العدد 4901 - السبت 06 فبراير 2016م الموافق 27 ربيع الثاني 1437هـ

أدونيس: الإنسان عندنا يولد ويتقدَّم ويموت داخل غرفة اسمها المعنى

عُمر المشاريع الإبداعية قصير في بيئاتنا... عودة إلى «ثقافات»...

علوي الهاشمي -عبدالقادر فيدوح - الشاعر السوري أدونيس
علوي الهاشمي -عبدالقادر فيدوح - الشاعر السوري أدونيس

تتقلَّص القائمة لو أردنا تذكُّر أسماء المجلات الشهرية أو الفصلية وحتى الصحف أو المشاريع التي انطلقت بكل رصانة وجدِّية عُرفت بها. تلك التي تخرج على القارئ بالمدهش والحِرَفي والفارق، ربما لشهور، وإذا توافر حُسْن حظ يمكن لها أن تستمر لبضع سنين؛ لكنها في النهاية ستجد طريقها إلى التوقُّف. اعتدْنا على ذلك لدرجة أننا بتْنا نعرف أدوار وتوقيت النهايات لأي منها.

لا يُراد للرصين والهادف والمُحْكم أن يستمر وسط رواج سلَع رخيصة، ومشاريع هابطة وظيفتها تكريس الإسفاف، وترويج القشْر. المشاريع الثقافية الرصينة تحتاج إلى بيئة تضع الإنسان على رأس أولوياتها. تنطلق من أجله، وتقدِّم له ما يرفعه عن الأرض ولو قليلاً. تبدع، تبتكر، تُجدِّد كي لا يصاب عقل الإنسان بالتكلُّس والتبلُّد. باختصار شديد: مثل تلك المشاريع أعمارها قصيرة في بيئاتنا العربية، الطويلة في قبضة استحكام رقابتها وتحكُّمها ولعبها بقضاء وقدر الإنسان.

وإذا استمرت مثل تلك المشاريع، تظل منافذ وصول القارئ العربي الذي يحترم عقله، إليها محدودة وضئيلة. لا قاعدة انتشار لها، وببساطة لأن القاعدة تم احتلالها من قبل مجلات الفضائح وصحف الإثارة، ومنابر الإسفاف. من بين تلك المشاريع الرصينة نتذكَّر فصلية «ثقافات»، التي كانت تصدر عن كلية الآداب بجامعة البحرين، وتوقَّفت حالياً عن الصدور، وصدر منها 25 عدداً آخرها في العام 2012، من دون أن ننسى فصلية «أوان» التي توقفت بدورها هي الأخرى. نضيء هنا جانباً من عددها التاسع لشتاء العام 2004؛ حيث التقت هيئة تحرير الفصلية الشاعر والمفكِّر العربي أدونيس، أثناء زيارة قام بها إلى البحرين، في حوار مفتوح تناول جملة من المفاهيم والموضوعات والإشكالات التي تعاني منها الثقافة العربية، والكتابة عموماً. الحديث عن التجربة كان حاضراً بامتياز بطبيعة تلك اللقاءات. في اللقاء المذكور أشار أدونيس إلى الإنسان في ظل التربية الدينية قائلاً، إن الإنسان يُولد وينمو ويتقدَّم وينشأ ويموت داخل غرفة اسمها المعنى. اللقاء مرَّ عليه أكثر من 11 عاماً، ولأهميته نعيد التذكير بأبرز ما ورد فيه من محاور وتناولات من قبال المفكِّر والشاعر أدونيس.

شارك في اللقاء كل من: علوي الهاشمي، سمير بن عمُّو، عبدالقادر فيدوح، عبدالحميد المحادين، وعبدالكريم حسن.

عبدالقادر فيدوح: أنت لا تُحيّي جمهورك، فهل هو تحوُّل منكم من باب تغييره بمتلقٍ آخر؟ أم هو ممارسة الذوق في تجديد دم اللغة؟ أمر آخر، هو أنك مصدوم على الدوام بنتاج المتلقِّي الأول؛ أي جمهورك، بمن فيهم النقَّاد، فهل تعتقد أن ذلك خطأ في المنهج، أم أنه خطأ في كيفية التلقِّي، اعتباراً منك أن الدراسات ما تزال مأخوذة بالمعنى، وبالبحث عن مقاصد الشاعر في النص؟

الجمهور: مشْهَد

أدونيس: قلتُ دائماً إنني في علاقتي مع الآخر لا أنظر إليه بوصفه جمهوراً أتحاور معه. لمفهوم الجمهور كما هو شائع أشكال من الوعي مختلفة ومتعدِّدة. والادِّعاء بأن هذه الأشكال تتوحَّد في شكل واحد ادِّعاء خاطئ. ويستحيل على الشاعر الحقيقي أن يُخاطب أو ينفذ إلى داخل جمهور من هذا النوع. يدخل الشاعر إلى الجمهور أو إلى نفسه وإلى عقله على المستوى السطحي حينما تكون هناك قضية مُشترَكة ويُخاطب الجمهور عبْر هذه القضية العامة المشتركة. فعندئذ لا يخاطبهم شعرياً بقدر ما يخاطبهم سياسياً أو اجتماعياً، أو ثقافياً، أو شيئاً من هذا القبيل. الخطاب الشعري أو الحوار الشعري هو حوار بين ذات وذات أخرى. وهو حوار قائم على جملة من المركَّبات الدقيقة: الذوقية والنفسية والثقافية والفنية، وهذا يلزمه جو حميم جداً حتى تشتعل شرارة اللقاء بين الشاعر ومن يتلقَّى الشعر. أحياناً الجمهور بالمعنى الكمِّي، أحاول أن استفيد منه لا أن أفيده لأنني أعرف أنني لن أفيده أبداً، إنما أحاول أن أدرسه وأنظر إليه عبْر ردود فعله أو استجابته أو عبْر حركات وجهه لكي أدرس المشْهد أمامي. الجمهور بالنسبة إليَّ مشْهد أكثير مما هو طرف في الحوار. طبعاً يمكن أن يكون في هذا تعميم؛ إذ من حيث المبدأ، يمكن أن يكون هناك جمهور نوعي. إنما سيكون قليل العدد، ومتى تجاوز عدد الجمهور حدَّاً معيَّناً لا يعود اللقاء لقاء شعرياً. حتى في جلساتنا اليومية العادية فإن اللقاء إذا كان بين شخصين يأخذ مستوى يميِّزه عن مستوى اللقاء بين أربعة أشخاص. فكلما زاد العدد تغيَّر مستوى الجلسة. هذا بالخبرة اليومية العادية.

علوي الهاشمي: الغريب أن هذا الوعي الذي تُشحن به شخصية أدونيس هو وعي مبكِّر جداً حتى في بواكير شعره، وإن المرْء ليتذكَّر عبْر قراءته أن أدونيس عندما كان ينشر أولى قصائده في صحيفة «القيثارة» في نهاية الأربعينات في اللاذقية فإن أول بدء هذه القصائد كان تكثيفاً عالياً للدلالة إلى حدِّ الغموض، فكيف تفسِّر هذا الوعي الفني المبكِّر حتى منذ بواكير الشاعر التي تعوَّدنا أن تكون غنائية غير مكتظَّة بهذا الوعي المكثَّف على المستوى النقدي، وأنت اليوم تطرحه بعد هذه السنوات الطويلة على مدى أكثر من خمسين سنة، وكأنَّك تتحدَّث عن هذه القصائد أو البواكير؟

المناخ التأمُّلي

أدونيس: أنا عشت في وسط ثقافي متعمِّق في النصوص الدينية ذات الطابع السري أو الأسراري من جهة، وهو مرتبط بنظرة للإسلام لا نظرة فقهية، وإنما نظرة داخلية تجريبية قائمة على تجربة روحية عميقة وليس على تأويل تشريعي أو فقهي للنص.

ثانياً هناك التجربة الصوفية. فأنا نشأت في مناخ كان الكتاب الصوفي خبزاً آخر. قرأت لكتَّاب متصوِّفين وأنا في سن الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري. فمثلما نشأت واعياً - لا أعرف الطفولة التي يتحدَّث عنها الناس في الكتب التي عاشوها - إذ منذ ولادتي رأيت نفسي في الحقل أزرع وأحصد، رأيت نفسي رجلاً أمارس مهمَّات الرجال الكبار. وهكذا منذ أن تعرَّفت على القراءة والكتابة وجدت نفسي في مناخ تأمُّلي مرتبط بعالم ديني تساؤلي؛ لأنه غامض، ومرتبط أيضاً بالصوفية، وبالأبعاد النفسية الروحية المرتبطة بهذا المناخ الصوفي. وربما كان هذا ما يُفسِّر أني كتبت منذ البداية شعراً لا فصل فيه بين ما نسمِّيه بالحسِّ وبين ما نسمِّيه بالتعقُّل؛ أعني الفكر، والحس. فالقلب والعقل وحدة لا تتجزَّأ، ولا نستطيع في الشعر أن نفْصل الحسَّ أو الحساسية عن العقل.

عبدالقادر فيدوح: أعود معك إلى الجمهور النوعي؛ إلى المتلقِّي القارئ. ذكرتَ مرة أن هذا القارئ مازال مأخوذاً بالمعنى وبالبحث عن مقاصد الشاعر في النص ما رأيكم تحديداً؟

المعنى المسبق والتربية الدينية

أدونيس: أظنُّ أننا لا نزال في النقد وفي الفكر في المجتمع العربي نعيش في سياق ما مضى؛ في سياق الموروث. وكما كان أسلافنا من القرَّاء يسألون ما معنى هذا البيت؟ ما معنى هذه القصيدة؟ لا يزال قارئنا اليوم يطرح السؤال نفسه: ما معنى هذه القصيدة؟ في حين أن متذوِّق الشعر الحقيقي لا يمكن أن يطرح هذا السؤال على قصيدة، وإنما يقرأ القصيدة ويستخلص هو نفسه المعنى الذي يراه فيها؛ لأن القصيدة في المقام الأخير ليس لها معنى. معنى القصيدة في قراءتها. وبقدر ما تتيح تعدُّد القراءات يكون هناك تعدُّد في المعاني. ليس هناك معنى مسبق. المعنى المسبق أخذناه من التربية الدينية. كل شيء في التربية الدينية مسبق. الإنسان يولد وينمو ويتقدَّم وينشأ ويموت داخل غرفة اسمها المعنى؛ في إطار معنى اسمه الجواب النهائي، ولذلك يعرف سلفاً كيف يصوم وكيف يزكِّي وكيف يحجُّ... ويعرف أكثر. يعرف ماذا سيحدث له بعد الموت؛ إذا كان على الصراط المستقيم سيدخل الجنة أو كان على الصراط غير المستقيم فسيدخل النار، ويعرف أيضاً ماذا ينتظره في الجنة وماذا ينتظره في النار. ليس لدى المسلم المؤمن أي سؤال كياني حول الوجود أو حول المصير؛ لأن كل هذه الأسئلة إجاباتها مسبقة. بهذه العقلية نحن نسأل دائماً ما معنى هذا البيت؟ وما معنى هذه اللوحة؟ مثل هذه الأسئلة ضد الشعر، وضد النقد أيضاً، وضد التذوُّق.

عبدالقادر فيدوح: هناك مسالة تتعلَّق بالجانب الثقافي، أو بجانب الكينونة العربية. في تقديرك ما الذي أضعناه، وبالمقابل ما الذي حقَّقناه، وكيف لنا أن نشعل نار الحب ثانية؟ ومن من الدِّفاء من الأجيال في تقديرك يحظى بمستقبل له شأنه؟

نحن موتى بالمعنى الحضاري

أدونيس: لا أدَّعي أن لديَّ أجوبة. أكره الأجوبة. ولو كان لديَّ أجوبة فلن تكن هناك مشكلة. وهذا يحتِّم علينا أن نعرف كيف نطرح الأسئلة؟ ماذا فقدنا؟ تستطيع أن تقول فقدنا كل شيء، وتستطيع أن تقول لم نفقد شيئاً. إذا نظرنا إلى العرب على مستوى المؤسسة؛ على مستوى النظام، فكل شيء موجود. الخلافة قائمة، والدِّين الإسلامي مُهيمن، والمساجد تعمر الأرض، والناس تصلِّي وتحجُّ، وتزكِّي، كما في الماضي. كل شيء موجود والتعليم قائم، وكل شيء متواصل. ولكن إذا سئلت السؤال نفسه على مستوى الحضور العربي كونياً: أعني لو تصوَّرنا أن العالم اليوم اجتمع حول مائدة مستديرة لبحث شئون المستقبل، وأن حول هذه المائدة المستديرة العقول الأوروبية والصينية واليابانية والأميركية، فماذا لدى العربي لكي يقدِّمه على هذه المائدة المستديرة في بناء المستقبل. حينئذ نقول فقدنا كل شيء. إذا أردت أن تحاسب العرب من هذا المنظور فلا تستطيع أن تفهم وضعنا. انظر إلى التناقض الآخر: إذا أخذت العرب الذين قلت إنهم فقدوا كل شيء ترى فيهم على المستوى الفردي مهندسين كباراً وأطباء كباراً وعلماء كباراً، من علم الذرَّة إلى علم الفضاء وفي جميع الميادين، لكن أين يعيش هؤلاء؟ إنهم يعيشون في مؤسسات غربية تتيح لعبقريتهم أن تتفتح، وإذاً فإن الحكْم هنا ليس حكماً على الأفراد، وإنما حكم على المؤسسة وعلى النظام. إن الإنسان ليحار بالفعل. فوضع العرب اليوم، هو أنهم أصحاب طاقات هائلة، وموقع استراتيجي. فالبحر المتوسط بحر عربي من الأسكندرونة إلى جبل طارق. والعرب مئتان وسبعون إلى ثلاثمئة مليون شخص. وأرض العرب مهد البشرية، وفعلاً هم مهد البشرية. هذا واقع وليس بياناً. ثروات هائلة. ومع ذلك نبدو وكأننا لا وجود لنا. كيف نستطيع أن نفسِّر ذلك؟

أنا أقول لابد من أن نحاول أن نكون شجعاناً وصادقين مع أنفسنا، ونرى التاريخ وعبْره. فالشعوب تموت والحضارات تنقرض. السومريون ماتوا، والفراعنة ماتوا، واليونان على عظمتهم ماتوا - إبداعياً بالمعنى الحضاري - جميع الحضارات الكبرى في التاريخ، وجميع شعوبها التي أنتجتها ماتت بالمعنى الإبداعي. وأنا أعتقد أن العرب ماتوا بهذا المعنى. نحن موتى بالمعنى الحضاري الإبداعي إلى درجة أن هناك فاصلاً كاملاً بين ما نسمِّيه المؤسسة وما نسمِّيه البشر.

اللقاء مسَّ مناطق ومحاور لا يمكن أن تمرَّ من دون محاسبة، اشتغالاً على التأويل، في ما ذهب إليه أدونيس بشكل غير مباشر، بفعل الرقابة التي تهيمن على كل شيء، قبل أن تهيمن على البشر. أطروحاته الصادمة كانت مثار تناول في الفصلية التي لم تعد قائمة. رجوعنا إلى الأعداد الأولى منها يضعنا أمام المادة التي تزخر بها من حيث إدهاشها وحِرَفيتها والفارق الذي تصنعه.

فقط نُذكِّر: إن المشاريع الثقافية والإبداعية التي تتصدَّى لتلك النوعية من الأطروحات والتناول، تظل أعمارها قصيرة في بيئاتنا العربية، الطويلة في قبضة رقابتها واستحكامها وتحكُّمها ولعبها أحياناً بقضاء وقدر الإنسان.

إنه الغياب الذي سنظل معتادين عليه. إنه الحضور الجميل الذي يفرحنا، لكنه فرح ممزوج بالخشية والقلق، من أن الغياب هو المآل المُرّ.

يُشار إلى أن «ثقافات» كان يرأس مجلس إدارتها في ذلك الوقت رئيسة جامعة البحرين، مريم بنت حسن آل خليفة، فيما يرأس تحريرها الشاعر، الناقد والأكاديمي علوي الهاشمي، ويتولَّى مسئولية نائب رئيس التحرير منذر عيَّاشي، فيما كان يتولَّى إدارة التحرير الأكاديمي عبدالحميد المحادين. وتشكَّلت هيئة التحرير وقتها من كل من: إبراهيم عبدالله غلوم، أحمد المنَّاعي، بسيوني عبدالرحمن، سميرة بن عمُّو، عبدالقادر فيدوح، وعبدالكريم حسن.

أما الهيئة الاستشارية فتتكوَّن من: أدونيس، أندريه ميكيل، أهداف سويف، باقر النجَّار، بيدرو مارتنيز مونتا فيز، بيل آشكروفت، جابر عصفور، خالدة سعيد، شيرلي لم، صلاح فضل، ضياء العزَّاوي، عبدالسلام المسدِّي، عبدالفتاح كليطو، عزالدِّين إسماعيل، كمال أبوديب، وكارمن رويز فيلا-سانتي.

غلاف العدد التاسع من «ثقافات»
غلاف العدد التاسع من «ثقافات»




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً