطوَّر أي من المظاهر الإيجابية (تقرير المصير والسيادة).

 في العام 2006، تمكّنت حركة حماس من استغلال الأداء السيّء للسلطة الفلسطينية لتفوز في الانتخابات البرلمانية، بيد أن انتصارها لم يؤدِّ سوى إلى تقسيم السلطة الفلسطينية إلى سلطتَين اثنتَين، الأمر الذي فاقم ضعفها وتقصيرها. وينسّق شطرا القيادة، المنقسمان بين الضفة الغربية وقطاع غزة منذ العام 2007، السياسات الوطنية بصورة سيّئة بشأن عددٍ قليل من القضايا (مثل التعليم)، ولا ينسّقان في مابينهما على الإطلاق بشأن العديد من القضايا الأخرى. وتفتقر السلطة الفلسطينية في أوائل العام 2016 إلى عملية تشريعية قوية وشرعية (يتم إصدار القوانين بمراسيم، في ظل غياب إجراءات واضحة للمراجعة والتشاور)، أو إلى آليات لربط قادة السلطة الفلسطينية بمن يحكمونهم، أو لبلورة وسيلة لرسم السياسات خارج أهواء كبار قادتها، أو حتى لمجرّد تبرير وجودها. لابل إن مؤيّديها المتحمّسين نسوا الحلم الذي راودهم بين عامَي 2007 و2011 بإنجاز عملية بناء تكنوقراطية للمؤسّسات الفلسطينية، وهو الحلم الذي حرّك الجهات المانحة الدولية، لكنه أربك معظم الفلسطينيين.

 بالنسبة إلى حركة فتح، توحي تحرّكات عبّاس في العام 2015 في مواجهة منافسيه الأساسيين، بمن فيهم الرجل القوي محمد دحلان (عضو حركة فتح المطرود الذي لايزال لديه مناصرون في الحركة)،4 والأمين العام السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه (وهو ناقد قديم لنمط حكم عبّاس)، والتكنوقراطي سلام فيّاض (وهو مستقل ليس لديه أنصار منظّمون لكنه يحظى باحترام دولي)،5 بأن تلك التصدّعات يمكن أن تحطم ماتبقّى من أي مظهر شكلي للوحدة عندما يتعيّن اختيار خليفة لعباس. ولاتزال الخلافات بين قادة فتح حتى الآن من دون أي آليات خاصة بحلّها أو حتى إدارتها.

منظمة التحرير الفلسطينية

 لاتزال منظمة التحرير الفلسطينية، وهي الهيئة التي شكّلتها جامعة الدول العربية في العام 1964 لتمثيل الفلسطينيين (والتي تُهيمن عليها حركة فتح منذ العام 1969)، تمثّل الفلسطينيين رسمياً في بعض المحافل. على سبيل المثال، منظمة التحرير، وليس السلطة الفلسطينية، هي الشريك المفاوض مع إسرائيل، كما تم تعيينها رسمياً في اتفاقات أوسلو. في نظر الفلسطينيين، تتشاطر منظمة التحرير موقعها الرمزي مع دولة فلسطين، وهي الدولة التي أعُلن عن قيامها أصلاً في العام 1948 لكن تم نسيانها، ثم أعُلنت مرة أخرى في العام 1988 وهي تسعى جاهدة إلى الحصول على الاعتراف الدولي منذ ذلك الحين. هي الآن موجودة عموماً كمجموعة من مختلف الهياكل الملحَقة برئاسة السلطة الفلسطينية في رام الله. استمرار منظمة التحرير الفلسطينية كرمز يعود بالفائدة على قيادة رام الله (مجموعة المسؤولين الذين يرأسون ماتبقى من منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، بما في ذلك مجلس وزراء السلطة الفلسطينية والرئاسة) للادّعاء بأنها تملك مكانة محلية ودولية، غير أن معظم الناس الذين تدّعي أنها تتحدث باسمهم يعتبرون أنها لاتعدو كونها ذكرى لا أكثر. كما أنها قد تعمل بمثابة مظلة محتملة لقيادة موحّدة إذا تم الاتفاق عليها يوماً ما، لكن يبدو أن أي صيغة تجمع القادة الوطنيين والإسلاميين مستبعَدة، ووصفة للشلل من حيث الاستراتيجية الوطنية بسبب الخلافات القوية على الأهداف والتكتيكات بين المعسكرَين.

فلسطين الممزّقة، استراتيجيات مُخَلبَطة

 يبدو، إذاً، أن أياً من الهياكل الفلسطينية التي تدّعي أنها تتحدث باسم الفلسطينيين لاتقوم بذلك بقدرٍ يُعتدّ به من الصدقيّة. إذ ليس ثمة سوى القليل من الإشارات على وجود ثقة شعبية في أي من المؤسّسات أو الهياكل. المشاكل ليست داخلية فقط، حيث أن الانقسامات السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة بين الفلسطينيين تفاقمت بسبب مختلف الإجراءات الإسرائيلية، بدءاً من نقاط التفتيش الأمنية، ووصولاً إلى بناء المستوطنات. مع ذلك، لم تظهر أي قيادة بديلة ولا حتّى أي حلّ سياسي من أي نوع، وإن كان الفلسطينيون يتّفقون على أن قادتهم ضلّوا سبيلهم. ومع أن الكثير من الفلسطينيين لايزالون يدعمون حلّ الدولتين، لم تَعُد غالبيّتهم ترى أنه خيار قابل للتطبيق. فالمزيد من الفلسطينيين يؤيّدون حلّ الدولة الواحدة، إلا أن هذا الحلّ لايزال بعيداً كل البعد عن حصد دعم الغالبية.

لم يَعُد الأشخاص الذين قادوا الفلسطينيين في عملية أوسلو يتمتّعون سوى بالقليل من الصدقية، حتى وإن استمرّوا في تبوّؤ المناصب القيادية العليا. بيد أن خصومهم مستمرّون في عدم تقديم أي بديل مقنع. لابل تكشف أي نظرة سريعة على الواقع السياسي الفلسطيني انقساماً شديداً في صفوف القيادة الفلسطينية والمجتمع والجغرافيا الطبيعية. إذ تسير القيادة الرسمية في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية خبط عشواء بلا اتجاه محدّد، تتضوّر جوعاً كي تكون لها سلطة معنوية، فيما يبدو خصومها في حماس مرتبكين تكتيكياً ويسيرون أيضاً على غير هدى استراتيجياً.

 يروّج كلٌّ من فتح وحماس لانتصاراتهما التي يتمّ التركيز عليها من حين إلى آخر. وتحرز فتح وقيادة السلطة الفلسطينية في رام الله نقاطاً إيجابية بين الحين والآخر في صفوف الفلسطينيين بسبب التحرّكات الدولية، مثل القرار الذي اتخذته في العام 2015 للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، وملاحقة الاتهامات ضد إسرائيل. وتكتسب حماس بعض الصدقية بسبب مواجهاتها العنيفة مع إسرائيل. هذه الإجراءات تحقق للحركتين أحياناً انتعاشاً عابراً في استطلاعات الرأي، غير أن تلك الاستطلاعات أصبحت أقلّ تواتراً، وفي ظل عدم وجود انتخابات في الأفق، فإنها لاتسفر عن فوائد ملموسة بأي حال.

 المشكلة التي يمكن لاستطلاعات الرأي أن تنقلها ولكن بصورة ناقصة فقط، إن كان ذلك ممكناً أصلاً، هي الأزمة العميقة التي تعاني منها السياسة الفلسطينية. فقد فقدت المؤسّسات التي بناها الفلسطينيون في ظروف بالغة الصعوبة على مدى الجيلَين الماضيَين ببساطة بعض جذورها الشعبية. وهي تستمرّ من خلال الجمود وعدم وجود أي بدائل وليس من خلال الدعم القوي؛ وبالتالي، فهي لاتملك سوى القليل من القدرة على القيادة، حتى لو كانت تعرف الهدف الذي ترغب في بلوغه. المشكلة هنا ليست سياسية فقط. فالاستراتيجيات الوطنية تحتاج إلى تجاوز الانشقاقات الاجتماعية الكبرى، بيد أن التشرذم الاجتماعي في الأراضي المحتلة متوطّن، مايجعل هذه المهمة عصيّة للغاية.

 بعض هذه الانقسامات مادّية بطبيعتها. فالفجوات الاقتصادية شاسعة، والانقسامات العلمانية والدينية واضحة، والتنقّل بين مدن الضفة الغربية يمكن أن يكون صعباً. في نيسان/أبريل 2015، كان هناك 96 نقطة تفتيش ثابتة في أنحاء الأراضي المحتلّة، تقع 57 منها في عمق الضفّة الغربية، وسبعة عشر في منطقة (ه2-H2) في مدينة الخليل وحدها.6 ويلتفّ الجدار العازل الذي يبلغ طوله 442 ميلاً، والذي يتكوّن من جدار وسياج عازلَين، عبر الأراضي الفلسطينية، ويقسّم أحياء كانت متّصلة ويشق طريقه حارماً الكثير الفلسطينيين من أفضل أراضيهم ومواردهم المائية. تمّ تصميم جزء كبير من الجدار العازل بهدف حماية، وربما ضمّ، المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية التي تقسّم الضفة الغربية والقدس الشرقية إلى جيوب. والنتيجة المترتّبة على ذلك هي وجود احتياجات مُلحّة مختلفة لسكان الضفّة الغربية في مناطق A وB وC المحدَّدة بموجب اتفاقات أوسلو، والذين يعيشون في ظل أنظمة قانونية منفصلة ودرجات متفاوتة من نفوذ السلطة الفلسطينية.7 لاتعاني أي جماعة من العلاقة الغامضة بالقيادة الوطنية أكثر من سكان القدس الشرقية،8 حيث يفضّل أكثر من نصفهم الحصول على الجنسية الإسرائيلية على البقاء في مايرقى بنظرهم إلى عذاب.9 والواقع أن عزل قطاع غزة، المستمر بصورة حادّة منذ العام 2007، كان موجوداً في صورة ما منذ بداية عملية أوسلو (وبالتالي فهو أكبر عمراً من معظم الفلسطينيين).10

 على الرغم من أنها تفتقد تماماً إلى الرؤية أو الرسالة، تشغل الهياكل القائمة بالفعل حيّزاً سياسياً. صحيح أنّ الفصائل السياسية لاتقدّم رؤية استراتيجية كبيرة، إلا أنها نجحت في منع المنافسين من البروز. وتمارس السلطة الفلسطينية الحكم بصورة سيئة، لكنها ساهمت بقدرٍ يسير في تقديم الخدمات الاجتماعية والرواتب، مايجعلها أمراً لامهرب منه بصورة مؤقّتة. وتُعتبر منظمة التحرير الفلسطينية هيكلاً خارجياً، لكنها أصبحت آخر هيكل موحِّد للفلسطينيين.

 لذلك، كثيراً ماتعكس الأحاديث السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة حالةً من عدم اليقين، لابل حتى اليأس أحياناً. يبدو أن الهوية الوطنية الفلسطينية لم تضعف، بيد أن المؤسّسات التي بُنيت لرعايتها والتحدّث باسمها لم تعد موضع ثقة كتجسيد لأي حركة وطنية قابلة للحياة، ولايُنظر إليها على أنها موثوقة بأي معنى أخلاقي. وباستثناء مجموعة من الهياكل الإدارية، لاتملك الدولة فلسطينية المنشودة منذ أمد بعيد تمثيلاً عملياً على الأرض.

 مع ذلك، تتواصل الأحاديث، والاستماع إلى القادة لايعطي سوى صدىً بعيداً عن مثل هذه المناقشات؛ قد يرغب هؤلاء في تقديم أنفسهم بصورة إيجابية في مايتعلّق بالاتجاهات الناشئة، إلا أنهم لايشكّلونها أو يتحدثون بالنيابة عنها. ولذا ينبغي أن يتجاوز أي فهم للمستقبل السياسي للفلسطينيين التصريحات والمواقف الرسمية. ما الذي يقوله الفلسطينيون لبعضهم البعض عن محنتهم؟ هل قرّروا وضع مجموعة جديدة من الأهداف الوطنية؟ وهل بدأت استراتيجية بديلة وقابلة للحياة بالظهور؟

 عمّق العديد من قادة الرأي العام الفلسطيني في السنوات القليلة الماضية اهتمامهم بحلّ الدولة الواحدة، وهو التحوّل الذي يشير إلى إدراك متأخر بأن إطار الدولتين يحتضر في أحسن الأحوال وميت في أسوئها. فقد دعت إحدى المبادرات في العام 2013، وكانت تضم أعضاء معظمهم من حركة فتح، إلى قيام دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين التاريخية. وفي كانون الثاني/يناير 2015، قال ديمتري ديلياني، عضو المجلس الثوري لحركة فتح، إنه لن يكون لحركة فتح أي خيار سوى الضغط من أجل حلّ الدولة الواحدة بعد فشل المفاوضات. وتجري مناقشات أخرى عديدة باللغة الإنكليزية وفي الأوساط الأكاديمية والناشطة (مثل تلك التي تتجمّع حول رام الله وبيرزيت)، والتي ترتبط بالشبكات دولية.

 النقاش ليس أكاديمياً ودولياً بطبيعته. ذلك أن دعم حلّ الدولة الواحدة آخذٌ في الازدياد في أوساط الفلسطينيين العاديين. ووفقاً لاستطلاع رأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في كانون الأول/ديسمبر 2015، فإن 29 في المئة من الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة يدعمون حلّ الدولة الواحدة، ارتفاعاً من 12 في المئة فقط في تشرين الأول/أكتوبر 2003، في ذروة الانتفاضة الثانية.11 ومع أن 45 في المئة من الفلسطينيين لايزالون يفضّلون إطار الدولتين، فقد انخفضت نسبتهم من 56 في المئة في العام 2003. وعلى نحو ينمُّ عن الكثير، فإن الفلسطينيين من جيل أوسلو (ممن تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والثانية والعشرين) هم الأقلّ دعماً لحلّ الدولتين والأكثر تأييداً للانتفاضة المسلّحة. كما أصبحت المناقشات بشأن حلّ الدولة الواحدة أكثر حيوية بين الباحثين والناشطين على الأرض في الضفة الغربية وقطاع غزة، وظهرت في وسائل الإعلام الكبرى مثل صحف القدس والأيام وفلسطين والحياة الجديدة ووكالة معاً الإخبارية والمركز الفلسطيني للإعلام.12 قد لاتدعم الغالبية هذا البديل، غير أن الاتجاه يسير من دون شك في هذا المنحى.

 لم تعد فكرة وجود دولة واحدة تبدو أقلّ واقعية من حلّ الدولتين، على الرغم من أنه تم صرف النظر عنها دولياً منذ عقد من الزمان باعتبارها غير عملية، واستنكرتها إسرائيل باعتبارها تهدف إلى القضاء على المشروع القومي اليهودي في فلسطين. ويشير العديد من المراقبين إلى أن هناك دولة واحدة في الأراضي المحتلة الآن، غير أنها تمنح الحقوق الوطنية لواحد فقط من الشعبين اللذين يقطنان فيها. وفي إسرائيل، وفيما أصبح رفض حلّ الدولتين (أو اليأس بشأن دبلوماسية الدولتين) هو السائد، صار القادة والمعلّقون السياسيون أكثر رغبة في الإعلان عن استكشافهم للبدائل المختلفة التي تصل إلى حدّ إقامة دولة واحدة في الأراضي المحتلة. لاتزال هذه المقترحات غامضة، لأن من المرجّح أن يؤدّي قيام دولة واحدة بهيئة انتخابية موحّدة وحقوق سياسية متساوية، إلى وضعٍ لايمكن الدفاع عنه بالنسبة إلى من يعتبرون إسرائيل دولة يهودية (وهي الفكرة التي يلحّ عليها نقّاد يسار الوسط من اليمين الإسرائيلي وحتى وزير الخارجية الأميركية جون كيري). وتجري مناقشة بضعة مقترحات رسمية، غير أنه يبدو أن استعداد الأشخاص الذين لديهم مروحة واسعة من وجهات النظر السياسية للكفّ عن التشدّق بالكلام لدعم حلّ الدولتين، يعني أن النقاش الفكري الذي تم استبعاده من دوائر السياسة الدولية المحترمة بدأ يكسب مؤيّدين.

 وحتى عندما تتحرك الاتجاهات رويداً رويداً نحو قبول إطار الدولة الواحدة، فإن الفلسطينيين بعيدون عن التوصّل إلى إجماع، وهي الحقيقة التي بدت واضحة في موجة الخلافات في خريف العام 2015. فقد قال ناشط في الضفّة الغربية، تمّت مقابلته في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، عن الانتفاضة الحالية: "الأهداف هي نفسها! إنهاء الاحتلال. لقد عاد الاحتلال كسياق وهدف". وبدا أن ناشطاً آخر يعمل في الضفّة الغربية يختلف معه في الرأي، حيث قال:

 "ليس ثمّة هدف معلن أو متّفَق عليه لهذه الانتفاضة. ستحاول قيادة السلطة الفلسطينية إطالة أمدها واستلحاقها بحيث تتمكّن من تحقيق أهدافها الخاصة (العمل الدبلوماسي وما إلى ذلك)، لكنها فشلت. وقد حاول الإسرائيليون والأردنيون تطويقها وتكييفها على النحو الذي يريدون، وتحويل مسارها نحو "عودة الوضع القائم إلى المسجد الأقصى". وهم الآن يحاولون جعل هدفها "استعادة جثث الشهداء". [رفضت إسرائيل إعادة جثث الفلسطينيين الذين قُتلوا أثناء مهاجمة الإسرائيليين]. الشباب في الشوارع يضحّون من أجل الحرية، لكن ليست لديهم استراتيجية كبرى، استراتيجية معلَنة على الأقلّ. وهذا أمر في غاية الأهمية لأنه يوفّر للانتفاضة مجالاً للنمو، مع إبقاء الاحتلال في حالة من الجهل. أودّ أن أُقارب هذه الانتفاضة باعتبارها إشارة إلى أن الجيل الجديد من الفلسطينيين يتدافعون للحصول على مكانهم في المعترك السياسي، وأنهم سئموا من سياسات الانحناء التي تمارسها السلطة الفلسطينية ومن ممارسات المجتمع الدولي. الانتفاضة تهيّئ أرضاً خصبة لقادة جدد كي يأخذوا مكانهم، والسؤال الرئيس هو هل سيعمّر هؤلاء القادة أكثر من إسرائيل والسلطة الفلسطينية، أم أن الوضع الراهن سوف يسحقهم أو يحيّدهم، كما هو الحال في الانتفاضات الفلسطينية السابقة؟"

 أوساط النخبة والأوساط الشعبية تميل إلى الردّ بالإيجاب على هذا السؤال: "التحرر الوطني"، وهي العبارة التي نادراً مايتمّ تعريفها على وجه التحديد، لايلوح في الأفق. ولاتقدّم الاستراتيجيات التي بدت واعدة في الماضي (المقاومة الشعبية والمقاومة المسلحة والمفاوضات) سوى أملٍ ضئيل في المرحلة الراهنة. وقد كشف الاستطلاع الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في أيلول/سبتمبر 2015 أن مايقرب من ثلثي الفلسطينيين يرَون أن حلّ الدولتين لم يعد قابلاً للتطبيق، لكنهم يرَون مجموعة متنوّعة إلى حدٍّ ما من التكتيكات التي يهتمون باتّباعها.13

 يركّز الفلسطينيون على الحصول على حقوقهم الأساسية في ظل غياب حق تقرير المصير. ويرتبط السعي وراء بعض هذه التكتيكات، مثل إصلاح السلطة الفلسطينية، وعقد انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، أو الانضمام إلى الهيئات الدولية، بإطار الدولتين. أما السعي وراء تكتيكات أخرى، مثل حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) - ستتم الإشارة إليها في مايلي باسم حركة المقاطعة - فيُفضّل ضمنياً حلّ الدولة الواحدة. بيد أن الكثير من الأشخاص الذين يستخدمون هذه التكتيكات متردّدون بشأن التسوية النهائية، على أمل أن يظهر برنامج سياسي أكثر تماسكاً، بينما يكتسب النضال من أجل الحصول على الحقوق زخماً متزايداً.

النقاش الفلسطيني الحقيقي ودور الطليعة الأخلاقية الجديدة

 مثلما أن موت حلّ الدولتين ومايرتبط به من عدم وجود بديل واضح، جرّد القيادة الفلسطينية من رؤية استراتيجية كبرى، فقد أفضى أيضاً إلى حصول نقاش قيّم بين القواعد الشعبية بشأن تكتيكات المضيّ قُدُماً. ولذا فإن كَون منشأ الابتكار التكتيكي يتجاوز القيادة الرسمية، لايُعَدّ أمراً مفاجئاً. ذلك أن حماس عاجزة بسبب حصار غزة ومحاولاتها العقيمة للتفاوض على تحقيق هدنة على المديَيْن القصير أو الطويل، ولاتزال السلطة الفلسطينية مكبَّلة بمؤسّسات أوسلو البالية التي فشلت في تحقيق النتائج المتوقعة. وإذا كان المقصود من القيادة الوطنية تقديم مبادئ توجيهية أخلاقية للمقاومة، فقد فشلت السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية وفتح في ذلك فشلاً ذريعاً. وحتى حماس، وهي معارِضة لعملية أوسلو منذ البداية، تبدو قلقة للغاية بشأن بقائها الهشّ في غزة كي تؤدّي واجباتها الأخلاقية. ويبدو أنها تأمل باندلاع انتفاضة قد تستفيد منها من دون مقابل.

 أفضى موت حلّ الدولتين ومايرتبط به من عدم وجود بديل واضح، إلى حصول نقاش قيّم بين القواعد الشعبية بشأن تكتيكات المضيّ قُدُماً.

 منذ العام 2003، عندما بدأت إسرائيل بإقامة جدارها العازل الذي يبلغ طوله 422 ميلاً ويمتدّ على طول ووراء خطوط الهدنة للعام 1949 بين إسرائيل والضفة الغربية والقدس الشرقية التي كانت تخضع في السابق إلى السيطرة الأردنية، ظهرت أصوات جديدة من القاعدة الشعبية تدعو إلى نيل الحقوق الأساسية في التعليم والعمل وحرية الحركة والتنقل، وأكثر من ذلك. ووفقاً لما يقوله غسان أندوني، أحد منظّمي الانتفاضة الأولى (الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي التي استمرّت من العام 1987 حتى أوائل تسعينيات القرن الماضي)، وأحد مؤسّسي حركة التضامن الدولية (حركة تطوعية دولية تقول إن هدفها هو دعم الفلسطينيين من خلال وسائل غير عنيفة)، فقد كان الجدار العازل محفّزاً مفهوماً. إذ عبّأ الكثير من القرويين الذين كانوا قد استُبعِدوا من الانتفاضة المسلحة، حول قضية لها تأثير مباشر على حياتهم. الجدار ضمّ وقسّم مساحات واسعة من الأراضي الخاصة، وزاد من صعوبة الوصول إلى المزارع، ورسّخ الفكرة القائلة إن المستوطنات دائمة، وجعل السفر في أنحاء الضفة الغربية أكثر مشقّة. لقد أيقظ الجدار تكتيكات غير عنيفة في العمل المباشر كانت خامدة منذ الانتفاضة الأولى، ومنح القوة للناشطين ممن لديهم سنوات من خبرةٍ يستلهمون منها أساليبهم. كانت التعبئة السلمية ضد الجدار العازل وسيلة لحشد الجماهير المحلية والدولية، وإعادة صياغة الخطاب العام حول الحقوق والمقاومة.

 ترافق تجدّد النشاط الحقوقي اللاعنفي مع مفارقتَين متأصّلتَين. أوّلاً، حظيت رسالته بقبول واسع إلى حدٍّ كبير، لأنه نشأ خارج دوائر القيادة الرسمية. وكي يكون النشاط الجديد قادراً على العمل، فقد كان يتطلّب نوعاً من التنظيم الذي يدعمه. مع ذلك، لم يكن الناشطون الجدد يثقون بالمؤسّسات التي ربما كانت بمثابة الأساس لمثل ذلك التنظيم. وبدلاً من محاولة التأثير على القادة، سعى الناشطون الجدد إلى تجاوزهم. ردّت السلطة الفلسطينية باستلحاق أو تجريد المعايير المقترحة من جانب القاعدة الشعبية، عبر تقطيرها من خلال مؤسّسات حقبة أوسلو. أصبح الناشطون، من حيث المبدأ، روّاد المعايير الجديدة، غير أنهم لم يضعوا معايير جديدة تُجنّبهم الهياكل الرسمية الفلسطينية القديمة. ثانياً، في حين ازدادت شعبية النهج الحقوقي بين عامَي 2003 و2015 كتكتيك سائد، فقد كان هذا النهج متردّداً على الدوام بشأن الاستراتيجية الكبرى. وقد تبنّت المنظمات الحقوقية استراتيجية مؤيّدي حلّ الدولتين ومؤيّدي حلّ الدولة الواحدة على حدٍّ سواء، بيد أنها أرجأت مسألة الوضع النهائي إلى أجل غير مُسمّى في المستقبل، وتوحّدت حول الإطار الأخلاقي للقانون الدولي. كان هذا الغموض الحذر مصدر قوة في العام 2015، حيث ساهم في توسيع قاعدة المؤيِّدين، إلا أنه قد يطرح تحدّيات في المستقبل.

 ثمّة سِمة مثيرة للاهتمام في هذا الجيل الجديد من ناشطي المجتمع المدني، تتمثّل في قدرته على صياغة خطاب بشأن الالتزامات الأخلاقية للفلسطينيين التي تستند إلى القانون الدولي. ولأنهم موحّدون حول الإحباط إزاء العجز الأخلاقي والجمود السياسي للسلطة الفلسطينية، فقد روّجوا لمبادئ توجيهية جديدة للمقاومة اليومية ضد الاحتلال، ووضعوا ثقل المقاومة من جديد على كاهل الشعب الفلسطيني. وتعمل جماعات مثل حركة التضامن الدولية، والحملة الشعبية الفلسطينية المناهِضة لجدار الفصل العنصري (المعروفة أيضاً باسم أوقفوا الجدار)، واللجنة التنسيقية للنضال الشعبي، وحركة المقاطعة، بمثابة شبكة منظّمة فضفاضة للطليعة الأخلاقية الجديدة، حيث تضبط المعايير الأخلاقية لجمهور متنوّع من المستهلكين والعمّال والسياسيين والمثقفين والفنانين والمزارعين وكبار رجال الأعمال.

 تختلف الأطراف العديدة للطليعة الأخلاقية في أهدافها المعلنة، لكنها تتّحد في خطابها بشأن القانون الدولي. جذور حركتَي "أوقفوا الجدار" و"اللجنة التنسيقية للنضال الشعبي"، راسخة بقوة في الخطاب المناهض للاحتلال. فالأولى لديها مبادئ توجيهية محدَّدة للغاية: وقف بناء الجدار وتفكيك الأجزاء التي بُنِيَت بالفعل، وعودة جميع الأراضي المصادَرة أثناء إنشاء الجدار، وتعويض جميع الخسائر التي تسبّب بها بناؤه. أما اللجنة التنسيقية للنضال الشعبي، فتروّج لتكتيكات من شأنها، وفقاً لموقعها الإلكتروني، "مقاومة مختلف جوانب الاحتلال" بهدف "تكرار استراتيجية "عدم قابلية الحكم"، التي اتبعها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي".14 كما أنها تدعم حركة المقاطعة، التي تُعَدّ أهدافها النهائية أكثر غموضاً بصورة متعمَّدة. ففي العام 2005، نصّت دعوة الحركة "لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها"، على مايلي:

 "ينبغي الإبقاء على الإجراءات العقابية السلمية، حتى تفي إسرائيل بالتزاماتها في الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني غير القابل للتصرّف في تقرير المصير وبشكل كامل يتوافق مع مبادئ القانون الدولي، من خلال:

  1. إنهاء احتلالها واستعمارها لكل الأراضي العربية وتفكيك الجدار العازل.
  1. الاعتراف بالحقوق الأساسية للمواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل في المساواة الكاملة.
  1. احترام وحماية وتعزيز حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم، كما هو منصوص عليه في قرار الأمم المتحدة الرقم 194".

تبدو صياغة دعوة حركة المقاطعة غامضة بما يكفي لتكون مفتوحة على مصراعيها للتأويل. ذلك أن إنهاء "استعمارها لكل الأراضي العربية" يمكن بالطبع أن يشمل كل فلسطين التاريخية. غير أن الشرط التالي مباشرةً يتحدّث عن وجود إسرائيل كدولة أمر واقع ويطالب بحقوق متساوية للمواطنين العرب ليس إلا. ولايعكس الشرط الثالث مجرّد موقف توافقي بين الفلسطينيين بوجوب احترام حقوق اللاجئين الأفراد من العام 1948 وذرّيتهم وحسب، بل يفعل ذلك أيضاً بطريقة رفضها القادة الإسرائيليون باعتبارها تهدّد وجود دولة يهودية. ويرى بعض المراقبين أن حركة المقاطعة رفضت إسرائيل كدولة يهودية، لكنها لاترى مشكلة في وجودها كدولة علمانية وديمقراطية. ومن غير الواضح كيف يمكن أن تنسجم هذه المطالب المتضاربة، سواء في خطاب الدولة الواحدة أو الدولتين، وربما كان ذلك متعمَّداً.

 تمضي مجموعة الأهداف النهائية المتنوّعة الضمنية والصريحة في الطليعة الحقوقية بعيداً في توضيح ضرورة أن يُطلق ناشطو حركة المقاطعة برنامجاً سياسياً حقيقياً. ونظراً إلى هذا الغموض وبسبب قوة تكتيكاتها، فإن حركة المقاطعة في صلب الرقابة والتدقيق العام على الصعيد الدولي. مع ذلك، مايغيب عن الأطراف الخارجية في الغالب هو أن الحركة انتقلت من الهوامش لتصبح في قلب المناقشات السياسية الفلسطينية.

 عندما ظهرت حركة المقاطعة على الساحة في العام 2005، جرى ذلك بدعم من 170 من المنظمات غير الحكومية والأحزاب السياسية والنقابات العماليّة وشبكات اللاجئين والجمعيات الشعبية. غير أن جهود الحركة كانت تستهدف في الغالب منظمات المجتمع المدني الدولية والناشطين المتضامنين، وقد تكشّفت الانتصارات في الغالب على الساحة الدولية: صفّى صندوق التقاعد الهولندي استثماراته في البنوك الإسرائيلية؛16 وقاطع المستهلكون شركة SodaStream التي كان مصنعها الأساسي يقع في الضفة الغربية؛17 وقامت الكنيسة المشيخية الأميركية بتصفية استثماراتها في شركة Caterpillar،18 وشركة HP، وشركة Motorola Solutions بسبب تزويدها الجيش الإسرائيلي بالتجهيزات؛ وقاطعت جمعية الدراسات الأميركية الجامعات الإسرائيلية.

كانت نتيجة هذا التركيز الدولي أنه في آذار/مارس 2014، وفقاً لاستطلاع أجراه مركز العالم العربي للبحوث والتنمية، لم يكن 78 في المئة من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة قد سمعوا باللجنة الوطنية التابعة لحركة المقاطعة، أي هيئة التنسيق الفلسطينية لحملة حركة المقاطعة التي أُنشئت في العام 2007. 20 وبالنسبة إلى الفلسطينيين المنغمسين في الأسواق الإسرائيلية لبيع بضائعهم وشراء المنتجات المنزلية وإجراء المعاملات المالية والعثور على عمل، بدت فكرة مقاطعة الاقتصاد الإسرائيلي أشبه بسلعة فاخرة لايقدر على شرائها سوى المقيمين خارج فلسطين.

 بيد أن طبيعة مناقشات حركة المقاطعة المحليّة تغيّرت كثيراً منذ الحرب التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة 2014، والتي عبّأت الناشطين الحقوقيين على الأرض، وألقت الضوء على أنشطتهم. كما أن تطرّق إسرائيل المتكرّر لحركة المقاطعة باعتبارها تهديداً رئيساً، ساهم بلا شكّ في إقناع الفلسطينيين بفائدة هذه الاستراتيجية.21 واليوم، يؤيّد أكثر من 86 في المئة من الفلسطينيين حملة مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها، ويقول 88 في المئة إنهم توقّفوا عن شراء منتجات إسرائيلية معيّنة. لايمكن لحركة المقاطعة أن تنسب إلى نفسها الفضل الوحيد عن التحوّل في الرأي العام، غير أن نهجها، باعتبارها الطليعة الأخلاقية الجديدة، ساهم في ذلك بلا شكّ. إذ قال عمر البرغوثي، الناشط في مجال حقوق الإنسان، والعضو المؤسِّس في الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، وأحد مؤسّسي حركة المقاطعة الذي يقسّم وقته بين إسرائيل والضفة الغربية، في مقابلة في العام 2013 إن "حركة المقاطعة تؤمن بالقوة الأخلاقية والقوة الأخلاقية فقط. نحن نعمل على الإقناع والتثقيف والتوعية والنقاش والضغط أخلاقياً، غير أننا لانكره أحداً أو نفرض إرادتنا على أحد أبداً. ولايمكن لاعتقاد مفروض أن يكتسب قوة القناعة الحقيقية والحرة أبداً". هذا هو أحد السبل التي تميّز بها الحركة نفسها عن قيادة السلطة الفلسطينية، والتي يمكن استخدام قوانينها أحياناً، المنبثقة من ضرورات أوسلو، ضد الأصوات المعارضة.

 يدرك الناشطون في الحركة أيضاً أنه ليست لهم مصلحة في السياسة الرسمية. فقد رفض أحد الناشطين الادّعاء الذي يقول إن حركة المقاطعة ترقى إلى أن تكون قيادة جديدة: "حركة المقاطعة أساسية في إحداث تحوّل في ميزان القوى، وهي حركة تقوم على التكتيك، ولكنها لم تظهر على الإطلاق أي احتمال للحصول على أي دور قيادي في فلسطين. هم أنفسهم صنّفوا حركتهم استراتيجياً على أنها "غير سياسية" في حدود الصراعات الداخلية الفلسطينية على السلطة. وهم يمثّلون الصوت الأخلاقي للمجتمع الدولي، لأن القيادة السياسية الفلسطينية فشلت في القيام بذلك، وبالتالي كانت هناك حاجة إلى ملء الفراغ". وتسترشد الحركة بلجنة شاملة للجميع، لكنها تتعمّد تجنّب السياسات الحزبية (تمنح الفصائل السياسية الفلسطينية مقعداً واحداً تشارك فيه مع عدد كبير من المنظمات غير الحكومية والنقابات).

 ثمّة سبب آخر لزيادة الظهور المحلّي لحركة المقاطعة، ويتمثّل في أن الحملات يمكن أن تأخذ غالباً طابعاً شخصياً، وإن كان قبيحاً أحياناً. وقد أصرّ أحد الناشطين في الضفّة الغربية على أن "حركة المقاطعة تشهّر بالأفعال لابالأفراد". غير أن التشهير العلني يلعب دوراً هامّاً في روح المبادرة لدى حركة مقاطعة إسرائيل، حيث تجاوزت الحركة حدودها في بعض الأوقات. وأصبح بعض الأفراد أكياس لَكْمْ مجازيّة للحركة، ونماذج عامة تتم السخرية منها من أجل قضية الحركة. كان من بين الضحايا أشخاص لامعون ومميَّزون من القطاع الخاص في فلسطين، حيث جرى اتهام بشار المصري بتقديم "المصالح الشخصية وجني الأرباح على حساب الحقوق الفلسطينية" لصالح مشروعه "روابي"، المدينة الفلسطينية الجديدة الطموحة التي يجري بناؤها إلى الشمال من رام الله،22 وتم استدعاء منيب المصري بسبب مشاركته في "واحد من أسوأ أشكال التطبيع" لتحالفه المُستغرَب مع صاحب سلسلة متاجر البقالة "رامي ليفي".23 واشتكى بشار المصري من أن اتهامات حركة المقاطعة، والتي كان رفض الكثير منها باعتبارها تشويهاً وغلوّاً، هي بمثابة تحريض في ثقافة تُولي السمعة اهتماماً بالغاً. وزعم آخرون أن حركة المقاطعة تنطوي على خطر استعداء قطاعات كبيرة من السكان، عندما تصبح هجماتها شخصية. مع ذلك، يرى مؤيّدوها أن مثل هذه الأعمال بمثابة صيحة استنفار، تزيد الوعي بالوسائل العديدة التي يعزّز فلسطينيون بها الاحتلال في تعاونهم مع إسرائيل. أما إن كانت مثل هذه الحملات الفردية تنتهك مبادئ حركة المقاطعة، فيبقى أمراً متروكاً للتأويل. بيد أن من الواضح أنها تشكّل أساساً لنقاش حيوي بشأن معايير التعاون الاقتصادي مع إسرائيل، الأمر الذي يريح المؤيّدين والنقّاد على حدٍّ سواء.

 كما لاحق ناشطو حركة المقاطعة السلطةَ الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية في مجال تعاونهما مع إسرائيل. وقد طفا الصراع على السطح في المؤتمر الذي عقدته حركة مقاطعة إسرائيل في العام 2013 في بيت لحم، حين واجه أحد أفراد الجمهور ممن يؤيدون رؤية الحركة وزير الاقتصاد الوطني الفلسطيني آنذاك، جواد ناجي علناً، والذي كان تلقّى دعوة من منظمي المؤتمر كمتحدّث باسم هيئة مستشارين، على خلفية الإبقاء على هيكل العلاقات الاقتصادية الواردة في اتفاقيات أوسلو. شتم الوزير الشخص المُشارِك، واتّهمه بالتصرّف مثل حيوان، وخرج من قاعة المؤتمرات غاضباً وسط موجة من صيحات الاستهجان من المئات من أفراد الجمهور. تصدّرت الحادثة عناوين الأخبار في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية. وفي الوقت نفسه تقريباً، اندلعت عشرات التظاهرات في الضفة الغربية احتجاجاً على بروتوكول باريس، الذي ينظّم العلاقات الاقتصادية الفلسطينية مع إسرائيل، وينصّ على درجة من التفاعل وحتى التبعية التي يفضّل الكثير من الفلسطينيين تجنّبها.24

 

كما حظيت الإجراءات الشعبية ذات القاعدة العريضة في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، بدعم من اللجنة الوطنية لحركة مقاطعة إسرائيل (BNC)، بقدرٍ كبير من الاهتمام: وقارن ركّاب الحريّة (freedom riders) الفلسطينيون الوضع، في احتجاجاتهم على ممارسات إسرائيل في تقييد حرية الحركة والتنقل، بين قوانين "جيم كراو" التي فرضت الفصل العنصري في ولايات الجنوب الأميركي حتى منتصف الستينيات وسياسات الفصل الإسرائيلية.25 فشلت هذه المحاولة، لكنها لم تكن الأخيرة. فقد جمعت احتجاجات مبتكرة مثل "مخيم باب الشمس" في كانون الثاني/يناير 2013 ناشطين فلسطينيين وإسرائيليين ودوليين للاحتجاج بصورة سلمية على بناء إسرائيل 4 آلاف وحدة سكنية و1000 غرفة فندقية إضافية في القسم E1 من الضفة الغربية.26 أعلنت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن هذه الخطط كإجراء عقابي، بعد المحاولة التي قام بها عباس في الأمم المتحدة في العام 2012 كي تحصل فلسطين على وضع مراقب. بقي الناشطون في المخيم لأكثر من أسبوع قبل أن تزيله القوات الإسرائيلية. كانت رسالتهم في جوهرها تقوم على الحقوق في مواجهة المستوطنات ومصادرة الأراضي و"تهويد" القدس. قاد سكان من القرى المجاورة الاحتجاجات جنباً إلى جنب مع لجنة تنسيق النضال الشعبي، وهي منظمة مجتمعية تسير على خطى الانتفاضة الأولى التي، وفقاً لأنصارها، "تعتمد بصورة كبيرة على دعم المجتمع الدولي من خلال مبادرات حركة المقاطعة.

 التحالف بين كلٍّ من "لجنة تنسيق النضال الشعبي" محليّة التركيز، وحركة "أوقفوا الجدار"، والحركات الأخرى المشابهة، واللجنة الوطنية لحركة المقاطعة ذات التوجّه الدولي، ليس بالأمر المستغرب. فقد ناضلت اللجان الشعبية من أجل الحقوق الوطنية بصورة يومية لأكثر من عقد من الزمن. وأسّست الاحتجاجات الأسبوعية في مختلف أنحاء الضفة الغربية والقدس الشرقية، على الرغم من التجزئة الجغرافية المفروضة، شبكة قوية من ناشطي المجتمع المدني. العديد من الاحتجاجات الأسبوعية، مثل تلك التي تجري في بلعين وبدرس، لديها ظهور دولي بسبب عمل الصحافيين ومخرجي الأفلام الوثائقية، لكنها تمثّل جزءاً صغيراً من الاحتجاجات على الأرض. وتتجاوز المظاهرات في الولجة والنبي صالح وأبو ديس وسلوان والشيخ جراح وبيت جالا والسوسية والعيسوية، والعديد من المناطق الأخرى في جميع أنحاء وادي الأردن، الانتماءات الفئوية وتتحدّى الانقسام الجغرافي. كما تتجاوز مسألة المناطقية، حيث يوفّر الناشطون الدعم التكتيكي والإيديولوجي لمروحة من الإجراءات المخصّصة لمناهضة أو لفت الانتباه إلى الجدار العازل، والعنف الذي يمارسه المستوطنون الإسرائيليون، والقيود المفروضة على وصول الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى في القدس، وهدم منازل الفلسطينيين على يد الجيش الإسرائيلي، وإساءة معاملة السجناء والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.

ينظر قادة القاعدة الشعبية إلى المقاومة باعتبارها موازِناً مهمّاً للسلطة الفلسطينية، التي يرتبط عملها بالمؤسّسات القديمة والفصائل المسلّحة، والتي تميل إلى استبعاد وتنفير الجمهور العام. فقد قال عايد مرّار، في مقابلة في العام 2006 مع منظمة Just Vision، وهي منظمة تدعم الجهود الإسرائيلية والفلسطينية الرامية إلى "تعزيز السلام ووضع حدّ للاحتلال"، على حدّ تعبير موقعها على شبكة الإنترنت، إنه "لايمكن لقائد فلسطيني أن يقود الجماهير من وراء مكتب. فمن الأسهل كثيراً على القادة العسكريين الإبقاء على المقاومة المسلّحة. هم ليسوا مضطرّين إلى ترك مقاعدهم، وإنما عليهم فقط إرسال ثلاثة أو أربعة أشخاص في كل منطقة للقيام بعملية عسكرية. المقاومة الشعبية تتطلّب حشد كل الطاقات المتاحة، وإذا كنتَ تريد أن تقود الناس، فعليك أن تكون على الخطوط الأمامية".28 ويبدو أن الأدلة تشير إلى أن الناشطين الحقوقيين يقفون على الخطوط الأمامية المادية والإيديولوجية، ويستميلون قادة حماس والسلطة الفلسطينية إلى قضيتهم، وبنتائج متباينة أحياناً.

 جرى اختبار النشاط الحقوقي اللاعنفي في موجة الاحتجاج الشعبية في العام 2015. فقد خطفت عمليات الطعن والدهس المدوّية الأضواء الإعلامية من التكتيكات الحقوقية. وفي جوٍّ بدا واضحاً أنه أكثر قتامة، ظلّت الطليعة الأخلاقية تسعى إلى تجنّب الاضطرار إلى تهميش أساليبها وقيادتها الأخلاقية الأقلّ عنفاً. وقال أحد الناشطين في الضفّة الغربية إن معظم الناشطين المحليّين لاينتمون إلى حركة المقاطعة، غير أنهم يدعمون تكتيكاتها العامة، "ويوفّرون لها قيادة ودعماً مجتمعياً". وفي إطار توضيح الشعبية المتزايدة للنشاط الحقوقي، وخاصّة حول المقاطعة المحليّة للسلع والبضائع الإسرائيلية، لفت الناشط نفسه الانتباه إلى "سلسلة واسعة من حملات المقاطعة المحلّية... تم إطلاقها في جميع أنحاء فلسطين. هذه الحملات لاتنسّقها حركة المقاطعة، لكن يمكن النظر إليها باعتبارها جهوداً تطوعية للترويج للفكرة نفسها". وأكّد شخص آخر تمّت مقابلته على أن الحضور الإعلامي لحركة المقاطعة وناشطي الحركة يمثّل الصوت الرئيس في توضيح النهج الحقوقي لجمهور أوسع. ويظهر أن ناشطي حركة المقاطعة يستخدمون موجة انتفاضة العام 2015 لدعم حركتهم وتكتيكاتها اللاعنفية، في حين يتجنّبون الحاجة إلى إصدار بيان واضح بشأن استخدام العنف.

القادة يطاردون الأنصار

 من المؤكّد أن الجيل الذي بنى الهياكل التي هي الآن في طور الاحتضار، منظّمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح بصورة أوضح، كان منقسماً، إلا أن معظم القادة من جيل ياسر عرفات كانوا قلقين للغاية إزاء قضية الوحدة والسلطة الوطنية. كان المستقبل والماضي هما دافعهم في ذلك. فهم لم يسعوا إلى بناء دولة فلسطينية في صورة ما وحسب، بل عزوا الهزائم الفلسطينية السابقة أيضاً (مثل فشل ثورة العام 1936 ضدّ الانتداب البريطاني) إلى انقسامات في صفوف الفلسطينيين. في أحاديثهم الخاصة، يعبّر العديد من كبار القادة عن استخفافهم بالطليعة الأخلاقية الشابة، ويرَوْن أنهم غير منضبطين، ومتسرّعون، ولايعرفون متطلّبات المقاومة الشعبية، ولايحترمون القادة والمؤسّسات الوطنية، ويجهلون تاريخ النضال الوطني. وأظهر هؤلاء القادة امتعاضاً كبيراً تجاه تصاعد النشاط الشبابي لفترة وجيزة في الضفّة الغربية، والذي حدث في أعقاب الانتفاضة المصرية في العام 2011. 29 غير أن مطالبتهم بالقيادة تتطلّب منهم أن يولوا اهتماماً إلى المشاعر الشعبية، الأمر الذي يجبرهم على مراعاة المحاولات الرامية إلى وضع معايير وقواعد جديدة على نحو ما.

منذ العام 2008، بدأ الساسة الفلسطينيون يحضرون الاحتجاجات التي ينظمها قادة القاعدة الشعبية: حاول عضوا حركة فتح نبيل شعث ومحمد اشتية، ومؤسّس "المبادرة" مصطفى البرغوثي، ورئيس الوزراء آنذاك سلام فياض، تعزيز مصداقيتهم من خلال الدفاع عن قضية الناشطين السلميين. لابل إن شعث، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، خرج دعماً لحركة المقاطعة، على الرغم من التناقضات المتأصّلة بين المبادئ التوجيهية للحركة وبين السلطة الفلسطينية. في ذلك الوقت، شكّك البعض في صدق السياسيين الذين حضروا الاحتجاجات، إذ قال ناشط وصحافي من القدس في مقابلة أُجريت معه في العام 2013 إن مسؤولي السلطة الفلسطينية لم يشاركوا أبداً في الاحتجاجات السلمية من قبل، وكانوا يستغلّونها لأغراضهم السياسية الخاصة. وأضاف: "يقررون الذهاب والمشاركة، لأنهم يشعرون أن هذا هو مايريد أن يراه المجتمع الدولي. هناك نوع من التوتّر بين هؤلاء القادة والقادة على الأرض. فالقائد المتحدّر من بعلين سيحظى بقدر من الاهتمام والتغطية من وسائل الإعلام، يفوق مايحظى به السياسي الذي ليس لديه مايقوله، لأنه لايوجد لقاءات مع الإسرائيليين، ولا مفاوضات".

كما تعاملت حماس بحذر مع التيارَين الجديدَين (المقاومة الشعبية والمقاومة المسلّحة) بعد اتفاق القاهرة في العام 2011، حيث اتفقت حماس وفتح على دعم المقاومة الشعبية. وأعرب رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل عن دعم حركته لهذا التكتيك،30 لابل اقترح إمكانية أن تحلّ المقاومة الشعبية محلّ المقاومة المسلّحة إذا اتفقت جميع الفصائل عليها، وهو الموقف الذي فجّر جدلاً داخل حركة حماس.

 من الواضح أن المعيار المتجدّد للنشاط الشعبي اللاعنفي نشأ على أرض الواقع، وشقّ طريقه إلى القيادة الرسمية، سواء كانت مشاركة السياسيين تصعيداً للّعبة السياسية أو نزاهة إيديولوجية. ولذا، ليس من المستغرب أن قادة القاعدة الشعبية حذرون من مشاركة مسؤولي السلطة الفلسطينية في الاحتجاجات التي تنظمها الحركة الشعبية. فهم يخشون من احتمال أن تخطف السلطة الفلسطينية القضية، حيث يعتقدون أن عرفات فعل ذلك عندما وقّع على اتفاقات أوسلو. وهم إلى ذلك يشكّكون في نوايا حماس لأسباب إيديولوجية (الناشطون الجدد ليسوا إسلاميين بصفة عامة) ولأنهم يرَوْن أن القيادة في غزة واقعة في فخّ حكم غزة وتأجيل الأهداف الوطنية إلى أجل غير مسمّى.

 تمّ تجنّب عملية الاستلحاق إلى حدٍّ كبير في الاحتجاجات الأسبوعية، غير أنها كانت موضوعاً أساسياً في خطاب المقاطعة. والواقع أن في أوائل العام 2016، رعت الفصائل المنظمة المظاهرات أمام المستوطنات ونقاط التفتيش.

 وكما قال عمر البرغوثي في العام 2013: "نحن مستقلون تماماً عن السلطة الفلسطينية. وعلى الرغم من أن تحالف جميع الأحزاب السياسية عضو رئيس في قيادة حركة المقاطعة، فإن الحركة تعمل بمعزل عن أجندة أي حزب. نحن لانعوّل على السلطة الفلسطينية لقيادة أي شكل من أشكال المقاومة، بما في ذلك حركة المقاطعة. هذا النشاط يجب أن يستمر بقيادة المجتمع المدني، وبصورة مستقلة مهنياً واستراتيجياً، بحيث تشير بوصلتنا الأخلاقية دائماً إلى حقوق شعبنا غير القابلة للتصّرف على النحو المنصوص عليه في القانون الدولي".

 التأثير الغريب لذلك هو أنه يبدو أن قادة فلسطين المُفترَضين يطاردون في كثير من الأحيان أنصارهم المفترضين.

 في العام 2010، وبعد خمس سنوات من نداء حركة المقاطعة، قدّم وزير الاقتصاد الوطني آنذاك حسن أبو لبدة نسخة السلطة الفلسطينية من المقاطعة - قانون حظر ومكافحة منتجات المستوطنات - وهي مقاطعة محدودة حاولت البقاء ضمن حدود بروتوكول باريس من خلال استهداف منتجات المستوطنات فقط. وقال أبو لبدة في مقابلة أُجريَت معه في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، إن المقاطعة الشاملة، على غرار تلك المقترحة من قبل حركة المقاطعة، تُظهر لإسرائيل أن الفلسطينيين يرفضون حلّ الدولتين، وبالتالي فكرة الدولة الإسرائيلية في حدّ ذاتها. أما بالنسبة إلى أصل القانون، فقال أبو لبدة إن مقاطعة السلطة الفلسطينية لم تكن بدافع من حركة المقاطعة، وإن مجلس الوزراء الفلسطيني هو الذي قرّر الدعوة إلى مقاطعة منتجات وخدمات المستوطنات في العام 2004، قبل دعوة حركة المقاطعة في العام 2005. غير أن خالد السبعاوي، رجل الأعمال والمحلّل الفلسطيني كنديّ المولد لم يكن مقتنعاً:

 "لا أعتقد أن تلك هي السياسة الحقيقية للسلطة الفلسطينية. أعتقد أنهم رأوا المجتمع المدني وقد أخذ زمام المبادرة في الحياة السياسة الفلسطينية وأصبح الصوت الجديد للفلسطينيين، ولذلك فقد امتطوه مدركين أنهم إذا لم ينخرطوا فيه فإنه سيُقلع من دونهم. في هذه المرحلة، في العام 2010، كانت السلطة الفلسطينية تكافح من أجل الحصول على الشرعية. هم لم يقدّموا أي قيمة مضافة للفلسطينيين، من حيث القيادة السياسية. كانوا بحاجة إلى القيام بشيء ما. في العام 2010، كانت حملة حركة المقاطعة قد بدأت تكتسب زخماً. ولهذا السبب انضموا إليها، من أجل مصالحهم المُريبة. وصادف أن مصالحهم كانت تتماشى مع مصالح الشعب الفلسطيني، لكنها لم تكن مبادرة السلطة الفلسطينية. ولهذا السبب لم يتم تطبيقها، وكان هناك قدر ضئيل من المتابعة".

 بصرف النظر عمّا إذا كانت السلطة الفلسطينية تتّبع هذه السياسة عن قناعة حقيقية أو بسبب النفعية السياسية أو كليهما، يبدو أن المبادئ التوجيهية للسلطة الفلسطينية تتطوّر لتعكس مبادئ حركة المقاطعة. في شباط/فبراير 2014، أبلغ محمود عباس الصحافيين في جنوب أفريقيا بأنه يؤيّد مقاطعة المستوطنات، لكن ليس الإسرائيليين. وقال: "لدينا علاقات مع إسرائيل، لدينا اعتراف متبادل بإسرائيل".32 ومع ذلك فقد تغيّر هذا الرأي مع حرب غزة في العام 2014. وبعد أشهر على المقاطعة العفوية التي اندلعت خلال حرب الصيف، دعت فصائل منظمة التحرير الرئيسة إلى مقاطعة ست من الشركات الإسرائيلية (وهي إيليت وجفورة وأوسيم وبريغات وشتراوس وتنوفا) والتي يوجد لها بدائل محلية.33 أعقب هذا القرار الذي اتخذ في شباط/فبراير 2015 استمرار احتجاز إسرائيل لأموال الضرائب الفلسطينية بعد المحاولة التي قامت بها السلطة للانضمام إلى منظمات الأمم المتحدة في العام 2014. بيد أنه كان أيضاً ردّاً طبيعياً على المشهد الأخلاقي المتحوّل، حيث كانت اللجنة الوطنية لحركة المقاطعة والجماعات الحقوقية المشابهة في صلب عملية اتخاذ القرار.

 كان قرار منظمة التحرير الفلسطينية مثالاً بارزاً للطريقة التي يتم من خلالها دعم المعايير المقترحة على مستوى القاعدة الشعبية بشكلٍ مطّرد على مستوى القمة، ويتم تدوينها تدريجياً في قوانين وممارسات القيادة الفلسطينية الرسمية. على النقيض من ذلك، قد يجبر المشهد الأخلاقي التحوّل، الذي يتزامن مع مرحلة كئيبة في عملية السلام، القيادة الفلسطينية على توسيع حدود خطوطها الحمراء. إلا أن الناشطين الحقوقيين لايزالون حذرين من المؤسّسات الرسمية، ولايزالون عرضة إلى الهجوم بسببها.

 تشكّل كارثة الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) مثالاً جيداً. ففي أيار/مايو 2015، هدّد رئيس اتحاد كرة القدم الفلسطيني جبريل الرجوب بتقديم التماس إلى الفيفايطلب تعليق عضوية إسرائيل فيه. واستند التهديد إلى قائمة طويلة من الممارسات العنصرية والتمييزية الإسرائيلية ضد لاعبي كرة القدم الفلسطينيين، بما في ذلك عرقلة أنشطة اتحاد كرة القدم الفلسطيني، وتقييد حركة اللاعبين الفلسطينيين بين قطاع غزة والضفة الغربية، وإبطاء توريد الأجهزة والمعدات.34 كما أشار الرجوب إلى تقارير تفيد بأن إسرائيل قتلت لاعبين فلسطينيين في حرب حزيران/يونيو 2014 في غزة. وكان لاعب فريق نادي أبو ديس، جوهر حلبية، ضمن آخرين أُصيبوا بجروح في الضفة الغربية في وقت سابق من ذلك العام، حيث أُصيب بإحدى عشرة طلقة في ساقيه. نجح الرجوب في كسب الدعم لهذا الحظر، الذي كان يمكن أن يكون نصراً كبيراً للسلطة الفلسطينية (الرجوب قائد قديم في السلطة الفلسطينية وحركة فتح) وإحراجاً لإسرائيل. لكنه لم يتمكّن في نهاية المطاف من الحصول على دعم أعضاء الفيفا، بمن فيهم العديد من الذين عبّروا عن القلق بشأن السابقة التي سيشكّلها فرض حظر على الدول التي لديها سجلّات سيّئة في مجال حقوق الإنسان.35 استشاط الفلسطينيون غضباً عندما تراجع الرجوب: بدت المحاولة أشبه بهدف سهل للقضية الفلسطينية، ومساهمة قوية في عزلة إسرائيل المتزايدة. وشكا البعض من أن استسلام اتحاد الكرة الفلسطيني، أظهر حماقة السلطة الفلسطينية على الساحة الدولية.

 شعر الناشطون في حركة المقاطعة، والتي كانت محورّية في حملة طرد إسرائيل من الفيفا، بالإحباط من أن الرجوب قد تابع القضية في المقام الأول، نظراً إلى شعورهم بأن السلطة الفلسطينية ليست مصمَّمة لمقاومة مجدية.37 أوضحت هذه الحالة استمرار ضعف الناشطين الحقوقيين والخوف المشروع من أن المشاركة المؤسّسية قد تُضعف بعض المبادرات. في النهاية، لاتزال السلطة الفلسطينية ملتزمة بحلٍّ تفاوضي للصراع، وإذا ماتم استئناف المحادثات بأي طريقة مجدية، ستكون منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية محرجتَين في الحفاظ على المعايير التي حدّدها الناشطون.

مخاطر الشعبوية

 يمكن لأفراد الطليعة الأخلاقية، بالتالي، أن يدّعوا بأنهم يتحدثون باسم أعداد متزايدة من الناس. الناشطون الجدد يشكّلون بعمق الشعور الوطني الفلسطيني، لكن ليس بطريقة هادفة، عن طريق تأسيس حركة اجتماعية منتشرة تنبذ الهياكل الهرمية، عبر التعبير عن ازدراء المؤسسات القائمة؛ والعمل من خلال التعبئة الشعبية والنشاط الشعبي لا من خلال القوانين والإجراءات؛ وإيجاد معايير وطنية واسعة وضغوط أخلاقية وليس المزيد من المنابر والوثائق الجامدة. وبوجود مجموعة من الحركات التي تعمل خارج إطار الهياكل الرسمية، سوف يجد الفلسطينيون صعوبة في وضع استراتيجيات واتخاذ قرارات تُلزم المشكّكين، أو التفاوض بصفة مسؤولة.

بالنسبة إلى حركة لا تروم بناء دولة، قد يكون ذلك ثمناً تبدو على استعداد لدفعه. في الوقت الراهن، يستفيد النهج الحقوقي من الغموض الحذر بشأن الوضع النهائي. إذ هو تمكّن من جذب قاعدة دعم واسعة عبر المطالبة بالالتزام بالحقوق، بدلاً من تبنّي موقف متشدّد بشأن الوضع النهائي. وبما أن أوساط النخبة والأوساط الشعبية متّفقة على أن التحرّر الوطني ليس في الأفق، يبدو التركيز على الحقوق المعترف بها دولياً أشبه بمسار عمل واضح على المدى القصير. ومع ذلك، فإن إجراء بعض الحسابات على الجبهة الاستراتيجية الكبرى أمرٌ لامفرّ منه، وستكون الطريقة التي يتعامل بها الناشطون الحقوقيون مع التوتّر الناجم عن ذلك حاسمة لبقائهم.

أصرّت اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل على أنها "لاتنحاز إلى طرف دون آخر في النقاش الدائر بين الفلسطينيين بشأن حلّ الدولة الواحدة [مقابل] حلّ الدولتين". وأكّدت المقابلات التي أُجريَت مع ناشطين في بيت لحم ونابلس ورام الله، على أن طرفَي الخيار ممثَّلان في صفوفهم.38 ولا تتّخذ أي جهة من الجهات المنظمة الرئيسة التي تقود الاحتجاجات الشعبية في الضفة الغربية، موقفاً نهائياً في النقاش بشأن حلّ الدولة الواحدة مقابل حلّ الدولتين. وعليه، يبدو بيان حركة "أوقفوا الجدار" حول هذا الموضوع نموذجياً، حيث جاء فيه: "لاتدعم حملة أوقفوا الجدار صراحة حلًّا ضد الحلّ آخر. ونحن نعتقد أن على نضالنا التركيز على الحصول على حقوقنا الإنسانية والوطنية. وفي إطار توافق الآراء بشأن إنجاز حقوقنا، فإن لدى أعضاء ومتطوّعي وأنصار حملة أوقفوا الجدار وجهات نظر مختلفة، وقد يحتفظون بها، حول أفضل الحلول في مايتعلق بإقامة الدولة".

 ظهرت التحدّيات المُرتقَبة التي تنتظر الناشطين الحقوقيين الذين يتحاشون رسمياً تبنّي استراتيجية تحرّر وطني، مع التظاهرة الاحتجاجية القصيرة التي نظّمها "ركّاب الحرية". هذه الاحتجاجات تأخذ اسمها ومصدر إلهامها من ناشطي الحقوق المدنية السود والبيض الذي ركبوا معاً في الحافلات عبر أنحاء الجنوب الأميركي لاختبار تقبّل العامّة للقوانين التي تحظّر التمييز على السفر بين الولايات. كان بعض الفلسطينيين قلقين من أن يكون هدف هذا العمل إنهاء سياسات العزل الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وليس تحرير الأرض التي تقوم عليها المستوطنات والطرق الموصلة إليها. مقارنة ركّاب الحرية، إذا مادُفعت إلى نهايتها المنطقية، وهنا المفارقة، تعني الاعتراف بحق المستوطنين في أن يكونوا حيث هم لكنها تعارض السياسات التمييزية التي تمنحهم معاملة تفضيلية. وإذا كان ركّاب الحرية يريدون إلغاء الفصل العنصري، فمن الواضح أنهم يشجّعون حلّ الدولة الواحدة. ذلك أن مقارنات الفصل العنصري تشير إلى الشيء نفسه. ويواجه ناشطو حركة المقاطعة أسئلة مماثلة في الخارج، حيث يستنتج الكثيرون أنهم يدعمون صراحة حلّ الدولة الواحدة. ولا يبدو أن الناشطين مهتمّون بالأمر، إلا أن الحركة واجهت صعوبة في جذب الملتزمين بحلّ الدولتين.

 بقدر مايمكنهم الزعم أنهم يمثّلون روحاً جديدة في المجتمع الفلسطيني، فقد تُهمّش الأحداث أفراد الطليعة الأخلاقية أنفسهم. منذ الانتفاضات العربية في العام 2011، تمكّن أفراد الطليعة الأخلاقية على نحو دوري من استقطاب المزيد من الاهتمام في المجتمع الفلسطيني، ونشر معايير جديدة للمقاومة تقوم على تغيير أشكال المقاطعة وفكّ الارتباط مع الدبلوماسية والسياسة الرسمية، وبطبيعة الحال، الاحتلال الإسرائيلي. بيد أن أعمال العنف التي اندلعت في خريف العام 2015، جعلت نهجهم يبدو أقلّ أهمية. فقد ردّت حركة المقاطعة، على سبيل المثال، على موجة العنف بإدانة "إسرائيل وجماعات المستوطنين الأصولية الإرهابية" التي "تهاجم الاحتجاجات الفلسطينية بوحشية، وتعدم الأطفال والشباب الفلسطينيين في الشارع".40 ويتجاهل بيان الحركة تكتيكياً الهجمات الفلسطينية على المدنيين الإسرائيليين، على الرغم من موقف الحركة الواضح المؤيِّد لمبدأ اللاعنف. ولايزال الناشطون الحقوقيون الآخرون صامتين على أسلوب الطعن، الأمر الذي يتفق مع وجهة النظر الفلسطينية السائدة التي تقول إن كل أشكال المقاومة تبقى على بساط البحث في مواجهة الاحتلال المستمر. أما الذين يستقطبون الاهتمام المحلّي والدولي بالهجمات الفردية العنيفة ضد الإسرائيليين، فهم يعملون حتى خارج حدود السياسة المنظمة، وقد سجّلوا نجاحات أكبر في إجبار القادة الرسميين على التفاعل معهم بدل أن يقودوهم.

 توضح هبّة العام 2015 بصورة مباشرة لماذا انعدام الاتصال بين الفلسطينيين ومؤسّساتهم يُعتبر نذير شؤم. ففي الماضي، زادت هذه النزعات احتمالات اندلاع أعمال العنف.

 ليست هذه المرّة الأولى التي يظهر فيها النشاط الشعبي الفلسطيني ويجبر القادة على المسارعة إلى الاحتفاظ بمواقعهم. فقد بدأت الانتفاضة الثانية في العام 2000 بسلسلة من المظاهرات والاشتباكات، التي تصاعدت لتتحول إلى موجة مديدة من العنف. بدأت الانتفاضة في ظلّ ظروف تحمل بعض أوجه الشبه بالمأزق الحالي: قيادة بدا أنها معزولة وملتزمة بعملية دبلوماسية بلا معنى، فضلاً عن مجموعة من التطوّرات المثيرة للقلق على المدى الطويل، والتي كانت تشير إلى أن الاحتلال الإسرائيلي ربما يغيّر أشكاله، لكنه لن ينتهي بأي طريقة مُجدية. ولكن في ذلك الوقت كانت هناك حركات مسلّحة مرتبطة بفصائل سياسية فلسطينية تقليدية - فتح وحماس بصورة رئيسة، إضافةً إلى جماعات أصغر - تدخّلت لتأكيد زعامتها على المستوى المحلي. وقد نسّقت تلك الفصائل مع بعضها أحياناً، إذ عملت هيئة القوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية، وهي كيان تأسّس قبل اندلاع الانتفاضة، في بعض المدن والبلدات الفلسطينية، للقيام بما لم تتمكّن القيادة العليا للسلطة الفلسطينية من فعله من حيث توجيه الانتفاضة. إلا أنه كان لدخول الجماعات المحلية المسلّحة المرتبطة بالفصائل تأثيران يعتبرهما الكثيرون خطأً فادحاً. فقد أدّى ذلك إلى مزايدات من جانب الجماعات المختلفة عندما حاول كلٌّ منها إظهار أنها أكثر فعالية في نشر العنف؛41 وجعل معظم الفلسطينيين متفرّجين، فيما كان يُفترض أن تكون انتفاضة شعبية. بالنسبة إلى الجيل الذي عاش خلال تلك السنوات، هذه ليست تجربة ينبغي تكرارها. من حيث المبدأ، ثمّة عدد قليل جداً من الفلسطينيين يتنازلون عن الحق في استخدام القوة، في إطار السعي إلى تحقيق مايرون أنه تحرّرهم، وما تتم مناقشته هو فعالية المقاومة وأشكالها. أما بالنسبة إلى أعضاء الطليعة الأخلاقية، فإن اهتمامهم بالتعبئة الشعبية وليس حساسيتهم، المفرطة هي التي تجعلهم ينظرون إلى مسار الانتفاضة الثانية باعتباره أمراً يجب تجنّبه.

 في هذا الصدد، تقدّم الانتفاضة الأولى نموذجاً أكثر إيجابية لمعظم الفلسطينيين المهتمّين بإحياء المقاومة. كانت تلك الموجة، التي بدأت في العام 1987 وتلاشت في أوائل تسعينيات القرن الماضي، أقلّ عسكرة بكثير من انتفاضة العقد الماضي. كانت هناك مجموعة من الإجراءات الشعبية، بما في ذلك الإضرابات والمظاهرات؛ وكان العنف رمزياً وذرائعياً في كثير من الأحيان (رمي الحجارة)؛ وقادت كل أنواع اللجان المنظِّمة والحركات الشعبية الجهود على المستوى المحلّي. لكن حتى الانتفاضة الأولى سبقتها عمليات تنظيم على مستوى القاعدة الشعبية من جانب الفصائل، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي ظلت تحتفظ بسلطة أخلاقية كبيرة، في حين اضطرّت إلى التفاعل مع الانتفاضة.

 إذا حدث وتجدّدت بعض أشكال المقاومة في ظلّ الظروف الراهنة، فمن الصعب التكهّن بهوية الطرف الذي سيتولّى إدارتها وتوجيها. بل ليس من الواضح من هو "الطرف" الذي سيكون مثار خلاف في موجة جديدة من النشاط. ربما يركب بعض كبار القادة المهمّشين الموجة في محاولة لتأكيد أهميتهم. وقد اقترح بعض القادة الفلسطينيين بالفعل تقديم بعض الدعم للهبّة. على سبيل المثال، أشاد رئيس اتحاد كرة القدم الفلسطيني جبريل الرجوب والرئيس السابق لجهاز الأمن الوقائي، بالمهاجمين المنفردين باعتبارهم أبطالاً وطنيين، قائلاً: "عندما ترى جندياً يهرب من رجل يحمل سكيناً في يده، أو حتى أي شيء في يده... يبدو واضحاً بأن شعور ذلك الجندي العنصري بالأمن قد تلاشى. نحن بحاجة إلى أن نرتفع إلى هذا المستوى من الفهم وترجمة ذلك إلى استراتيجية وطنية ذات أهداف واضحة".42 بيد أن أكثر مايثير القلق هو أن فصائل منظّمة قد تظهر من جديد سلوك المزايدات الذي شهدته الانتفاضة الثانية. وحذّر عباس من ذلك في لقاء مع قادة "التنظيم"، ودعا أعضاء حركة فتح إلى تجنّب التحريض على العنف.43 وألمح عباس نفسه إلى بعض التعاطف مع الموجة الجديدة من النشاط.

 إلا أن التهديد الحقيقي الذي يواجه الناشطون الحقوقيين الذين قاموا بمثل تلك المقاربات القوية منذ العام 2005، يكمن في أن الإجراءات الإسرائيلية القاسية قد تجعل التكتيكات اللاعنفية التي تعتمد على الجماهير تبدو ساذجة. وإذا ماكانت الطليعة الأخلاقية بارعة في توجيه المزاج العام، فإنه ليس من الواضح أن لديها المصلحة في، أو القدرة على، قيادة حركة رسمية.

 النتيجة قد لاتخدم الفلسطينيين تماماً، لكن في ظلّ الندرة في القيادة ووجود جيل جديد من الفلسطينيين يمدّ الناشطين الذين لايرون أفقاً سوى المقاومة الفعّالة، فإن مايحدث من تطوّرات قد لايلتزم بأي خطة أو استراتيجية واضحتَين.

مضاعفات دبلوماسية

 اضطرّ المدافعون عن عملية السلام بشكلٍ مطّرد خلال العقد الماضي إلى الاعتراف بالكثير من هذه المجموعة من الحقائق، والتي اعتُبر الكثير منها بديهياً على المستوى الشعبي لبعض الوقت. إذ يُصعب العثور على أي محلّل أو صانع قرار سياسي يؤمن باحتمال أن تنجح دبلوماسية حل الدولتين قريباً. ومع ذلك، أورد مؤيِّدو حلّ الدولتين، في الماضي، مجموعة قوية من الحجج في إطار دعم نوع من الجهود الدبلوماسية الخاصة بحلّ الدولتين، تقول إنه لايتم اقتراح أي بديل عملي، وإن الفشل في متابعة مثل هذه الدبلوماسية لايعبّر إلا عن يأسٍ أكثر عقماً حتى من الجهود الدبلوماسية.

 يبدو هؤلاء المؤيّدون لعملية السلام دقيقين في تشخيصهم، بيد أن علاجهم المقترح فاقم المرض في الواقع. صحيح أن بديل حلّ الدولتين، الذي تم طرحه في كثير من الأحيان، لم يحظَ بتأييد الغالبية ولم يقترن بأي استراتيجية بديلة. وصحيح أيضاً أن الإهمال غير المتعمّد للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني يبدو مستحيلاً على نحو مضاعف: فالإهمال بالكاد غير متعمّد إلا أنه يرسّخ الظلم القائم بعمق؛ وغالباً مايفرض الصراع نفسه على قادة العالم، من خلال تجلّياته العنيفة أحياناً. لقد دفعت دبلوماسية الدولتين العديد من هؤلاء القادة أنفسهم إلى التغاضي (وأحياناً إلى إنكار) التفسّخ المؤسّسي العميق والفساد في الجانب الفلسطيني، وخيبة أمل الجانبين تجاه الدبلوماسية، والمدى الذي وصلت إليه القيادة السياسية الإسرائيلية في رفض حلّ الدولتين. وهكذا، برز المظهر الزائف لعملية سلام لاتُقنع سوى الوسطاء بقدرتها على البقاء، في حين أن الاتجاهات الضارّة بشدّة في سياسة الصراع تُقحم السكان المتضرّرين في ترتيبات مجحفة وربما غير قابلة للتطبيق في نهاية المطاف. الإنكار بدأ ينحسر أخيراً، إلا أنه لم يتم اقتراح أي بديل حقيقي.

 ليس من المرجّح أن يحظى أي جهد للتوصّل إلى تسوية شاملة بالكثير من الاهتمام في الوقت الراهن. فعلى الجانب الإسرائيلي، تبدو القيادة الحالية صريحة أكثر فأكثر بشأن رفضها للإطار الدبلوماسي الذي ساد على مدى العقدَين الماضيَين. وعليه، فإن المهمة التي تقع على عاتق شركائها الدوليين تتمثّل في دعوتها إلى توفير بديل يعترف بالحقوق الفلسطينية.

 المجتمع الفلسطيني بحاجة إلى أن يعطى مجالاً لإعادة بناء هياكله السياسية في أعقاب تفكّك الهياكل القائمة. هذا في الأساس مشروع فلسطيني، غير أن الأجانب هم الذين يحدّدون إطار الجهود. في السابق، جادلت الأطراف الفاعلة الدولية بقوة كي يفي من يدّعون أنهم ممثلون للشعب الفلسطيني بشروط معينة. شملت هذه الشروط الأهداف (اضطرت الحركات لقبول إسرائيل) والوسائل (اضطرت الحركات لنبذ العنف). كان ثمّة منطق قوي في الإصرار على أن تتم أي تسوية على أساس وجود إسرائيل، وأن الطريق إلى الحلّ يمرّ عبر التفاوض. لكن بالنسبة إلى معظم الفلسطينيين، لم تحصل الحركات التي استوفت هذه الشروط على أي شيء في المقابل. وبالتالي، الأزمة المؤسّسية الحالية في السياسة الفلسطينية هي نتيجة مباشرة لفشل تلك الحركات في الوفاء بما وعدت به وهي حَظيت بسمعة بأنه جرى استلحاقها لتسهيل السيطرة الإسرائيلية. السؤال الحقيقي في السنوات المقبلة لايتعلق بالطرف الذي سيتعامل معه المجتمع، بل بما إذا كان الفلسطينيون سيتمكنون من التعامل مع بعضهم البعض واتّخاذ قرارات موثوقة ويُعتدّ بها.

ثمّة خطوات محدودة يمكن اتّخاذها في هذا الصدد لإعادة بناء هذه الهياكل الموثوقة. إذ تواجه الانتخابات الوطنية عراقيل سياسية لايمكن تخطّيها، غير أن الانتخابات المحليّة، أي تلك التي تكون مفتوحة وتنافسية حقاً، قد تنتج مجموعة من القادة السياسيين الذين لديهم قدر من السلطة الأخلاقية يفوق ما لدى حكم الشيوخ الحالي. لقد لاكت الألسن كل أنواع الأفكار التي جرى التطرّق إليها في المناقشات الفلسطينية. على سبيل المثال، تحدّث البعض حول إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها هيئة توحّد الفلسطينيين، لامجرّد أداة في يد فصائل محدّدة. وقد يكون إحياء المجلس الوطني الفلسطيني، برلمان المنفى الذي اجتمع لأول مرة في العام 1948 وعقد اجتماعات متفرّقة منذ ذلك الحين، المكان المناسب للتوصّل إلى نوع من التوافق في الآراء. جرى طرح هذه الفكرة في أوساط الفلسطينيين، لكن إذا كان المجلس يحمل أي بارقة أمل، فيجب أن تكون الهيئة التي يتمخّض عنها شيئاً آخر غير الأداة الطيّعة في يد فتح التي كانها في بعض الأحيان. كما لايمكنها أن تكون هيئة تتقاسم الفصائل الحالية مقاعدها قبل دخول القاعة. بدلاً من ذلك، سيتعيّن عليها أن تستقطب مجموعة متنوّعة حقاً من الأطراف الفاعلة، بما في ذلك من هم خارج الفصائل والطليعة الأخلاقية. لقد اتّضحت العقبات المحتملة لمثل هذا المسار في العام 2015، عندما استولى عباس نفسه فجأة على فكرة عقد المجلس الوطني الفلسطيني كجزء من محاولة لتهميش منافسيه، وتخلّص منها بسرعة عندما تبيّن له أنها لن تخدم هذا الغرض.

المطلوب من الأطراف الفاعلة الدولية، قبل كل شيء، تغيير الطريقة التي تنظر بها إلى المؤسّسات الفلسطينية. فقد تعاملت إسرائيل، من جانبها، مع المؤسّسات الفلسطينية كورقة مساومة محتملة: فهي تُمحض الاحترام ويُسمح لها بالتطوّر كأداة دبلوماسية وأمنية، لكن يتم إغلاقها في أوقات التوتّر أو عندما تتبنّى القيادة الإسرائيلية موقفاً أقل ودّاً تجاه الدبلوماسية. كانت النتائج التي ترتّبت على ذلك مدمّرة. قبل اتفاقات أوسلو، على سبيل المثال، ثبّتت مجموعة من المؤسّسات الفلسطينية القوية (غرفة التجارة؛ وبيت الشرق، الذي يعدّ نقطة أمامية لمنظمة التحرير الفلسطينية في المدينة بحكم الأمر الواقع44) الوجود الفلسطيني في القدس، بطريقة جعلتها بمثابة عاصمة ثقافية وحتى مدنية محدودة جداً بالنسبة إلى الفلسطينيين. وقد اضطرّت كل هذه الهيئات إلى إغلاق مقرّاتها (كجزء من سياسة فصل القدس عن الضفة الغربية وكعقوبة على الانتفاضة الثانية على حدٍّ سواء)، على الرغم من تعهّد إسرائيل في وقت سابق باحترام المؤسّسات القائمة. لايمكن رفع العلم الفلسطيني من بيت الشرق في وسط القدس الشرقية، بدلاً من ذلك، هناك هجمات بالسكاكين من سكان الضواحي الفلسطينية الأكثر إهمالاً في القدس.

 في بعض الأحيان، تُثمر الضغوط الأميركية والأوروبية اللطيفة على إسرائيل، فيُسمَح بتطوير المؤسّسات الفلسطينية. لكن النتيجة هي جعل كل خطوة تتم الموافقة عليها على مضض تبدو وكأنها تنازل. وغالباً ماتكون المؤسّسات التي يتم منحها مهلة هي تلك التي تستند إلى رؤية تكنوقراطية للسياسة الفلسطينية، وليس إلى رؤية اجتماعية وسياسية. وبالتالي، ليس من المستغرب أن تبتعد عنها الطليعة الأخلاقية وتتجنّبها.

قد يتعلّم المجتمع الدولي، بطريقة أو أخرى، السير على نهج الطليعة الأخلاقية. وبدلاً من تكرار الثقة في عملية السلام التي لاوجود فيها لمشاركين حقيقيين، ربما يكون أكثر منطقياً بالنسبة إلى الجهات الدولية الداعمة لحسم الصراع، العمل على تحديد الاتجاهات الإيجابية التي تستحق الدعم والتعرّف على الاتجاهات السلبية التي تستحق المقاومة، ووضع الأساس لحلول قد يتبنّاها قادة المستقبل.

أحد أوضح الاتجاهات التي تستأهل مقاومتها هو إفراغ الحياة المؤسّسية الفلسطينية من مضمونها. لن تكون معالجة تدهور الوضع على الأرض عن طريق عقد انتخابات جديدة، وإعادة فتح بيت الشرق، واستئناف اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني، أمراً سهلاً. إذ لايمكن للأطراف الفاعلة الدولية تصميم الهياكل الفلسطينية في أي حال. بيد أن عليها أن تُظهر قدراً أكبر من التسامح إزاء تطور الهياكل السياسية الفلسطينية. القيادات الحالية مألوفة، لكن طالما بقيت الحركات والمقاربات الحديثة خارج هياكل السياسة الرسمية، وطالما أن تلك الهياكل الرسمية لاتقدّم إلى الفلسطينيين سوى القليل، فلن تجد الأطراف الفاعلة الدولية مُحاوراً موثوقاً. وبدلاً من التظاهر بوجود مُحاور أو السعي إلى ابتكاره، من الأفضل أن توجِّه تلك الأطراف جهودها لتزويد السياسة الفلسطينية بالاحترام والحماية اللتين تحتاجهما لبناء هياكل تتحدّث بصوت وطني موحّد. إذ تظهر الصراعات الحالية في العراق وليبيا وسورية واليمن الفظائع المحلية والمضاعفات الدولية التي تنشأ عندما تتفكّك الدول. وإذا استمرّت الاتجاهات الحالية، فقد تُصبح فلسطين دولة فاشلة حتى قبل أن تصبح دولة حقيقية. ولن يكون الفلسطينيون هم الوحيدون الذين يدفعون ثمن هذا التطوّر.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً